الميزان في تفسير القرآن

سورة المائدة

1 - 3

تابع
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (3)

فضرب منها ما يترتب على الشيء عند وجود جميع أجزائه - إن كان له أجزاء - بحيث لو فقد شيئا من أجزائه أو شرائطه لم يترتب عليه ذلك الأمر كالصوم فإنه يفسد إذا أخل بالإمساك في بعض النهار، و يسمى كون الشيء على هذا الوصف بالتمام، قال تعالى: «ثم أتموا الصيام إلى الليل»: البقرة: 178 و قال: «و تمت كلمة ربك صدقا و عدلا»: الأنعام: 151.

و ضرب آخر: الأثر الذي يترتب على الشيء من غير توقف على حصول جميع أجزائه، بل أثر المجموع كمجموع آثار الأجزاء، فكلما وجد جزء ترتب عليه من الأثر ما هو بحسبه، و لو وجد الجميع ترتب عليه كل الأثر المطلوب منه، قال تعالى: «فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج و سبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة»: البقرة: 169 و قال: «و لتكملوا العدة»: البقرة: 158 فإن هذا العدد يترتب الأثر على بعضه كما يترتب على كله، و يقال: تم لفلان أمره و كمل عقله: و لا يقال تم عقله و كمل أمره.

و أما الفرق بين الإكمال و التكميل، و كذا بين الإتمام و التتميم فإنما هو الفرق بين بابي الإفعال و التفعيل، و هو أن الإفعال بحسب الأصل يدل على الدفعة و التفعيل على التدريج، و إن كان التوسع الكلامي أو التطور اللغوي ربما يتصرف في البابين بتحويلهما إلى ما يبعد من مجرى المجرد أو من أصلهما كالإحسان و التحسين، و الإصداق و التصديق، و الإمداد و التمديد و الإفراط و التفريط، و غير ذلك، فإنما هي معان طرأت بحسب خصوصيات الموارد ثم تمكنت في اللفظ بالاستعمال.

و ينتج ما تقدم أن قوله: «أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي» يفيد أن المراد بالدين هو مجموع المعارف و الأحكام المشرعة و قد أضيف إلى عددها اليوم شيء و إن النعمة أيا ما كانت أمر معنوي واحد كأنه كان ناقصا غير ذي أثر فتمم و ترتب عليه الأثر المتوقع منه.

و النعمة بناء نوع و هي ما يلائم طبع الشيء من غير امتناعه منه، و الأشياء و إن كانت بحسب وقوعها في نظام التدبير متصلة مرتبطة متلائما بعضها مع بعض، و أكثرها أو جميعها نعم إذا أضيفت إلى بعض آخر مفروض كما قال تعالى: «و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها»: إبراهيم: 34 و قال: «و أسبغ عليكم نعمه ظاهرة و باطنة»: لقمان: 20.

إلا أنه تعالى وصف بعضها بالشر و الخسة و اللعب و اللهو و أوصاف أخر غير ممدوحة كما قال: «و لا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما و لهم عذاب مهين»: آل عمران: 187، و قال: «و ما هذه الحيوة الدنيا إلا لهو و لعب و إن الدار الآخرة لهي الحيوان»: العنكبوت: 64، و قال: «لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم و بئس المهاد»: آل عمران: 179 إلى غير ذلك.

و الآيات تدل على أن هذه الأشياء المعدودة نعما إنما تكون نعمة إذا وافقت الغرض الإلهي من خلقتها لأجل الإنسان فإنها إنما خلقت لتكون إمدادا إلهيا للإنسان يتصرف فيها في سبيل سعادته الحقيقية، و هي القرب منه سبحانه بالعبودية و الخضوع للربوبية، قال تعالى: «و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون»: الذاريات: 56.

فكل ما تصرف فيه الإنسان للسلوك به إلى حضرة القرب من الله و ابتغاء مرضاته فهو نعمة، و إن انعكس الأمر عاد نقمة في حقه، فالأشياء في نفسها عزل، و إنما هي نعمة لاشتمالها على روح العبودية، و دخولها من حيث التصرف المذكور تحت ولاية الله التي هي تدبير الربوبية لشئون العبد، و لازمه أن النعمة بالحقيقة هي الولاية الإلهية، و أن الشيء إنما يصير نعمة إذا كان مشتملا على شيء منها، قال تعالى: «الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور»: البقرة: 275، و قال تعالى: «ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا و أن الكافرين لا مولى لهم»: محمد: 11 و قال في حق رسوله: «فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما»: النساء: 65 إلى غير ذلك.

فالإسلام و هو مجموع ما نزل من عند الله سبحانه ليعبده به عباده دين، و هو من جهة اشتماله - من حيث العمل به - على ولاية الله و ولاية رسوله و أولياء الأمر بعده نعمة.

و لا يتم ولاية الله سبحانه أي تدبيره بالدين لأمور عباده إلا بولاية رسوله، و لا ولاية رسوله إلا بولاية أولي الأمر من بعده، و هي تدبيرهم لأمور الأمة الدينية بإذن من الله قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم»: النساء: 59 و قد مر الكلام في معنى الآية، و قال: «إنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا الذين يقيمون الصلوة و يؤتون الزكوة و هم راكعون»: المائدة: 55 و سيجيء الكلام في معنى الآية إن شاء الله تعالى.

فمحصل معنى الآية: اليوم - و هو اليوم الذي يئس فيه الذين كفروا من دينكم - أكملت لكم مجموع المعارف الدينية التي أنزلتها إليكم بفرض الولاية، و أتممت عليكم نعمتي و هي الولاية التي هي إدارة أمور الدين و تدبيرها تدبيرا إلهيا، فإنها كانت إلى اليوم ولاية الله و رسوله، و هي أنما تكفي ما دام الوحي ينزل، و لا تكفي لما بعد ذلك من زمان انقطاع الوحي، و لا رسول بين الناس يحمي دين الله و يذب عنه بل من الواجب أن ينصب من يقوم بذلك، و هو ولي الأمر بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) القيم على أمور الدين و الأمة.

فالولاية مشروعة واحدة، كانت ناقصة غير تامة حتى إذا تمت بنصب ولي الأمر بعد النبي.

و إذا كمل الدين في تشريعه، و تمت نعمة الولاية فقد رضيت لكم من حيث الدين الإسلام الذي هو دين التوحيد الذي لا يعبد فيه إلا الله و لا يطاع فيه - و الطاعة عبادة - إلا الله و من أمر بطاعته من رسول أو ولي.

فالآية تنبىء عن أن المؤمنين اليوم في أمن بعد خوفهم، و أن الله رضي لهم أن يتدينوا بالإسلام الذي هو دين التوحيد فعليهم أن يعبدوه و لا يشركوا به شيئا بطاعة غير الله أو من أمر بطاعته.

و إذا تدبرت قوله تعالى: «وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم و ليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم و ليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا و من كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون»: النور: 55 ثم طبقت فقرات الآية على فقرات قوله تعالى: «اليوم يئس الذين كفروا من دينكم» إلخ وجدت آية سورة المائدة من مصاديق إنجاز الوعد الذي يشتمل عليه آية سورة النور على أن يكون قوله: «يعبدونني لا يشركون بي شيئا» مسوقا سوق الغاية كما ربما يشعر به قوله: «و من كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون».

و سورة النور قبل المائدة نزولا كما يدل عليه اشتمالها على قصة الإفك و آية الجد و آية الحجاب و غير ذلك.

قوله تعالى: «فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم» المخمصة هي المجاعة، و التجانف هو التمايل من الجنف بالجيم و هو ميل القدمين إلى الخارج مقابل الحنف بالحاء الذي هو ميلهما إلى الداخل.

و في سياق الآية دلالة أولا على أن الحكم حكم ثانوي اضطراري، و ثانيا على أن التجويز و الإباحة مقدر بمقدار يرتفع به الاضطرار و يسكن به ألم الجوع، و ثالثا على أن صفة المغفرة و مثلها الرحمة كما تتعلق بالمعاصي المستوجبة للعقاب كذلك يصح أن تتعلق بمنشئها، و هو الحكم الذي يستتبع مخالفته تحقق عنوان المعصية الذي يستتبع العقاب.

بحث علمي في فصول ثلاثة

1 - العقائد في أكل اللحم:

لا ريب أن الإنسان كسائر الحيوان و النبات مجهز بجهاز التغذي يجذب به إلى نفسه من الأجزاء المادية ما يمكنه أن يعمل فيه ما ينضم بذلك إلى بدنه و ينحفظ به بقاؤه، فلا مانع له بحسب الطبع من أكل ما يقبل الإزدراد و البلع إلا أن يمتنع منه لتضرر أو تنفر.

أما التضرر فهو كان يجد المأكول يضر ببدنه ضرا جسمانيا لمسمومية و نحوها فيمتنع عندئذ عن الأكل، أو يجد الأكل يضر ضرا معنويا كالمحرمات التي في الأديان و الشرائع المختلفة، و هذا القسم امتناع عن الأكل فكري.

و أما التنفر فهو الاستقذار الذي يمتنع معه الطبع عن القرب منه كما أن الإنسان لا يأكل مدفوع نفسه لاستقذاره إياه، و قد شوهد ذلك في بعض الأطفال و المجانين، و يلحق بذلك ما يستند إلى عوامل اعتقادية كالمذهب أو السنن المختلفة الرائجة في المجتمعات المتنوعة مثل أن المسلمين يستقذرون لحم الخنزير، و النصارى يستطيبونه، و يتغذى الغربيون من أنواع الحيوانات أجناسا كثيرة يستقذرها الشرقيون كالسرطان و الضفدع و الفأر و غيرها، و هذا النوع من الامتناع امتناع بالطبع الثاني و القريحة المكتسبة.

فتبين أن الإنسان في التغذي باللحوم على طرائق مختلفة ذات عرض عريض من الاسترسال المطلق إلى الامتناع، و أن استباحته ما استباح منها اتباع للطبع كما أن امتناعه عما يمتنع عنه أنما هو عن فكر أو طبع ثانوي.

و قد حرمت سنة بوذا أكل لحوم الحيوانات عامة، و هذا تفريط يقابله في جانب الإفراط ما كان دائرا بين أقوام متوحشين من إفريقية و غيرها إنهم كانوا يأكلون أنواع اللحوم حتى لحم الإنسان.

و قد كانت العرب تأكل لحوم الأنعام و غيرها من الحيوان حتى أمثال الفأر و الوزغ، و تأكل من الأنعام ما قتلته بذبح و نحوه، و تأكل غير ذلك كالميتة بجميع أقسامها كالمنخنقة و الموقوذة و المتردية و النطيحة و ما أكل السبع، و كان القائل منهم يقول: ما لكم تأكلون مما قتلتموه و لا تأكلون مما قتله الله؟! كما ربما يتفوه بمثله اليوم كثيرون؟ يقول قائلهم: ما الفارق بين اللحم و اللحم إذا لم يتضرر به بدن الإنسان و لو بعلاج طبي فنى فجهاز التغذي لا يفرق بين هذا و ذاك.

و كانت العرب أيضا تأكل الدم، كانوا يملئون المعى من الدم و يشوونه و يطعمونه الضيف، و كانوا إذا أجدبوا جرحوا إبلهم بالنصال و شربوا ما ينزل من الدم، و أكل الدم رائج اليوم بين كثير من الأمم غير المسلمة.

و أهل الصين من الوثنية أوسع منهم سنة، فهم - على ما ينقل - يأكلون أصناف الحيوان حتى الكلب و الهر و حتى الديدان و الأصداف و سائر الحشرات.

و قد أخذ الإسلام في ذلك طريقا وسطا فأباح من اللحوم ما تستطيعه الطباع المعتدلة من الإنسان، ثم فسره في ذوات الأربع بالبهائم كالضأن و المعز و البقر و الإبل على كراهية في بعضها كالفرس و الحمار، و في الطير - بغير الجوارح - مما له حوصلة و دفيف و لا مخلب له، و في حيوان البحر ببعض أنواع السمك على التفصيل المذكور في كتب الفقه.

ثم حرم دماءها و كل ميتة منها و ما لم يذك بالإهلال به لله عز اسمه، و الغرض في ذلك أن تحيا سنة الفطرة، و هي إقبال الإنسان على أصل أكل اللحم، و يحترم الفكر الصحيح و الطبع المستقيم اللذين يمتنعان من تجويز ما فيه الضرر نوعا، و تجويز ما يستقذر و يتنفر منه.

2 - كيف أمر بقتل الحيوان و الرحمة تأباه؟

ربما يسأل السائل فيقول إن الحيوان ذو روح شاعرة بما يشعر به الإنسان من ألم العذاب و مرارة الفناء و الموت و غريزة حب الذات التي تبعثنا إلى الحذر من كل مكروه و الفرار من ألم العذاب و الموت تستدعي الرحمة لغيرنا من أفراد النوع لأنه يؤلمهم ما يؤلمنا، و يشق عليهم ما يشق علينا، و النفوس سواء.

و هذا القياس جار بعينه في سائر أنواع الحيوان، فكيف يسوغ لنا أن نعذبهم بما نتعذب به، و نبدل لهم حلاوة الحياة من مرارة الموت، و نحرمهم نعمة البقاء التي هي أشرف نعمة؟ و الله سبحانه أرحم الراحمين فكيف يسع رحمته أن يأمر بقتل حيوان ليلتذ به إنسان و هما جميعا في أنهما خلقه سواء؟.

و الجواب عنه أنه من تحكيم العواطف على الحقائق و التشريع إنما يتبع المصالح الحقيقية دون العواطف الوهمية.

توضيح ذلك أنك إذا تتبعت الموجودات التي تحت مشاهدتك بالميسور مما عندك وجدتها في تكونها و بقائها تابعة لناموس التحول، فما من شيء إلا و في إمكانه أن يتحول إلى آخر، و أن يتحول الآخر إليه بغير واسطة أو بواسطة، لا يوجد واحد إلا و يعدم آخر، و لا يبقى هذا إلا و يفني ذاك، فعالم المادة عالم التبديل، و التبدل و إن شئت فقل: عالم الآكل و المأكول.

فالمركبات الأرضية تأكل الأرض بضمها إلى أنفسها و تصويرها بصورة تناسبها أو تختص بها ثم الأرض تأكلها و تفنيها.

ثم النبات يتغذى بالأرض و يستنشق الهواء ثم الأرض تأكله و تجزئه إلى أجزائه الأصلية و عناصره الأولية، و لا يزال أحدهما يراجع الآخر.

ثم الحيوان يتغذى بالنبات و الماء و يستنشق الهواء، و بعض أنواعه يتغذى ببعض كالسباع تأكل لحوم غيرها بالاصطياد، و جوارح الطير تأكل أمثال الحمام و العصافير لا يسعها بحسب جهاز التغذي الذي يخصها إلا ذلك، و هي تتغذى بالحبوب و أمثال الذباب و البق و البعوض و هي تتغذى بدم الإنسان و سائر الحيوان و نحوه، ثم الأرض تأكل الجميع.

فنظام التكوين و ناموس الخلقة الذي له الحكومة المطلقة المتبعة على الموجودات هو الذي وضع حكم التغذي باللحوم و نحوها، ثم هدى أجزاء الوجود إلى ذلك، و هو الذي سوى الإنسان تسوية صالحة للتغذي بالحيوان و النبات جميعا.

و في مقدم جهازه الغذائي أسنانه المنضودة نضدا صالحا للقطع و الكسر و النهش و الطحن من ثنايا و رباعيات و أنياب و طواحن، فلا هو مثل الغنم و البقر من الأنعام لا تستطيع قطعا و نهشا، و لا هو كالسباع لا تستطيع طحنا و مضغا.

ثم القوة الذائقة المعدة في فمه التي تستلذ طعم اللحوم ثم الشهوة المودعة في سائر أعضاء هضمه جميع هذه تستطيب اللحوم و تشتهيها.

كل ذلك هداية تكوينية و إباحة من مؤتمن الخلقة، و هل يمكن الفرق بين الهداية التكوينية، و إباحة العمل المهدي إليه بتسليم أحدهما و إنكار الآخر؟.

و الإسلام دين فطري لا هم له إلا إحياء آثار الفطرة التي أعفتها الجهالة الإنسانية، فلا مناص من أن يستباح به ما تهدي إليه الخلقة و تقضي به الفطرة.

و هو كما يحيي بالتشريع هذا الحكم الفطري يحيي أحكاما أخرى وضعها واضع التكوين، و هو ما تقدم ذكره من الموانع من الاسترسال في حكم التغذي أعني حكم العقل بوجوب اجتناب ما فيه ضرر جسماني أو معنوي من اللحوم، و حكم الإحساسات و العواطف الباطنية بالتحذر و الامتناع عما يستقذره و يتنفر منه الطباع المستقيمة، و هذان الحكمان أيضا ينتهي أصولهما إلى تصرف من التكوين، و قد اعتبرهما الإسلام فحرم ما يضر نماء الجسم، و حرم ما يضر بمصالح المجتمع الإنساني، مثل ما أهل به لغير الله، و ما اكتسب من طريق الميسر و الاستقسام بالأزلام و نحو ذلك، و حرم الخبائث التي تستقذرها الطباع.

و أما حديث الرحمة المانعة من التعذيب و القتل فلا شك أن الرحمة موهبة لطيفة تكوينية أودعت في فطرة الإنسان و كثير مما اعتبرنا حاله من الحيوان، إلا أن التكوين لم يوجدها لتحكم في الأمور حكومة مطلقة و تطاع طاعة مطلقة، فالتكوين نفسه لا يستعمل الرحمة استعمالا مطلقا، و لو كان ذلك لم يوجد في دار الوجود أثر من الآلام و الأسقام و المصائب و أنواع العذاب.

ثم الرحمة الإنسانية في نفسها ليست خلقا فاضلا على الإطلاق كالعدل، و لو كان كذلك لم يحسن أن نؤاخذ ظالما على ظلمه أو نجازي مجرما على جرمه و لا أن نقابل عدوانا بعدوان و فيه هلاك الأرض و من عليها.

و مع ذلك لم يهمل الإسلام أمر الرحمة بما أنها من مواهب التكوين، فأمر بنشر الرحمة عموما، و نهى عن زجر الحيوان في القتل، و نهى عن قطع أعضاء الحيوان المذبوح و سلخه قبل زهاق روحه - و من هذا الباب تحريم المنخنقة و الموقوذة - و نهى عن قتل الحيوان و آخر ينظر إليه، و وضع للتذكية أرفق الأحكام بالحيوان المذبوح و أمر بعرض الماء عليه و نحو ذلك مما يوجد تفصيله في كتب الفقه.

و مع ذلك كله الإسلام دين التعقل لا دين العاطفة فلا يقدم حكم العاطفة على الأحكام المصلحة لنظام المجتمع الإنساني و لا يعتبر منه إلا ما اعتبره العقل، و مرجع ذلك إلى اتباع حكم العقل.

و أما حديث الرحمة الإلهية و أنه تعالى أرحم الراحمين، فهو تعالى غير متصف بالرحمة بمعنى رقة القلب أو التأثر الشعوري الخاص الباعث للراحم على التلطف بالمرحوم، فإن ذلك صفة جسمانية مادية تعالى عن ذلك علوا كبيرا، بل معناها إفاضته تعالى الخير على مستحقه بمقدار ما يستحقه، و لذلك ربما كان ما نعده عذابا رحمة منه تعالى و بالعكس، فليس من الجائز في الحكمة أن يبطل مصلحة من مصالح التدبير في التشريع اتباعا لما تقترحه عاطفة الرحمة الكاذبة التي فينا، أو يساهل في جعل الشرائع محاذية للواقعيات.

فتبين من جميع ما مر أن الإسلام يحاكي في تجويز أكل اللحوم و في القيود التي قيد بها الإباحة و الشرائط التي اشترطها جميعا أمر الفطرة: فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم!.

3 - لما ذا بني الإسلام على التذكية؟

و هذا سؤال آخر يتفرع على السؤال المتقدم، و هو أنا سلمنا أن أكل اللحوم مما تبيحه الفطرة و الخلقة فهلا اقتصر في ذلك بما يحصل على الصدفة و نحوها بأن يقتصر في اللحوم بما يهيئه الموت العارض حتف الأنف، فيجمع في ذلك بين حكم التكوين بالجواز، و حكم الرحمة بالإمساك عن تعذيب الحيوان و زجره بالقتل أو الذبح من غير أن يعدل عن ذلك إلى التذكية و الذبح؟.

و قد تبين الجواب عنه مما تقدم في الفصل الثاني، فإن الرحمة بهذا المعنى غير واجب الاتباع بل اتباعه يفضي إلى إبطال أحكام الحقائق.

و قد عرفت أن الإسلام مع ذلك لم يأل جهدا في الأمر بإعمال الرحمة قدر ما يمكن في هذا الباب حفظا لهذه الملكة اللطيفة بين النوع.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي