تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان |
سورة المائدة |
113 |
((قَالُواْ ))، أي قال الحواريّون ((نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا ))، أي من المائدة ((وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا )) أما الإطمئنان بأصل المبدء وأنك رسوله، أو الإطمئنان بالرؤية كما قال الخليل (عليه السلام) (قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) ((وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا )) بما أخبرت من الشريعة، وهذا محتمل أيضاً لإرادة العلم العياني ولإرادة أصل العلم لكونهم في شك ((وَنَكُونَ عَلَيْهَا ))، أي على المائدة ((مِنَ الشَّاهِدِينَ)) الذين يشهدون لمن غاب بأنه نزلت المائدة ورأيناها عيناً . |
||
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان |
سورة المائدة |
114 |
((قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ )) داعياً الله سبحانه ((اللَّهُمَّ رَبَّنَا )) وكان الإتيان بلفظ الرب للمبالغة في الدعاء، أنت الذي ربّيتنا فتفضّل علينا بتتميم التربية ((أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء ))، أي خواناً عليه طعام يأتي من طرف العلو ((تَكُونُ )) المائدة ((لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا ))، أي نتّخذ ذلك اليوم الذي تنزل المائدة عيداً، فإنّ الأعياد في الأمم إنما هي بمناسبة ذكريات إنتصارهم، ومن المعلوم أنّ تكريم جماعة بنزول المائدة عليهم من قِبَل الله سبحانه من أعظم الذكريات التي ينبغي أن يُحتفل بها، أول القوم الذين نزلت عليهم، وآخر القوم أي مَن يأتي من بعدهم من أبنائهم ((وَآيَةً مِّنكَ ))، أي دليلاً وعلامة من قِبَلك على التوحيد والنبوّة وما أشبههما ((وَارْزُقْنَا )) من المائدة ((وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)) فإنك تتفضّل بالنِعَم كرماً وجوداً ولا تريد عوضها شيئاً تنتفع به بخلاف الناس إذا أُعطوا شيئاً فإنهم يريدون بدلاً يصل إليهم . |
||
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان |
سورة المائدة |
115 |
((قَالَ اللّهُ )) سبحانه في جواب عيسى (عليه السلام) ((إِنِّي مُنَزِّلُهَا ))، أي أُنزّل المائدة ((عَلَيْكُمْ)) أيها السائلون لها ((فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ ))، أي بعد إنزالها عليكم ((فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا )) شديداً ((لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ))، أي لا أعذّب مثل ذلك العذاب أحداً من العصاة الذين هم في ذلك الزمان، فإنّ إطلاق (العالمين) غالباً على عالَمي زمان واحد، والسبب في شدة العذاب أنهم كفروا بعدما آمنوا وطلبوا المعجزة وقَبِلَ منهم ولُبّي طلبهم، ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) أنّ المائدة كانت تنزل عليهم فيجتمعون عليها ويأكلون منها ثم ترتفع فقال كبرائهم ومترفوهم لا ندع سفلتنا يأكلون منها معنا فرفع الله المائدة ببغيهم ومُسخوا قِرَدة وخنازير . |
||
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان |
سورة المائدة |
116 |
تقدّم أنّ الله سبحانه يسأل الأنبياء عن جواب الأمم لهم، ثم ذُكر جملة من معاجز عيسى المقتضية لإيمان الناس به إيماناً عادلاً، لكن النصارى رفعوه فوق مقامه إذ جعلوه إلهاً، ولذا يتوجّه السؤال إليه (عليه السلام) في مشهد القيامة حول هذا الإفتراء الذي نُسب إليه (عليه السلام) حتى يظهر تبرّيه من ذلك، فيكون المجال فسيحاً أمام عقاب من إدّعى ذلك كذباً وبهتاناً، في يوم يجمع الله الرُسُل فيقول : ماذا أُجِبتُم ؟ ((وَإِذْ قَالَ اللّهُ ))، أي يقول، فإنّ المستقبل المتحقّق وقوعه ينزل منزلة الماضي ((يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ ))، أي هل أنتم على نحو الإستفهام التوبيخي لمن إدّعى ذلك، والتقريري بالنفي بالنسبة إلى المسيح (عليه السلام) ((قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ ))، أي سوى الله، لا إنهم لا يعتقدون بإلوهيّة الله تعالى ((قَالَ )) عيسى (عليه السلام) في جواب ذلك : أسبّحك ((سُبْحَانَكَ ))، أي أنزّهك يارب تنزيهاً عن مثل هذا الكلام ((مَا يَكُونُ لِي ))، أي ليس يجوز بالنسبة إليّ ((أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ )) فآمرَ الناس باتّخاذي إلهاً ((إِن كُنتُ قُلْتُهُ ))، أي قلتُ للناس إتّخذوني وأُمّي إلهين ((فَقَدْ عَلِمْتَهُ )) لكن لا تعلم ذلك -على نحو السالبة بانتفاء الموضوع- فلستُ قلته ((تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي ))، أي سريرتي فكيف بأقوالي العلانية ((وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ )) وهذا على جهة المقابلة، وإلا فليس لله سبحانه نفس، وقوله (ولا أعلم) لبيان ضراعته (عليه السلام) إليه سبحانه وإلا فلم يكن الكلام مسوقاً إليه ((إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ))، أي تعلم كلّ غيب عن الحواس، ولستُ أنا كذلك فأنت تعلم أني لم أقل (إتّخذوني وأُمّي إلهين) للناس . |
||
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان |
سورة المائدة |
117 |
ثم بيّن (عليه السلام) ما قاله لقومه زيادة في التبرّي من هذا القول المختلق إليه ((مَا قُلْتُ لَهُمْ))، أي للناس ((إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ )) من الإقرار لك بالعبودية، فقد قلتُ لهم ((أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ )) فأنا وأنتم متساوون في عبادة الله وكونه ربنا وخالقنا ((وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا )) شاهداً أرى أقوالهم وأعمالهم ((مَّا دُمْتُ )) كنتُ ((فِيهِمْ ))، أي في وسطهم ((فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي ))، أي أخذتني مستوفى كاملاً إلى السماء -وقد سبق وجه ذلك- ((كُنتَ أَنتَ )) ياإلهي ((الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ))، أي المراقب لهم فيما يعملون ويعتقدون ويقولون ((وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ))، أي شاهد حاضر . |
||
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان |
سورة المائدة |
118 |
إنّ مبدء القوم هو أنت (ربي وربكم) ومعادهم بيدك وحدك ((إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ )) لا يقدرون على رفع شيء من أنفسهم ولا يقدر غيرك على نجاتهم ((وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ)) القادر ((الْحَكِيمُ)) الذي لا يفعل شيئاً إلا طبق الحكمة والمصلحة، وفي هذا تسليم الأمر لمالكه وتفويض الأمر إلى مدبّره، وهذا التعبير لا ينافي علم عيسى (عليه السلام) بأنهم معذّبون فإنه كما يقول أحدنا لمال أمر أنه بيدك إن شئت فعلت وإن شئت تركت حتى مع علمنا أنه يفعل أحدهما لا محالة، هذا بالإضافة إلى أنّ بعضهم وهم القاصرون قابلون للغفران . |
||
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان |
سورة المائدة |
119 |
((قَالَ اللّهُ )) بعد ذلك الحوار في مشهد القيامة ((هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ )) فلا الكاذب الغالي القائل المسيح إبن الله أو هو الله، ينفعه كذبه، ولا الكاذب الغالي القائل بأنّ المسيح بشر غير نبي ينفعه كذبه، أنه يوم الصدق، وينفع الصادق صدقه ((لَهُمْ ))، أي للصادقين ((جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ))، أي تحت قصورها وأشجارها ((الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا )) مما لا نهاية له ((رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ )) بما عملوا في دار الدنيا ((وَرَضُواْ عَنْهُ )) بما أعطاهم من الجزاء والثواب ((ذَلِكَ )) المقام الذي حصلوه عملوا ((الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) الذي لا فوز بعده أعظم منه . |
||