الميزان في تفسير القرآن

سورة المائدة

57 - 66

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاؤُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (62) لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ (66)

بيان

الآيات تنهى عن اتخاذ المستهزءين بالله و آياته من أهل الكتاب و الكفار أولياء و تعد أمورا من مساوي صفاتهم و نقضهم مواثيق الله و عهوده و ما يلحق بها بما يناسب غرض السورة الحث على حفظ العهود و المواثيق و ذم نقضها.

و كأنها ذات سياق متصل واحد و إن كان من الجائز أن يكون لبعض أجزائها سبب مستقل من حيث النزول.

قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم» «إلخ» قال الراغب: الهزء مزح في خفية، و قد يقال لما هو كالمزح انتهى، و قال: و لعب فلان إذا كان فعله غير قاصد به مقصدا صحيحا، يلعب لعبا، انتهى، و إنما يتخذ الشيء هزؤا و يستهزء به إذا اتخذ به على وصف لا يعتنى بأمره اعتناء جد لإظهار أنه مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، و كذا الشيء يلعب به إذا كان مما لا يتخذ لواحد من الأغراض الصحيحة العقلائية إلا أن يتخذ لبعض الشئون غير الحقيقية فالهزؤ بالدين و اللعب به إنما هما لإظهار أنه لا يعدل إلا بعض الأغراض الباطلة غير الصحيحة و غير الجدية، و لو قدروه دينا حقا أو قدروا أن مشرعه و الداعي إليه و المؤمنين به ذووا أقدام جد و صدق، و احترموا له و لهم مكانهم لما وضعوه ذاك الموضع فاتخاذهم الدين هزؤا و لعبا قضاء منهم بأن ليس له من الواقعية و المكانة الحقيقية شيء إلا أن يؤخذ به ليمزح به أو ليلعب به لعبا.

و من هنا يظهر أولا: أن ذكر اتخاذهم الدين هزؤا و لعبا في وصف من نهي عن ولايتهم إنما هو للإشارة إلى علة النهي فإن الولاية التي من لوازمها الامتزاج الروحي و التصرف في الشئون النفسية و الاجتماعية لا يلائم استهزاء الولي و لعبة بما يقدسه وليه و يحترمه و يراه أعز من كل شيء حتى من نفسه فمن الواجب أن لا يتخذ من هذا شأنه وليا، و لا يلقي أزمة التصرف في الروح و الجسم إليه.

و ثانيا: ما في اتخاذ وصف الإيمان في الخطاب في قوله: «يا أيها الذين آمنوا» من المناسبة لمقابلته بقوله: «الذين اتخذوا دينكم هزوا و لعبا» و كذلك ما في إضافة الدين إليهم في قوله: «دينكم».

و ثالثا: أن قوله: «و اتقوا الله إن كنتم مؤمنين» بمنزلة التأكيد لقوله: لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا و لعبا» إلخ، بتكراره بلفظ أعم و أشمل فإن المؤمن و هو الآخذ بعروة الإيمان لا معنى لأن يرضى بالهزء و اللعب بما آمن به فهؤلاء إن كانوا متلبسين بالإيمان - أي كان الدين لهم دينا - لم يكن لهم بد من تقوى الله في أمرهم أي عدم اتخاذهم أولياء.

و من المحتمل أن يكون قوله: «و اتقوا الله إن كنتم مؤمنين» إشارة إلى ما ذكره تعالى من نحو قوله قبيل آيات: «و من يتولهم منكم فإنه منهم» و المعنى: و اتقوا الله في اتخاذهم أولياء إن لم تكونوا منهم، و المعنى الأول لعله أظهر.

قوله تعالى: «و إذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا و لعبا» إلخ تحقيق لما ذكر أنهم يتخذون دين الذين آمنوا هزوا و لعبا، و المراد بالنداء إلى الصلاة الأذان المشروع في الإسلام قبل الصلوات المفروضة اليومية، و لم يذكر الأذان في القرآن الكريم إلا في هذا الموضع - كما قيل -.

و الضمير في قوله «اتخذوها» راجع إلى الصلاة أو إلى المصدر المفهوم من قوله: «إذا ناديتم أعني المناداة، و يجوز في الضمير العائد إلى المصدر التذكير و التأنيث، و قوله: «ذلك بأنهم قوم لا يعقلون» تذييل يجري مجرى الجواب عن فعلهم و بيان أن صدور هذا الفعل أعني اتخاذ الصلاة أو الأذان هزوا و لعبا منهم إنما هو لكونهم قوما لا يعقلون فلا يسعهم أن يتحققوا ما في هذه الأركان و الأعمال العبادية الدينية من حقيقة العبودية و فوائد القرب من الله، و جماع سعادة الحياة في الدنيا و العقبى.

قوله تعالى: «قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله» إلى آخر الآية قال الراغب في مفردات القرآن: نقمت الشيء بالكسر و نقمته بالفتح إذا أنكرته إما باللسان و إما بالعقوبة، قال تعالى: «و ما نقموا إلا أن أغناهم الله، و ما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله، هل تنقمون منا» الآية و النقمة: العقوبة قال تعالى: «فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم» انتهى.

فمعنى قوله: «هل تنقمون منا إلا أن آمنا» «إلخ»: هل تنكرون أو تكرهون منا إلا هذا الذي تشاهدونه و هو أنا آمنا بالله و ما أنزله و إنكم فاسقون؟ نظير قول القائل: هل تكره مني إلا أني عفيف و أنك فاجر، و هل تنكر مني إلا أني غني و أنك فقير؟ إلى غير ذلك من موارد المقابلة و الإزدواج فالمعنى: هل تنكرون منا إلا أنا مؤمنون و أن أكثركم فاسقون.

و ربما قيل: إن قوله: «و أن أكثركم فاسقون» بتقدير لام التعليل و المعنى: هل تنقمون منا إلا لأن أكثركم فاسقون؟.

و قوله: «أن آمنا بالله و ما أنزل إلينا و ما أنزل من قبل» في معنى ما أنزل إلينا و إليكم، و لم ينسبه إليهم تعريضا بهم كأنهم إذا لم يفوا بما عاهدوا الله عليه و لم يعملوا بما تأمرهم به كتبهم فكتبهم لم تنزل إليهم و ليسوا بأهلها.

و محصل المعنى: أنا لا نفرق بين كتاب و كتاب مما أنزله الله على رسله فلا نفرق بين رسله، و فيه تعريض لهم أنهم يفرقون بين رسل الله و يقولون: نؤمن ببعض و نكفر ببعض كما كانوا يقولون: آمنوا بما أنزل على المؤمنين وجه النهار و اكفروا آخره، قال تعالى: «إن الذين يكفرون بالله و رسله و يريدون أن يفرقوا بين الله و رسله و يقولون نؤمن ببعض و نكفر ببعض و يريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا و أعتدنا للكافرين عذابا مهينا»: «النساء: 115».

قوله تعالى: «قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله» إلى آخر الآية ذكروا أن هذا أمر منه تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخاطب أولئك المستهزءين اللاعبين بالدين على طريق التسليم أخذا بالنصفة في التكليم ليلزمهم أنهم إن نقموا من المؤمنين إيمانهم بالله و ما أنزله على رسله فعليهم أن ينقموا أنفسهم لأنهم شر مكانا و أضل عن سواء السبيل لابتلائهم باللعن الإلهي و المسخ بالقردة و الخنازير و عبادة الطاغوت فإذا لم ينقموا أنفسهم على ما فيهم من أسباب النقمة فليس لهم أن ينقموا من لم يبتل إلا بما هو دونه في الشر، و هم المؤمنون في إيمانهم على تقدير تسليم أن يكون إيمانهم بالله و كتبه شرا، و لن يكون شرا.

فالمراد بالمثوبة مطلق الجزاء، و لعلها استعيرت للعاقبة و الصفة اللازمة كما يستفاد من تقييد قوله: «بشر من ذلك مثوبة» بقوله: «عند الله» فإن الذي عند الله هو أمر ثابت غير متغير و قد حكم به الله و أمر به، قال تعالى: «و ما عند الله باق»: «النحل: 96»، و قال تعالى: «لا معقب لحكمه»: «الرعد: 41»، فهذه المثوبة مثوبة لازمة لكونها عند الله سبحانه.

و في الكلام شبه قلب، فإن مقتضى استواء الكلام أن يقال: إن اللعن و المسخ و عبادة الطاغوت شر من الإيمان بالله و كتبه و أشد ضلالا، دون أن يقال: إن من لعنه الله و جعل منهم القردة و الخنازير و عبد الطاغوت شر مكانا و أضل إلا بوضع الموصوف مكان الوصف، و هو شائع في القرآن الكريم كقوله تعالى: «و لكن البر من آمن بالله» الآية.

و بالجملة فمحصل المعنى أن إيماننا بالله و ما أنزله على رسله إن كان شرا عندكم فأنا أخبركم بشر من ذلك يجب عليكم أن تنقموه و هو النعت الذي فيكم.

و ربما قيل: إن الإشارة بقوله: «ذلك» إلى جمع المؤمنين المدلول عليه بقوله: «هل تنقمون منا» و على هذا فالكلام على استوائه من غير قلب، و المعنى هل أنبئكم بمن هو شر من المؤمنين لتنقموهم؟ و هم أنتم أنفسكم، و قد ابتليتم باللعن و المسخ و عبادة الطاغوت.

و ربما قيل: إن قوله: «من ذلك» إشارة إلى المصدر المدلول عليه بقوله «هل تنقمون منا» أي هل أنبئكم بشر من نقمتكم هذه مثوبة و جزاء؟ هو ما ابتليتم به من اللعن و المسخ و غير ذلك.

قوله تعالى: «و إذا جاءوكم قالوا آمنا و قد دخلوا بالكفر و هم قد خرجوا به» إلى آخر الآية يشير تعالى إلى نفاق قلوبهم و إضمارهم ما لا يرتضيه الله سبحانه في لقائهم المؤمنين فقال: و إذا جاءوكم قالوا آمنا أي أظهروا الإيمان و الحال أنهم قد دخلوا عليكم مع الكفر و قد خرجوا من عندكم بالكفر أي هم على حالة واحدة عند الدخول و الخروج و هو الكفر لم يتغير عنه و إنما يظهرون الإيمان إظهارا، و الحال أن الله يعلم ما كانوا يكتمونه سابقا من الغدر و المكر.

فقوله: «و قد دخلوا بالكفر و هم قد خرجوا به» في معنى قولنا: لم يتغير حالهم في الكفر، و الضمير في قوله: «هم قد خرجوا» جيء به للتأكيد، و إفادة تمييزهم في الأمر و تثبيت الكفر فيهم.

و ربما قيل: إن المعنى أنهم متحولون في أحوال الكفر المختلفة.

قوله تعالى: «و ترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم و العدوان و أكلهم السحت» إلى آخر الآية، الظاهر أن المراد بالإثم هو الخوض في آيات الدين النازلة على المؤمنين و القول في معارف الدين بما يوجب الكفر و الفسوق على ما يشهد به ما في الآية التالية من قوله: «عن قولهم الإثم و أكلهم السحت».

و على هذا فالأمور الثلاثة أعني الإثم و العدوان و أكل السحت تستوعب نماذج من فسوقهم في القول و الفعل، فهم يقترفون الذنب في القول و هو الإثم القولي، و الذنب في الفعل و هو إما فيما بينهم و بين المؤمنين و هو التعدي عليهم، و إما عند أنفسهم كأكلهم السحت، و هو الربا و الرشوة و نحو ذلك ثم ذم ذلك منهم بقوله: «لبئس ما كانوا يعملون» ثم أتبعه بتوبيخ الربانيين و الأحبار في سكوتهم عنهم و عدم نهيهم عن ارتكاب هذه الموبقات من الآثام و المعاصي و هم عالمون بأنها معاص و ذنوب فقال: لو لا ينهاهم الربانيون و الأحبار عن قولهم الإثم و أكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون».

و ربما أمكن أن يستفاد من قوله: «عن قولهم الإثم و أكلهم السحت» عند تطبيقه على ما في الآية السابقة: «يسارعون في الإثم و العدوان و أكلهم السحت» حيث ترك العدوان في الآية الثانية أن الإثم و العدوان شيء واحد، و هو تعدي حدود الله سبحانه قولا تجاه المعصية الفعلية التي أنموذجها أكلهم السحت.

فيكون المراد بقوله: «يسارعون في الإثم و العدوان و أكلهم السحت» إراءة سيئة قولية منهم و هي الإثم و العدوان، و سيئة أخرى فعلية منهم و هي أكلهم السحت.

و المسارعة مبالغة في معنى السرعة و هي ضد البطء، و الفرق بين السرعة و العجلة على ما يستفاد من موارد استعمال الكلمتين أن السرعة أمس بعمل الأعضاء و العجلة بعمل القلب، نظير الفرق بين الخضوع و الخشوع، و الخوف و الخشية، قال الراغب في المفردات: السرعة ضد البطء، و يستعمل في الأجسام و الأفعال، يقال: سرع بضم الراء فهو سريع و أسرع فهو مسرع، و أسرعوا صارت إبلهم سراعا نحو أبلدوا، و سارعوا و تسارعوا، انتهى.

و ربما قيل: إن المسارعة و العجلة بمعنى واحد غير أن المسارعة أكثر ما يستعمل في الخير، و أن استعمال المسارعة في المقام - و إن كان مقام الذم و كانت العجلة أدل على الذم منها - إنما هو للإشارة إلى أنهم يستعملونها كأنهم محقون فيها، انتهى و لا يخلو عن بعد.

قوله تعالى: «و قالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم و لعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء» كانت اليهود لا ترى جواز النسخ في الأحكام الدينية، و لذا كانت لا تقبل بنسخ التوراة و تعير المسلمين بنسخ الأحكام، و كذا كانت لا ترى جواز البداء في القضايا التكوينية على ما يتراءى من خلال الآيات القرآنية كما تقدم الكلام فيه في تفسير قوله تعالى: «ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها»: الآية «البقرة: 160، في الجزء الأول من هذا الكتاب و في موارد أخر.

و الآية أعني قوله تعالى: «و قالت اليهود يد الله مغلولة» تقبل الانطباق على قولهم هذا غير أن ظاهر قوله تعالى جوابا عنهم: «بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء» يأبى عن ذلك، و يدل على أنهم إنما تكلموا بهذه الكلمة الأثيمة في شيء من أمر الرزق أما في خصوص المؤمنين لما في عامتهم من الفقر الشامل و العسرة و ضيق المعيشة، و أنهم إنما قالوا هذا القول استهزاء بالله سبحانه إيماء إلى أنه لا يقدر على إغناء عباده المؤمنين به و إنجائهم من الفقر و المذلة، لكن هذا الوجه لا يناسب وقوع الآية في سورة المائدة إن كانت نازلة في مطاوي سائر آياتها فإن المسلمين كانوا يوم نزولها على خصب من العيش و سعة من الرزق و رفاهية من الحال.

و إما أنهم إنما قالوها لجدب أو غلاء أصابهم فضاقت بذلك معيشتهم، و نكدت حالهم، و اختل نظام حياتهم، كما ربما يظهر من بعض ما ورد في أسباب النزول، و هذا الوجه أيضا يأباه سياق الآيات فإن الظاهر أن الآيات إنما تتعرض لشتات أوصافهم فيما يعود إلى عدوانهم و مكرهم بالنسبة إلى المسلمين نقمة منهم لا ما صدر منهم من إثم القول عند أنفسهم.

و إما أنهم إنما تفوهوا بذلك لما سمعوا أمثال قوله تعالى: «من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا»: «البقرة: 254»، و قوله تعالى: «و أقرضوا الله قرضا حسنا»: «المزمل - 20»، فقالوا: يد الله مغلولة لا يقدر على تحصيل ما ينفق في حوائجه لترويج دينه و إحياء دعوته.

و قد قالوا ذلك سخرية و استهزاء على ما يظهر من بعض آخر مما ورد في أسباب النزول، و هذا الوجه أقرب إلى النظر.

و كيف كان فهذه النسبة أعني نسبة غل اليد و المغلوبية عند بعض الحوادث مما لا يأباه تعليمهم الديني و الآراء الموجودة في التوراة فالتوراة تجوز أن يكون الأمور معجزا لله سبحانه و صادا مانعا له من إنفاذ بعض ما يريده من مقاصده كالأقوياء من الإنسان، يشهد بذلك ما تقصه من قصص الأنبياء كآدم و غيره.

فعندهم من وجوه الاعتقاد ما يبيح لهم أن ينسبوا إليه تعالى ما لا يناسب ساحة قدسه و كبرياء ذاته جلت عظمته و إن كانت الكلمة إنما صدرت منهم استهزاء فإن لكل فعل مبادىء في الاعتقاد ينبعث إليه الإنسان منها و يتجرأ بها.

و أما قوله: غلت أيديهم و لعنوا بما قالوا» فهو دعاء عليهم بعذاب مشابه لما نسبوا إليه تعالى من النقص غير المناسب لساحة قدسه، و هو مغلولية اليد و انسلاب القدرة على ما يحبه و يشاؤه، و على هذا فقوله: «و لعنوا بما قالوا» عطف تفسير على قوله: «غلت أيديهم» فإن مغلولية أيديهم مصداق لعنة الله عليهم إذ القول من الله سبحانه فعل، و لعنه تعالى أحدا إنما هو تعذيبه بعذاب إما دنيوي أو أخروي فاللعن هو العذاب المساوي لغل أيديهم أو الأعم منه و من غيره.

و ربما احتمل كون قوله: «غلت أيديهم» إلخ إخبارا عن وقوع كلمة العذاب و هو جزاء اجترائهم على الله سبحانه بقولهم: «يد الله مغلولة» عليهم، و الوجه الأول أقرب من الفهم.

و أما قوله: «بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء» فهو جواب عن قولهم: «يد الله مغلولة» مضروب في قالب الإضراب.

و الجملة أعني قوله: «يداه مبسوطتان» كناية عن ثبوت القدرة، و هو شائع في الاستعمال.

و إنما قيل: «يداه» بصيغة التثنية مع كون اليهود إنما أتوا في قولهم: «يد الله مغلولة» بصيغة الإفراد ليدل على كمال القدرة كما ربما يستفاد من نحو قوله تعالى: «قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين»: «ص - 75» لما فيه من الإشعار أو الدلالة على إعمال كمال القدرة، و نحو قولهم: «لا يدين بها لك» فإن ذلك مبالغة في نفي كل قدرة و نعمة.

و ربما ذكروا لليد معاني مختلفة في اللغة غير الجارحة كالقدرة و القوة و النعمة و الملك و غير ذلك، لكن الحق أن اللفظة موضوعة في الأصل للجارحة، و إنما استعملت في غيرها من المعاني على نحو الاستعارة لكونها من الشئون المنتسبة إلى الجارحة نوعا من الانتساب كانتساب الإنفاق و الجود إلى اليد من حيث بسطها، و انتساب الملك إليها من حيث التصرف و الوضع و الرفع و غير ذلك.

فما يثبته الكتاب و السنة لله سبحانه من اليد يختلف معناه باختلاف الموارد كقوله تعالى: «بل يداه مبسوطتان» الآية، و قوله: «أن تسجد لما خلقت بيدي»: «ص - 75 يراد به القدرة و كمالها، و قوله: «بيدك الخير»: «آل عمران: 26»، و قوله: «فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء»: «يس: 83»، و قوله: «تبارك الذي بيده الملك»: «الملك: 1»، إلى غير ذلك يراد بها الملك و السلطة، و قوله: «لا تقدموا بين يدي الله و رسوله»: «الحجرات: 1» يراد بها الحضور و نحوه.

و أما قوله: «ينفق كيف يشاء» فهو بيان لقوله: «يداه مبسوطتان».

قوله تعالى: «و ليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا و كفرا» هذه الجملة و ما يتلوها إلى آخر الآية كلام مسرود لتوضيح قوله: «و قالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم و لعنوا بما قالوا» على ما يعطيه السياق.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي