تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان |
سورة المائدة |
108 |
((ذَلِكَ )) الذي تقدّم من كيفية إخلاف الوصيّين بعد الصلاة ((أَدْنَى ))، أي أقرب ((أَن يَأْتُواْ))، أي يأتي الوصيّان ((بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا )) فإنّ اليمين رادعة لكثير من الناس عن الكذب ((أَوْ يَخَافُواْ )) إذا علموا بأنهم إن حلفوا كاذبين ((أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ )) إلى أولياء الميت فيحلفان على كذبهما ويكون الحق لهما دون الوصيّبن ((بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ )) فيجمعوا بين فضيحة الكذب والسرقة وفضيحة الحلف الكاذب ((وَاتَّقُوا اللّهَ )) فلا تحلفوا به كذباً ((وَاسْمَعُواْ )) هذه الموعظة ((وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)) الذين يفسقون بالخروج عن طاعته وارتكاب معصيته، فإنه لا يلطف بهم اللطف الخاص بالمطيعين . |
||
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان |
سورة المائدة |
109 |
قد سبق جانب من قصص اليهود والنصارى، ويأتي هنا جانب آخر من قصة النصارى في ثوب بديع ((يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ ))، أي إتقوا يوم الحشر الذي يجمع الله فيه الأنبياء المرسلين جميعاً ((فَيَقُولُ )) لهم ((مَاذَا أُجِبْتُمْ ))، أي بماذا أجابكم الأمم هل بالإيمان والتصديق أم بالكفر والتكذيب ؟ ((قَالُواْ ))، أي قالت الرُسُل في جوابه سبحانه ((لاَ عِلْمَ )) كامل ((لَنَا )) فإنّا لم نَرَ منهم إلا ظواهر أما ألبواطن والخفايا فأنت العالم بها وحدك ((إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ))، أي الأشياء الغائبة عن الحواس، وقصد الآية هنا الإجمال أو ذلك في موقف من مواقف القيامة إذ لها مواقف كل موقف منها يخالف الموقف الآخر في الخصوصيات والمزايا -هذا جواب الأنبياء بصورة عامة- ، أما جواب عيسى (عليه السلام) ففيه تفصيل وسيأتي بعد آيات من قصة عيسى (عليه السلام) . |
||
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان |
سورة المائدة |
110 |
((إِذْ قَالَ اللّهُ ))، أي يقول، فإنّ المضارع المتحقّق الوقوع ينزل منزلة الماضي، ومحل (إذ) نصب على (إتّقوا)، أي إتّقوا زمان يقول الله : ياعيسى، أو على تقدير (إذكُر) ((يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ)) وذَكَرَ (ابن مريم) إستنكاراً لقول النصارى أنه إبن الله (( اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ )) والمراد بالنعمة جِنسها، لا نعمة واحدة، ومعنى ذِكر النعمة شُكرها، والإتيان بما يستحق المنعم بها، ومن المعلوم أنّ النعمة على الوالدة بالعفاف والطهارة وغيرهما من أعظم النِعَم على الولد، فهي مما تستحق الشكر، ثم فسّر سبحانه بعض نعمه بقوله ((إِذْ أَيَّدتُّكَ ))، أي قوّيتك ونصرتك ((بِرُوحِ الْقُدُسِ ))، أي الروح المنزّه عن الأدران، وهو جبرئيل (عليه السلام) أو مَلَك آخر، أو روح منفوخة فيه تحفظه عن الزلل، فإنّ الأنبياء والأئمة مزوّدون بروح طاهرة تحفظهم وتُرشدهم بأمر الله سبحانه ((تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ ))، أي في حال كونك صبيّاً، فإنه (عليه السلام) قال (أنّي عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً وجعلني مُباركاً أين ما كنتُ وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمتُ حيّا) .. إلخ ((وَكَهْلاً ))، أي في حال كونك كهلاً، وهو قبل سن الشيخوخة، وهذا من تتمة الكلام، يعني أنك تكلّم الناس في الحالين، لا كسائر الناس الذين لا يتكلّمون إلا في حالة واحدة ((وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ ))، أي جِنس الكتاب المُزل من السماء، فإنه كانت كُتب نازلة على الأنبياء السابقين، وقد كان (عليه السلام) تعلّمها بتعليم الله سبحانه ((وَالْحِكْمَةَ )) وهي علم الأشياء على واقعها فإنّ معرفة الكتب غير معرفة الحكمة، وأن يكون الإنسان بحيث يعلم الأمور ومواضعها ((وَالتَّوْرَاةَ )) وهي الكتاب المنزَل على موسى (عليه السلام) ((وَالإِنجِيلَ )) وهو الكتاب المنزَل على المسيح نفسه (عليه السلام) ((وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ))، أي على قالب الطير وهيكله، ومن المعلوم أنّ هذا النحو من التجسيم لم يكن حراماً لأنه كان بأمر الله وليس للتحريم عقلياً حتى لا يمكن التخصيص فيه ((بِإِذْنِي )) ولعلّ بإذني إشارة إلى ذلك، أو إنّ الخلق إنما كان بقدرته، إذ لو لم يأذن الله لم يتمكن أحد من خلق شيء وصنعه ((فَتَنفُخُ فِيهَا ))، أي في تلك الهيئة التي خلقتها، ولا يخفى أنّ الروح جسم لطيف فيمكن أن ينفخ المسيح (عليه السلام) بإذن الله ذلك الجسم في الهيكل المصنوع ((فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي ))، أي طيراً حقيقياً كسائر الطيور بأمري وإرادتي ((وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ))، أي تُشفي الذي وُلد أعمى ((وَالأَبْرَصَ )) الذي به البَرَص ((بِإِذْنِي ))، أي بأمري وإرادتي ((وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى )) من القبور فتجعلهم أحياءاً ((بِإِذْنِي )) وإرادتي فإنك تدعوني لهذه الحوائج وإنما أستجيب دعائك ((وَإِذْ كَفَفْتُ ))، أي منعتُ ((بَنِي إِسْرَائِيلَ )) اليهود ((عَنكَ )) فلم يقدروا على قتلك ((إِذْ جِئْتَهُمْ ))، أي حين أتيت إليهم ((بِالْبَيِّنَاتِ )) ، أي بالأدلة القاطعة على صحة نبوّتك وصدق كلامك ((فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ )) بك وجحدوك ولم يؤمنوا بما جئتَ به ((مِنْهُمْ ))، أي من بني إسرائيل ((إِنْ هَذَا ))، أي ما هذا الذي نرى من خوارقك ((إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ))، أي سحر واضح . |
||
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان |
سورة المائدة |
111 |
((وَ)) اذكُر نعمتي عليكَ ياعيسى بن مريم (عليه السلام) ((إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ )) الوحي هنا بمعنى الإلقاء إليهم ولو كان ذلك بواسطة نفس عيسى أو يحيى (عليهما السلام)، أو المراد الإلهام إلى قلوبهم بواسطة العقل الذي هو حُجّة باطنة، والمراد بالحواريّين أصحابه الخاصون به، وسَبَقَ وجه تسميتهم بالحواري ((أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي )) المسيح، فإنّ الإيمان بالله نعمة على المسيح، كما إنّ تصديقه (عليه السلام) نعمة عليه، إذ الأمران موجبان لقُربه (عليه السلام) إلى الله سبحانه حيث تمكّن من إهدائهم بالإضافة إلى لزوم الإحترام الظاهري ((قَالُوَاْ ))، أي قال الحواريون ((آمَنَّا ))، أي بالله ورسوله ((وَاشْهَدْ )) ياربنا، أو المراد الإستشهاد بعيسى (عليه السلام) ((بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ)) لله فيما يأمر وينهي . |
||
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان |
سورة المائدة |
112 |
واذكر نعمتي عليك ياعيسى بن مريم (عليه السلام) حينما جرى الحوار بينك وبين الحواريّين حول إنزال الله المائدة فطلبتَ من الله فاستجاب لك وأنزل المائدة ((إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ )) ولعلّهم ذكروا اللفظ بتأديب وإنما نَقَلَ سبحانه المعنى، أو كان مثل هذا الخطاب من دستور عيسى (عليه السلام) نفسه، أو كان لديهم متعارفاً ((هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء )) أما المراد الإستطاعة بحسب القدرة، وكان ذلك حين عدم كمال إيمانهم، وأما المراد الإستطاعة بحسب الإرادة، أي هل يريد ؟ ، وكان سؤال إستعطاف، والمائدة مشتقّة من ماد يميد إذا تحرّك، فهي فاعلة سمي بها الخوان لأنه يميد ويتحرك من مكان لمكان آخر وقت البسط والجمع، وقد أرادوا إتيان عيسى بهذه المعجزة ليروها ويلمسوها ويأكلوها، فلا يبقى محل ريب لهم في صدق الدعوة، ولعلّ ذلك كان قبل سائر الآيات من إبراء الأكمه والأبرص، ولذا ((قَالَ )) لهم عيسى (عليه السلام) ((اتَّقُواْ اللّهَ ))، أي خافوه فلا تسئلوا سؤال جاهل ذي ريب ((إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)) بالله بماله من صفات الكمال التي منها الإستطاعة على مثل هذا الأمر المهين . |
||