تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان

سورة المائدة

104

((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ))، أي لهؤلاء الذين يحرّمون أشياء إفتراءاً ((تَعَالَوْاْ ))، أي هلمّوا ((إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ )) من الأحكام في القرآن ((وَإِلَى الرَّسُولِ )) كي تصدّقوه وتتّبعوا سنّته ((قَالُواْ )) في الجواب ((حَسْبُنَا ))، أي يكفينا لمصالحنا ((مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا )) من العقائد والأقوال والأعمال والعادات، وهنا يسأل سبحانه سؤال إنكار وتعجب بقوله ((أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا )) من الحق والباطل ((وَلاَ يَهْتَدُونَ)) إلى الحق، أي فهل يتّبعونهم ولو كانوا جهّالاً ضلّالاً ؟! .

تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان

سورة المائدة

105

ولما بيّن سبحانه أحوال الكفار وأنهم ضالّون أمر المسلمين باتباع الحق وأنهم لا يضرّهم ضلال من ضلّ حينما كانوا هم مهتدين ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ )) هو إسم فعل بمعنى إلزم واحفظ، أي إحفظوا ((أَنفُسَكُمْ )) عن الضلال والإحراف ((لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ )) من الناس ((إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ))، أي إذا كنتم مهتدين، ومن المعلوم أنّ من شروط الإهتداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإرشاد وسائر الواجبات التي هي من هذا القبيل ((إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ )) أيها الناس ((جَمِيعًا )) فإنّ مصير الضال والمهتدي إليه سبحانه ((فَيُنَبِّئُكُم ))، أي يُخبركم ((بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) من الأعمال الحسنة أو القبيحة، وليس كالدنيا يختلط الحابل بالنابل فتُؤخذون أنتم بذنوب الضالين إشتباهاً وتعمّداً أو يُشتبه أمر الضالّين فلا يجازون بالعقاب .

تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان

سورة المائدة

106

ثم تعرّض سبحانه لبيان تشريع جديد وَرَدَ في قصة خاصة يرجع إلى سنّ بعض الأحكام بعدما فَرِغَ من بعض أقسام الحلال والحرام، فروي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّ ثلاثة نفر خرجوا من المدينة تجّاراً إلى الشام تميم بن أوس الداري وأخوه عدي وهما نصرانيان وابن أبي مارية مولى عمرو بن العاص السهمي وكان مسلماً حتى إذا كانوا ببعض الطريق مَرِضَ إبن مارية فكتب وصية بيده ودسّها في متاعه وأوصى إليهما ودفع المال إليهما وقال : أبلِغا هذا أهلي، فلما مات فتحا المتاع وأخذا ما أعجبهما منه ثم رجعا بالمال إلى الورثة، فلما فتّش القوم المال فقدوا بعض ما كان قد خرج به صاحبهم، فنظروا إلى الوصية فوجدو المال فيها تاماً فكلّموا تميماً وصاحبه فقالا : لا علم لنا به وما دفعه إلينا أبلغناه كما هو، فرفعوا أمرهم إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فنزلت الآية -وستأتي تتمة القصة- ((يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ )) مرفوع بالإبتداء خبره (إثنان)، أي إنّ الشهادة المعتبرة شرعاً فيما بينكم شهادة نفرين ((إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ )) بأن ظهرت عليه آثار الموت ((حِينَ الْوَصِيَّةِ ))، أي في وقت الوصية ((اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ ))، أي رجلان عادلان من المسلمين ((أَوْ آخَرَانِ ))، أي شخصان آخران لتحمّل الشهادة ((مِنْ غَيْرِكُمْ ))، أي غير المسلمين، واو هنا للترتيب لا للتخيير ((إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ ))، أي سافرتم ولم تجدوا مسلمين للإشهاد على الوصية فاشهدوا نفرين آخرين ((فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ )) بأن ظهرت علائمه، والجملة الشرطية لتقيّد قوله (آخران) فإنّ إشهادهما مشروط بالضرب في الأرض، وهذا من باب المورد، وإلا فالمعيار عدم وجود مسلمين، وإن كان في الحضر، فإذا تحمّلا الشهادة وأرادا الإدلاء بها فهو بهذه الكيفية : ((تَحْبِسُونَهُمَا ))، أي تقفونهما ((مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ ))، أي صلاة العصر وذلك لاجتماع الناس وتكاثرهم في ذلك الوقت، ولعله أردع للكذب، إذ الإجتماع مما يسبّب الهيبة في قلب المدلي للشهادة ((فَيُقْسِمَانِ))، أي الشاهدان غير المسلمين ((بِاللّهِ )) وهذا دليل على أنّ الشاهد يجب أن يكون معترفاً بالله كأهل الكتاب ((إِنِ ارْتَبْتُمْ ))، أي شككتم في شهادتما واحتملتم التبديل والتغيير والتزييف في الأمر، وهذا شرط للقَسَم، أي إنهما يُقسِمان في حال شككتم وإلا فيدليان بالشهادة بدون القَسَم ((لاَ نَشْتَرِي بِهِ ))، أي بما ندلي من الشهادة ((ثَمَنًا )) وهذا هو المقسَم به، فلا نغيّر الشهادة ولا نبدّل ولا نزيّف الواقع إبتغاء تحصيل ثمن، أي مال ((وَلَوْ كَانَ )) المشهود له ((ذَا قُرْبَى ))، أي من أقربائنا، وخصّص بالذَكَر لأنّ الناس دائماً يميلون إلى أقربائهم فيشهدون بالباطل لنفعهم، وهذا كالتأكيد وإلا فليس هنا مشهوداً له، والمعنى إنّا لا ندلي شهادة باطلة حتى لأقربائنا ((وَلاَ نَكْتُمُ ))، أي لا نُخفي ((شَهَادَةَ اللّهِ ))، أي الشهادة التي أمَرَنا الله بأدائها، والأوصاف تعظيمية ((إِنَّا إِذًا )) لو كتمنا شهادة الله ((لَّمِنَ الآثِمِينَ))، أي العاصين، وحاصل الحُكُم أنّ الإنسان إذا أراد أن يوصي فعليه أن يشهد على وصيته شاهدين مسلمين عادلين، فإن كان في سفر وظهرت عليه إمارات الموت ولم يكن هناك مسلمون لتحمّل الشهادة، يشهد على وصيّته شاهدين كتابيين وتُقبل شهادتهما بدون اليمين إن لم يشكّ الوارث بهما، أما إذا شكّ بهما واحتمل أنهما يكذبان في الشهادة فالحاكم الشرعي يُحضرهما بعد صلاة العصر ويُحلّفهما أولاً بهذا الحلف : والله إنّا لا نبتغي بالشهادة مالاً ولا نبدّل الشهادة حتى لأقربائنا ولا نكتم الشهادة التي ألزمها الله إيماناً ولو فعلنا ذلك لكُنّا آثمين، وبعد أداء هذا القَسَم أو شبهه في المعنى يُدليان بشهادتهما حول الوصية وتُقبل شهادتهما حينئذٍ .

تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان

سورة المائدة

107

ولما نزلت الآية الأولى صلّى رسول الله صلاة العصر ودعا بتميم وعدي فاستحلفهما عند المنبر بالله ما قبضنا غير هذا ولا كتمناه، فخلّى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سبيلهما، ثم إطّلعوا على إناء من فضة منقوش بذهب وقلادة من جوهر معهما من مال الميت، فقال أولياء الميت : هذا من متاع الميت، فقال النصرانيان إشتريناه منه ونسينا أن نُخبركم، فرفعوا أمرهما إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فنزل قوله (فإن عُثِرَ) فقام رجلان من أوليا ءالميت عمرو بن العاص والمطلب ابن أبي وداعة فحَلَفا بالله أنّ النصرانيين خانا وكذّبا فدفع الإناء إلى أولياء الميت، وبعد مدة أسلم تميم الدارمي فكان يقول : صَدَقَ الله وصَدَقَ رسوله أنا أخذتُ الإناء فأتوب إلى الله وأستغفره ((فَإِنْ عُثِرَ )) يُقال : عَثَرَ الرجل على الشيء، إذا إطّلع، فعُثِرَ بالمجهول بمعنى ظهر ((عَلَى أَنَّهُمَا ))، أي الوصيّين غير المسلمين ((اسْتَحَقَّا ))، أي إستوجبا ((إِثْمًا ))، أي ذنباً بأن إدّعى الأولياء أنهما كذّبا في اليمين والشهادة بل خانا الوصية ((فَـ)) شاهدان ((آخَرَانِ )) مسلمان ((يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا ))، أي مقام غير المسلمين ((مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ ))، أي من أولياء الميت الذين إستحقّت عليهما الوصية، وكان المال لهم ((الأَوْلَيَانِ )) تثنية أولى، بدل من قوله "آخران"، أي يقوم شاهدان كل واحد منهما أولى بالميت، أي من أقربائه وذي ولايته، وهذا ينقضان شهادة الوصيّين الكاذبين غير المسلمين ((فَيُقْسِمَانِ ))، أي وليّا الميت ((بِاللّهِ لَشَهَادَتُنَا )) نحن أولياء الميت -في تكذيب الوصيّين- ((أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا ))، أي من شهادة الوصيين الكاذبين، وكلمة (أحقّ) جُرّدت من معنى التفضيل -كما سبق- ((وَمَا اعْتَدَيْنَا ))، أي ما تجاوزنا الحق بل نطلب مال الميت ((إِنَّا إِذًا )) لو إعتدينا كُنّا ((لَّمِنَ الظَّالِمِينَ)) لنفوسنا حيث قَسَمنا كذباً، وإذا حَلَفَ وليّان للميت كذلك نَقَضَ حلف الوصيّين وأُخذ المال منهما وأُعطي إلى وليّ الميت .

العودة إلى القائمة

التالي