الميزان في تفسير القرآن

سورة النساء

23 - 28

تابع
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ الَّلاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ الَّلاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ الَّلاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24) وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا (28)

و أحد البحثين و هو البحث عن الملاك عقلي، و الآخر و هو البحث عن الحكم الشرعي و ما له من الموضوع و المتعلق و الشرائط و الموانع لفظي يتبع في السعة و الضيق البيان اللفظي من الشارع، و إنا لا نشك أن جميع الأحكام المشرعة تتبع مصالح و ملاكات حقيقية، و حكم النكاح الذي هو أيضا أحدها يتبع في تشريعه مصلحة واقعية و ملاكا حقيقيا، و هو التوالد و التناسل، و نعلم أن نظام الصنع و الإيجاد أراد من النوع الإنساني البقاء النوعي ببقاء الأفراد ما شاء الله، ثم احتيل إلى هذا الغرض بتجهيز البنية الإنسانية بجهاز التناسل الذي يفصل أجزاء منه فيربيه و يكونه إنسانا جديدا يخلف الإنسان القديم فتمتد به سلسلة النوع من غير انقطاع، و احتيل إلى تسخير هذا الجهاز للعمل و الإنتاج بإيداع القوة الشهوانية التي يحن بها أحد القبيلين - الذكر و الأنثى - من الأفراد إلى الآخر، و ينجذب بها كل إلى صاحبه بالوقوع عليه و النيل، ثم كمل ذلك بالعقل الذي يمنع من إفساد هذا السبيل الذي يندب إليه نظام الخلقة.

و في عين أن نظام الخلقة بالغ أمره و واجد غرضه الذي هو بقاء النوع لسنا نجد أفراد هذه الاتصالات المباشرية بين الذكر و الأنثى و لا أصنافها موصلة إلى غرض الخلقة دائما بل إنما هي مقدمة غالبية، فليس كل ازدواج مؤديا إلى ظهور الولد، و لا كل عمل تناسلي كذلك، و لا كل ميل إلى هذا العمل يؤثر هذا الأثر، و لا كل رجل أو كل امرأة، و لا كل ازدواج يهدي هداية اضطرارية إلى الذواق فالاستيلاد، فالجميع أمور غالبية.

فالتجهز التكويني يدعو الإنسان إلى الازدواج طلبا للنسل من طريق الشهوة، و العقل المودوع فيه يضيف إلى ذلك التحرز و حفظ النفس عن الفحشاء المفسد لسعادة العيش، الهادم لأساس البيوت، القاطع للنسل.

و هذه المصلحة المركبة أعني مصلحة الاستيلاد و الأمن من دبيب الفحشاء هي الملاك الغالبي الذي بني عليه تشريع النكاح في الإسلام غير أن الأغلبية من أحكام الملاك، و أما الأحكام المشرعة لموضوعاتها فهي لا تقبل إلا الدوام.

فليس من الجائز أن يقال: إن النكاح أو المباشرة يتبعان في جوازهما الغرض و الملاك المذكور وجودا و عدما فلا يجوز نكاح إلا بنية التوالد، و لا يجوز نكاح العقيم و لا نكاح العجوز التي لا ترى الحمرة، و لا يجوز نكاح الصغيرة، و لا يجوز نكاح الزاني و لا يجوز مباشرة الحامل، و لا مباشرة من غير إنزال، و لا نكاح من غير تأسيس بيت، و لا يجوز... و لا يجوز... بل النكاح سنة مشروعة بين قبيلي الذكر و الأنثى لها أحكام دائمية، و قد أريد بهذه السنة المشروعة حفظ مصلحة عامة غالبية كما عرفت فلا معنى لجعل سنة مشروعة تابعة لتحقق الملاك وجودا و عدما، و المنع عما لا يتحقق به الملاك من أفراده أو أحكامه.

قوله تعالى: «فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة» كان الضمير في قوله: «به» راجع إلى ما يدل عليه قوله: و أحل لكم ما وراء ذلكم «و هو النيل أو ما يؤدي معناه، فيكون «ما» للتوقيت، و قوله «منهن» متعلقا بقوله: «استمتعتم» و المعنى: مهما استمتعتم بالنيل منهن فآتوهن أجورهن فريضة.

و يمكن أن يكون ما موصولة، و استمتعتم صلة لها، و ضمير به راجعا إلى الموصول و قوله «منهن» بيانا للموصول، و المعنى: و من استمتعتم به من النساء «إلخ».

و الجملة أعني قوله: فما استمتعتم «إلخ» تفريع لما تقدمها من الكلام - لمكان الفاء - تفريع البعض على الكل أو تفريع الجزئي على الكلي بلا شك فإن ما تقدم من الكلام أعني قوله «أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين» كما تقدم بيانه شامل لما في النكاح و ملك اليمين، فتفريع قوله: فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن عليه يكون من تفريع الجزء على الكل أو تفريع بعض الأقسام الجزئية على المقسم الكلي.

و هذا النوع من التفريع كثير الورود في كلامه تعالى كقوله عز من قائل: أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر الآية: «البقرة: 184» و قوله: فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج الآية: «البقرة: 196» و قوله لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت و يؤمن بالله الآية: «البقرة: 256» إلى غير ذلك.

و المراد بالاستمتاع المذكور في الآية نكاح المتعة بلا شك فإن الآية مدنية نازلة في سورة النساء في النصف الأول من عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد الهجرة على ما يشهد به معظم آياتها، و هذا النكاح أعني نكاح المتعة كانت دائرة بينهم معمولة عندهم في هذه البرهة من الزمان من غير شك - و قد أطبقت الأخبار على تسلم ذلك - سواء كان الإسلام هو المشرع لذلك أو لم يكن فأصل وجوده بينهم بمرأى من النبي و مسمع منه لا شك فيه، و كان اسمه هذا الاسم و لا يعبر عنه إلا بهذا اللفظ فلا مناص من كون قوله: «فما استمتعتم به منهن» محمولا عليه مفهوما منه هذا المعنى كما أن سائر السنن و العادات و الرسوم الدائرة بينهم في عهد النزول بأسمائها المعروفة المعهودة كلما نزلت آية متعرضة لحكم متعلق بشيء من تلك الأسماء بإمضاء أو رد أو أمر أو نهي لم يكن بد من حمل الأسماء الواردة فيها على معانيها المسماة بها من غير أن تحمل على معانيها اللغوية الأصلية.

و ذلك كالحج و البيع و الربا و الربح و الغنيمة و سائر ما هو من هذا القبيل فلم يمكن لأحد أن يدعي أن المراد بحج البيت قصده، و هكذا، و كذلك ما أتى به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الموضوعات الشرعية ثم شاع الاستعمال حتى عرفت بأساميها الشرعية كالصلاة و الصوم و الزكاة و حج التمتع و غير ذلك لا مجال بعد تحقق التسمية لحمل ألفاظها الواقعة في القرآن الكريم على معانيها اللغوية الأصلية بعد تحقق الحقيقة الشرعية أو المتشرعية فيها.

فمن المتعين أن يحمل الاستمتاع المذكور في الآية على نكاح المتعة لدورانه بهذا الاسم عندهم يوم نزول الآية سواء قلنا بنسخ نكاح المتعة بعد ذلك بكتاب أو سنة أو لم نقل فإنما هو أمر آخر.

و جملة الأمر أن المفهوم من الآية حكم نكاح المتعة، و هو المنقول عن القدماء من مفسري الصحابة و التابعين كابن عباس و ابن مسعود و أبي بن كعب و قتادة و مجاهد و السدي و ابن جبير و الحسن و غيرهم، و هو مذهب أئمة أهل البيت (عليهم السلام).

و منه يظهر فساد ما ذكره بعضهم في تفسير الآية أن المراد بالاستمتاع هو النكاح فإن إيجاد علقة النكاح طلب للتمتع منها هذا، و ربما ذكر بعضهم أن السين و التاء في استمتعتم للتأكيد، و المعنى: تمتعتم.

و ذلك لأن تداول نكاح المتعة بهذا الاسم و معروفيته بينهم لا يدع مجالا لخطور هذا المعنى اللغوي بذهن المستمعين.

على أن هذا المعنى على تقدير صحته و انطباق معنى الطلب على المورد أو كون استمتعتم بمعنى تمتعتم، لا يلائم الجزاء المترتب عليه أعني قوله: «فآتوهن أجورهن»، فإن المهر يجب بمجرد العقد، و لا يتوقف على نفس التمتع و لا على طلب التمتع الصادق على الخطبة و إجراء العقد و الملاعبة و المباشرة و غير ذلك، بل يجب نصفه بالعقد و نصفه الآخر بالدخول.

على أن الآيات النازلة قبل هذه الآية قد استوفت بيان وجوب إيتاء المهر على جميع تقاديره، فلا وجه لتكرار بيان الوجوب، و ذلك كقوله تعالى: و آتوا النساء صدقاتهن نحلة الآية: «النساء 4»، و قوله تعالى: و إن أردتم استبدال زوج مكان زوج و آتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا، الآيتان: «النساء: 20»، و قوله تعالى لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة و متعوهن على الموسع قدره و على المقتر قدره - إلى أن قال -: و إن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن و قد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم الآيتان: «البقرة: 237».

و ما احتمله بعضهم أن الآية أعني قوله: «فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة» مسوقة للتأكيد يرد عليه أن سياق ما نقل من الآيات و خاصة سياق ذيل قوله: «و إن أردتم استبدال» الآيتين أشد و آكد لحنا من هذه الآية فلا وجه لكون هذه مؤكدة لتلك.

و أما النسخ فقد قيل: إن الآية منسوخة بآية المؤمنون: و الذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون: «المؤمنون: 7»، و قيل منسوخة بآية العدة: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن: «الطلاق: 1»، و المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء الآية: «البقرة: 228»، حيث إن انفصال الزوجين إنما هو بطلاق و عدة و ليسا في نكاح المتعة، و قيل: منسوخة بآيات الميراث: و لكم نصف ما ترك أزواجكم الآية: «النساء: 12»، حيث لا إرث في نكاح المتعة، و قيل منسوخة بآية التحريم: «حرمت عليكم أمهاتكم و بناتكم» الآية، فإنها في النكاح، و قيل: منسوخة بآية العدد: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى و ثلاث و رباع الآية: «النساء: 3»، و قيل: منسوخة بالسنة نسخها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عام خيبر، و قيل: عام الفتح، و قيل: في حجة الوداع، و قيل: أبيحت متعة النساء ثم حرمت مرتين أو ثلاثا، و آخر ما وقع و استقر عليه من الحكم الحرمة.

أما النسخ بآية المؤمنون، ففيه أنها لا تصلح للنسخ، فإنها مكية و آية المتعة مدنية، و لا تصلح المكية لنسخ المدنية، على أن عدم كون المتعة نكاحا و المتمتع بها زوجة ممنوع، و ناهيك في ذلك ما وقع في الأخبار النبوية، و في كلمات السلف من الصحابة و التابعين من تسميتها نكاحا، و الإشكال عليه بلزوم التوارث و الطلاق و غير ذلك سيأتي الجواب عنه.

و أما النسخ بسائر الآيات كآية الميراث و آية الطلاق و آية العدد ففيه أن النسبة بينها و بين آية المتعة ليست نسبة الناسخ و المنسوخ، بل نسبة العام و المخصص أو المطلق و المقيد، فإن آية الميراث مثلا تعم الأزواج جميعا من كل دائم و منقطع و السنة تخصصها بإخراج بعض أفرادها، و هو المنقطع من تحت عمومها، و كذلك القول في آية الطلاق و آية العدد، و هو ظاهر، و لعل القول بالنسخ ناش من عدم التمييز بين النسبتين.

نعم ذهب بعض الأصوليين فيما إذا ورد خاص ثم عقبه عام يخالفه في الإثبات و النفي إلى أن العام ناسخ للخاص.

لكن هذا مع ضعفه على ما بين في محله غير منطبق على مورد الكلام، و ذلك لوقوع آيات الطلاق و هي العام في سورة البقرة، و هي أول سورة مدنية نزلت قبل سورة النساء المشتملة على آية المتعة، و كذلك آية العدد واقعة في سورة النساء متقدمة على آية المتعة، و كذلك آية الميراث واقعة قبل آية المتعة في سياق واحد متصل في سورة واحدة فالخاص أعني آية المتعة متأخر عن العام على أي حال.

و أما النسخ بآية العدة فبطلانه أوضح فإن حكم العدة جار في المنقطعة كالدائمة و إن اختلفتا مدة فيئول إلى التخصيص أيضا دون النسخ.

و أما النسخ بآية التحريم فهو من أعجب ما قيل في هذا المقام أما أولا فلأن مجموع الكلام الدال على التحريم و الدال على حكم نكاح المتعة كلام واحد مسرود متسق الأجزاء متصل الأبعاض فكيف يمكن تصور تقدم ما يدل على المتعة ثم نسخ ما في صدر الكلام لذيله؟، و أما ثانيا فلأن الآية غير صريحة و لا ظاهرة في النهي عن الزوجية غير الدائمة بوجه من الوجوه، و إنما هي في مقام بيان أصناف النساء المحرمة على الرجال ثم بيان جواز نيل غيرها بنكاح أو بملك يمين، و نكاح المتعة نكاح على ما تقدم، فلا نسبة بين الأمرين بالمباينة حتى يئول إلى النسخ.

نعم ربما قيل: إن قوله تعالى: «و أحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين» حيث قيد حلية النساء بالمهر و بالإحصان من غير سفاح، و لا إحصان في النكاح المنقطع - و لذلك لا يرجم الرجل المتمتع إذا زنا لعدم كونه محصنا - يدفع كون المتعة مراده بالآية.

لكن يرد عليه ما تقدم أن المراد بالإحصان في قوله «محصنين غير مسافحين» هو إحصان العفة دون إحصان التزوج لكون الكلام بعينه شاملا لملك اليمين كشموله النكاح، و لو سلم أن المراد بالإحصان هو إحصان التزوج عاد الأمر إلى تخصيص الرجم في زنا المحصن بزنا المتمتع المحصن بحسب السنة دون الكتاب فإن حكم الرجم غير مذكور في الكتاب من أصله.

و أما النسخ بالسنة ففيه - مضافا إلى بطلان هذا القسم من النسخ من أصله لكونه مخالفا للأخبار المتواترة الآمرة بعرض الأخبار على الكتاب و طرح ما خالفه، و الرجوع إلى الكتاب - ما سيأتي في البحث الروائي.

قوله تعالى: «و من لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات «، الطول الغنى و الزيادة في القدرة، و كلا المعنيين يلائمان الآية، و المراد بالمحصنات الحرائر بقرينة مقابلته بالفتيات، و هذا بعينه يشهد على أن ليس المراد بها العفائف، و إلا لم تقابل بالفتيات بل بها و بغير العفائف، و ليس المراد بها ذوات الأزواج إذ لا يقع عليها العقد و لا المسلمات و إلا لاستغنى عن التقييد بالمؤمنات.

و المراد بقوله «فمما ملكت أيمانكم» ما ملكته أيمان المؤمنين غير من يريد الازدواج و إلا فتزوج الإنسان بملك يمين نفسه باطل غير مشروع، و قد نسب ملك اليمين إلى المؤمنين و فيهم المريد للتزوج بعد الجميع واحدا غير مختلف لاتحادهم في الدين، و اتحاد مصالحهم و منافعهم كأنهم شخص واحد.

و في تقييد المحصنات و كذا الفتيات بالمؤمنات إشارة إلى عدم جواز تزوج غير المؤمنات من كتابية و مشركة، و لهذا الكلام تتمة ستمر بك إن شاء الله العزيز في أوائل سورة المائدة.

و محصل معنى الآية أن من لم يقدر منكم على أن ينكح الحرائر المؤمنات لعدم قدرته على تحمل أثقال المهر و النفقة فله أن ينكح من الفتيات المؤمنات من غير أن يتحرج من فقدان القدرة على الحرائر، و يعرض نفسه على خطرات الفحشاء و معترض الشقاء.

فالمراد بهذا النكاح هو النكاح الدائم، و الآية في سياق التنزل أي إن لم يمكنكم كذا فيمكنكم كذا، و إنما قصر الكلام في صورة التنزل على بعض أفراد المنزل عنه أعني على النكاح الدائم الذي هو بعض أفراد النكاح الجائز لكون النكاح الدائم هو المتعارف المتعين بالطبع في نظر الإنسان المريد تأسيس البيت و إيجاد النسل و تخليف الولد، و نكاح المتعة تسهيل ديني خفف الله به عن عباده لمصلحة سد طريق الفحشاء، و قطع منابت الفساد.

و سوق الكلام على الجهة الغالبة أو المعروفة السابقة إلى الذهن و خاصة في مقام تشريع الأحكام و القوانين كثير شائع في القرآن الكريم كقوله تعالى: فمن شهد منكم الشهر فليصمه، و من كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر: «البقرة: 185»، مع أن العذر لا ينحصر في المرض و السفر، و قوله تعالى: و إن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا: «النساء: 43»، و الأعذار و قيود الكلام كما ترى مبنية على الغالب المعروف، إلى غير ذلك من الآيات.

هذا على ما ذكروه من حمل الآية على النكاح الدائم، و لا يوجب ذلك من حيث اشتماله على معنى التنزل و التوسعة اختصاص الآية السابقة بالنكاح الدائم، و كون قوله: فما استمتعتم به منهن، غير مسوق لبيان حكم نكاح المتعة كما توهمه بعضهم، لأن هذا التنزل و التوسعة واقع بطرفيه المنزل عنه و المنزل إليه في نفس هذه الآية أعني قوله: فمن لم يستطع منكم طولا «إلخ».

على أن الآية بلفظها لا تأبى عن الحمل على مطلق النكاح الشامل للدائم و المنقطع كما سيتضح بالكلام على بقية فقراتها.

قوله تعالى: «و الله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض» لما كان الإيمان المأخوذ في متعلق الحكم أمرا قلبيا لا سبيل إلى العلم بحقيقته بحسب الأسباب، و ربما أوهم تعليقا بالمتعذر أو المتعسر، و أوجب تحرج المكلفين منه، بين تعالى أنه هو العالم بإيمان عباده المؤمنين و هو كناية عن أنهم إنما كلفوا الجري على الأسباب الظاهرية الدالة على الإيمان كالشهادتين و الدخول في جماعة المسلمين و الإتيان بالوظائف العامة الدينية، فظاهر الإيمان هو الملاك دون باطنه.

و في هداية هؤلاء المكلفين غير المستطيعين إلى الازدواج بالإماء نقص و قصور آخر في الوقوع موقع التأثير و القبول، و هو أن عامة الناس يرون لطبقة المملوكين من العبيد و الإماء هوانا في الأمر و خسة في الشأن و نوع ذلة و انكسار فيوجب ذلك انقباضهم و جماح نفوسهم من الاختلاط بهم و المعاشرة معهم و خاصة بالازدواج الذي هو اشتراك حيوي و امتزاج باللحم و الدم.

فأشار سبحانه بقوله: «بعضكم من بعض» إلى حقيقة صريحة يندفع بالتأمل فيها هذا التوهم الفاسد فالرقيق إنسان كما أن الحر إنسان لا يتميزان في ما به يصير الإنسان واجدا لشئون الإنسانية، و إنما يفترقان بسلسلة من أحكام موضوعة يستقيم بها المجتمع الإنساني في إنتاجه سعادة الناس، و لا عبرة بهذه التميزات عند الله، و الذي به العبرة هو التقوى الذي به الكرامة عند الله، فلا ينبغي للمؤمنين أن ينفعلوا عن أمثال هذه الخطرات الوهمية التي تبعدهم عن حقائق المعارف المتضمنة سعادتهم و فلاحهم، فإن الخروج عن مستوى الطريق المستقيم، و إن كان حقيرا في بادي أمره لكنه لا يزال يبعد الإنسان من صراط الهداية حتى يورده أودية الهلكة.

و من هنا يظهر أن الترتيب الواقع في صدر الآية في صورة الاشتراط و التنزل، أعني قوله: «و من لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم»، إنما هو جرى في الكلام على مجرى الطبع و العادة، و ليس إلزاما للمؤمنين على الترتيب بمعنى أن يتوقف جواز نكاح الأمة على فقدان الاستطاعة على نكاح الحرة بل لكون الناس بحسب طباعهم سالكين هذا المسلك خاطبهم أن لو لم يقدروا على نكاح الحرائر فلهم أن يقدموا على نكاح الفتيات من غير انقباض، و نبه مع ذلك على أن الحر و الرق من نوع واحد بعض أفراده يرجع إلى بعض.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي