الميزان في تفسير القرآن

سورة النمل

15 - 44

وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُوْلُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)

بيان

نبذة من قصص داود و سليمان (عليهما السلام) و فيها شيء من عجائب أخبار سليمان بما آتاه الله من الملك.

قوله تعالى: «و لقد آتينا داود و سليمان علما» إلخ، في تنكير العلم إشارة إلى تفخيم أمره، و مما أشير فيه إلى علم داود من كلامه تعالى قوله: «و آتيناه الحكمة و فصل الخطاب»: (صلى الله عليه وآله وسلم): 20.

و مما أشير فيه إلى علم سليمان قوله: «ففهمناها سليمان و كلا آتينا حكما و علما»: الأنبياء: 79، و ذيل الآية يشملهما جميعا.

و قوله: «و قالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين» المراد بالتفضيل إما التفضيل بالعلم على ما ربما يؤيده سياق الآية، و إما التفضيل بمطلق ما خصهما الله به من المواهب كتسخير الجبال و الطير لداود و تليين الحديد له و إيتائه الملك، و تسخير الجن و الوحش و الطير و كذا الريح لسليمان و تعليمه منطق الطير و إيتائه الملك على ما يستدعيه إطلاق التفضيل.

و الآية أعني قوله: «و قالا الحمد لله» إلخ، على أي حال بمنزلة حكاية اعترافهما على التفضيل الإلهي فيكون كالشاهد على المدعى الذي تشير إليه بشارة صدر السورة أن الله سبحانه سيخص المؤمنين بما تقر به عيونهم و مثلها ما سيأتي من اعترافات سليمان في مواضع من كلامه.

قوله تعالى: «و ورث سليمان داود» إلخ، أي ورثه ماله و ملكه، و أما قول بعضهم: المراد به وراثة النبوة و العلم ففيه أن النبوة لا تقبل الوراثة لعدم قبولها الانتقال، و العلم و إن قبل الانتقال بنوع من العناية غير أنه إنما يصح في العلم الفكري الاكتسابي و العلم الذي يختص به الأنبياء و الرسل كرامة من الله لهم وهبي ليس مما يكتسب بالفكر فغير النبي يرث العلم من النبي لكن النبي لا يرث علمه من نبي آخر و لا من غير نبي.

و قوله: «و قال يا أيها الناس علمنا منطق الطير» ظاهر السياق أنه (عليه السلام) يباهي عن نفسه و أبيه و هو منه (عليه السلام) تحديث بنعمة الله كما قال تعالى: «و أما بنعمة ربك فحدث»: الضحى: 11، و أما إصرار بعض المفسرين على أن الضمير في قوله: «علمنا» و «أوتينا» لنفسه لا له و لأبيه على ما هو عادة الملوك و العظماء في الإخبار عن أنفسهم - فإنهم يخبرون عنهم و عن خدمهم و أعوانهم رعاية لسياسة الملك - فالسياق السابق لا يساعد عليه كل المساعدة.

و المراد بالناس ظاهر معناه و هو عامة المجتمعين من غير تميز لبعضهم من بعض و قول بعضهم إن المراد بهم عظماء أهل مملكته أو علماؤهم غير سديد.

و المنطق و النطق على ما نتعارفه هو الصوت أو الأصوات المؤلفة الدالة بالوضع على معان مقصودة للناطق المسماة كلاما و لا يكاد يقال - على ما ذكره الراغب - إلا للإنسان لكن القرآن الكريم يستعمله في معنى أوسع من ذلك و هو دلالة الشيء على معنى مقصود لنفسه، قال تعالى: «و قالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء»: حم السجدة: 21، و هو إما من باب تحليل المعنى كما يستعمله القرآن في أغلب المعاني و المفاهيم المقصورة في الاستعمالات على المصاديق الجسمانية المادية كالرؤية و النظر و السمع و اللوح و القلم و العرش و الكرسي و غيرها، و إما لأن للفظ معنى أعم و اختصاصه بالإنسان من باب الانصراف لكثرة الاستعمال.

و كيف كان فمنطق الطير هو ما تدل به الطير بعضها على مقاصدها، و الذي نجده عند التأمل في أحوالها الحيوية هو أن لكل صنف أو نوع منها أصواتا ساذجة خاصة في حالاتها الخاصة الاجتماعية حسب تنوع اجتماعاتها كحال الهياج للسفاد و حال المغالبة و الغلبة و حال الوحشة و الفزع و حال التضرع أو الاستغاثة إلى غير ذلك و نظير الطير في ذلك سائر الحيوان.

لكن لا ينبغي الارتياب في أن المراد بمنطق الطير في الآية معنى أدق و أوسع من ذلك.

أما أولا: فلشهادة سياق الآية على أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يتحدث عن أمر اختصاصي ليس في وسع عامة الناس أن ينالوه و إنما ناله بعناية خاصة إلهية، و هذا المقدار المذكور من منطق الطير مما يسع لكل أحد أن يطلع عليه و يعرفه.

و أما ثانيا: فلأن ما حكاه الله تعالى في الآيات التالية من محاورة سليمان و الهدهد يتضمن معارف عالية متنوعة لا يسع لما نجده عند الهدهد من الأصوات المعدودة أن تدل عليها بتميز لبعضها من بعض ففي كلام الهدهد ذكر الله سبحانه و وحدانيته و قدرته و علمه و ربوبيته و عرشه العظيم و ذكر الشيطان و تزيينه الأعمال و الهدى و الضلال و غير ذلك، و فيه ذكر الملك و العرش و المرأة و قومها و سجدتهم للشمس، و في كلام

سليمان أمره بالذهاب بالكتاب و إلقائه إليهم ثم النظر فيما يرجعون، و هذه كما لا يخفى على الباحث في أمر المعاني المتعمق فيها معارف جمة لها أصول عريقة يتوقف الوقوف عليها على ألوف و ألوف من المعلومات، و أنى تفي على إفادة تفصيلها أصوات ساذجة معدودة.

على أنه لا دليل على أن كل ما يأتي بها الحيوان في نطقه من الأصوات أو خصوصيات الصوت يفي حسنا بإدراكه أو تمييزه، و يؤيده ما نقل من قول النملة في الآيات التالية و هو من منطق الحيوان قطعا و لا صوت للنملة يناله سمعنا و يؤيده أيضا ما يراه علماء الطبيعة اليوم أن الذي يناله سمع الإنسان من الصوت عدد خاص من الارتعاش المادي و هو ما بين ستة عشر ألفا إلى اثنين و ثلاثين ألفا في الثانية، و أن الخارج من ذلك في جانبي القلة و الكثرة لا يقوى عليه سمع الإنسان و ربما ناله سائر الحيوان أو بعضها.

و قد عثر العلماء الباحثون عن الحيوان من عجيب الفهم و لطيف الإدراك عند أنواع من الحيوان كالفرس و الكلب و القرد و الدب و الزنبور و النملة و غيرها على أمور لا يكاد يعثر على نظائرها عند أكثر أفراد الإنسان.

و قد تبين بما مر أن ظاهر السياق أن للطير منطقا علمه الله سليمان، و ظهر به فساد قول من قال إن نطق الطير كان معجزة لسليمان و أما هي في نفسها فليس لها نطق هذا.

و قوله: «و أوتينا من كل شيء» أي أعطينا من كل شيء و «كل شيء» و إن كان شاملا لجميع ما يفرض موجودا - لأن مفهوم شيء من أعم المفاهيم و قد دخل عليه كلمة الاستغراق - لكن لما كان المقام مقام التحديث بالنعمة و لا كل نعمة بل النعم التي يمكن أن يؤتاها الإنسان فيتنعم بها تقيد به معنى كل شيء و كان معنى الجملة: و أعطانا الله من كل نعمة يمكن أن يعطاها الإنسان فيتنعم بها مقدارا معتدا به كالعلم و النبوة و الملك و الحكم و سائر النعم المعنوية و المادية.

و قوله: «إن هذا لهو الفضل المبين» شكر و تأكيد للتحديث بالنعمة من غير عجب و لا كبر و اختيال لإسناده الجميع إلى الله بقوله: «علمنا» و «أوتينا»،

و احتمل بعضهم أن تكون الجملة من كلام الله سبحانه لا من كلام سليمان و السياق يأباه.

قوله تعالى: «و حشر لسليمان جنوده من الجن و الإنس و الطير فهم يوزعون» الحشر هو جمع الناس و إخراجهم لأمر بإزعاج و الوزع المنع و قيل الحبس، و المعنى كما قيل: و جمع لسليمان جنوده من الجن و الإنس و الطير فهم يمنعون من التفرق و اختلاط كل جمع بآخر برد أولهم إلى آخرهم و حبس كل في مكانه.

و يستفاد من الآية أنه كان له جنود من الجن و الطير يسيرون معه كجنوده من الإنس.

و كلمة الحشر و وصف المحشورين بأنهم جنود، و سياق الآيات التالية كل ذلك دليل على أن جنوده كانوا طوائف خاصة من الجن و الإنس و الطير سواء كانت «من» في الآية للتبعيض أو للبيان.

و قد أغرب في التفسير الكبير، فزعم أن الآية تدل على أن جميع الجن و الإنس و الطير كانوا جنوده و قد ملك الأرض كلها و أن الله تعالى جعل الطير في زمانه عقلاء مكلفين ثم عادت بعد زمانه على ما كانت عليه قبله و قال بمثله في النملة التي تكلمت، قال في تفسير الآية: و المعنى أنه جعل الله تعالى كل هذه الأصناف جنوده، و لا يكون كذلك إلا بأن يتصرف على مراده، و لا يكون كذلك إلا مع العقل الذي يصح معه التكليف أو يكون بمنزلة المراهق الذي قد قارب حد التكليف، فلذلك قلنا: إن الله تعالى جعل الطير في أيامه مما له عقل و ليس كذلك حال الطيور في أيامنا و إن كان فيها ما قد ألهمه الله تعالى الدقائق التي خصت بالحاجة إليها أو خصها الله بها لمنافع العباد كالنحل و غيره.

انتهى.

و وجوه التحكم فيه غنية عن البيان.

و تقديم الجن في الذكر على الإنس و الطير لكون تسخيرهم و دخولهم تحت الطاعة عجيبا، و ذكر الإنس بعده دون الطير مع كون تسخيرها أيضا عجيبا رعاية لأمر المقابلة بين الجن و الإنس.

قوله تعالى: «حتى إذا أتوا على واد النمل» الآية، «حتى» غاية لما يفهم من الآية السابقة، و ضمير الجمع لسليمان و جنوده، و تعدية الإتيان بعلى قيل: لكون

الإتيان من فوق، و وادي النمل واد بالشام على ما قيل، و قيل في أرض الطائف، و قيل: في أقصى اليمن، و الحطم الكسر.

و المعنى: فلما سار سليمان و جنوده حتى أتوا على وادي النمل قالت نملة مخاطبة لسائر النمل: يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يكسرنكم سليمان و جنوده أي لا يطأنكم بأقدامهم و هم لا يشعرون.

و فيه دليل على أنهم كانوا يسيرون على الأرض.

قوله تعالى: «فتبسم ضاحكا من قولها» إلى آخر الآية، قيل: التبسم دون الضحك، و على هذا فالمراد بالضحك هو الإشراف عليه مجازا.

و لا منافاة بين قوله (عليه السلام): «علمنا منطق الطير» و بين فهمه كلام النملة إذ لم ينف فهمه كلام سائر الحيوان أو كلام بعضها كالنملة.

و قد تسلم جمع منهم دلالة قوله: «علمنا منطق الطير» على نفي ما عداه فتكلفوا في توجيه فهمه (عليه السلام) قول النملة تارة بأنه كانت قضية في واقعة، و أخرى بتقدير أنها كانت نملة ذات جناحين و هي من الطير، و ثالثة بأن كلامها كان من معجزات سليمان (عليه السلام) و رابعة بأنه (عليه السلام) لم يسمع منها صوتا قط و إنما فهم ما في نفس النملة إلهاما من الله تعالى هذا.

و ما تقدم من معنى منطق الحيوان يزاح به هذه الأوهام.

على أن سياق الآيات وحده كاف في دفعها.

و قوله: «و قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي و على والدي و أن أعمل صالحا ترضاه» الإيزاع الإلهام.

تبسم (عليه السلام) مبتهجا مسرورا بما أنعم الله عليه حتى أوقفه هذا الموقف و هي النبوة و العلم بمنطق الحيوان و الملك و الجنود من الجن و الإنس و الطير فسأل الله أن يلهمه شكر نعمته و أن يعمل بما فيه رضاه سبحانه.

و قد جعل الشكر للنعمة التي أنعم الله تعالى بها على نفسه مختصة به، و للنعمة التي أنعم بها على والديه فإن الإنعام على والديه إنعام عليه بوجه لكونه منهما و قد أنعم الله تعالى على أبيه داود بالنبوة و الملك و الحكمة و فصل الخطاب و غيرها و أنعم على أمه حيث زوجها من داود النبي و رزقها سليمان النبي و جعلها من أهل بيت النبوة.

و في كلامه هذا دليل على أن والدته من أهل الصراط المستقيم الذين أنعم الله عليهم 1 و هم إحدى الطوائف الأربع المذكورين في قوله تعالى: «الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين»: النساء: 69.

و قوله: «و أن أعمل صالحا ترضاه» عطف على قوله: «أن أشكر نعمتك» و مسألته هذه: «أوزعني أن أعمل» إلخ، أمر أرفع قدرا و أعلى منزلة من سؤال التوفيق للعمل الصالح فإن التوفيق يعمل في الأسباب الخارجية بترتيبها بحيث توافق سعادة الإنسان و الإيزاع الذي سأله دعوة باطنية في الإنسان إلى السعادة، و على هذا فليس من البعيد أن يكون المراد به الوحي الذي أكرم الله به إبراهيم و آله فيما يخبر عنه بقوله: «و أوحينا إليهم فعل الخيرات» الآية: الأنبياء: 73، و هو التأييد بروح القدس على ما مر في تفسير الآية.

و قوله: «و أدخلني برحمتك في عبادك الصالحين» أي اجعلني منهم، و هذا الصلاح لما لم يتقيد بالعمل كان هو صلاح الذات و هو صلاح النفس في جوهرها الذي يستعد به لقبول أي كرامة إلهية.

و من المعلوم أن صلاح الذات أرفع قدرا من صلاح العمل ففي قوله: «و أن أعمل صالحا ترضاه و أدخلني برحمتك في عبادك الصالحين» تدرج في المسألة من الأدنى إلى الأعلى و قد كان صلاح العمل منسوبا إلى صنعه و اختياره بوجه دون صلاح الذات و لذا سأل صلاح الذات من ربه و لم يسأل نفس صلاح العمل بل أن يوزعه أن يعمل.

و في تبديله سؤال صلاح الذات من سؤال أن يدخله في عباده الصالحين إيذان بسؤاله ما خصهم الله به من المواهب و أغزرها العبودية و قد وصفه الله بها في قوله: «نعم العبد إنه أواب»: ص: 30.

قوله تعالى: «و تفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين» قال الراغب: التفقد التعهد لكن حقيقة التفقد تعرف فقدان الشيء و التعهد تعرف العهد

المتقدم قال تعالى: «و تفقد الطير» انتهى.

استفهم أولا متعجبا من حال نفسه إذ لا يرى الهدهد بين الطير كأنه لم يكن من المظنون في حقه أن يغيب عن موكبه و يستنكف عن امتثال أمره ثم أضرب عن ذلك بالاستفهام عن غيبته.

و المعنى: ما بالي لا أرى الهدهد بين الطيور الملازمة لموكبي بل أ كان من الغائبين.

قوله تعالى: «لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين» اللامات للقسم و السلطان المبين البرهان الواضح، يقضي (عليه السلام) على الهدهد أحد ثلاث خصال: العذاب الشديد و الذبح و فيهما شقاؤه، و الإتيان بحجة واضحة و فيه خلاصه و نجاته.

قوله تعالى: «فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به و جئتك من سبإ بنبإ يقين» ضمير «فمكث» لسليمان و يحتمل أن يكون للهدهد و يؤيد الأول سابق السياق و الثاني لاحقه، و المراد بالإحاطة العلم الكامل، و قوله: «و جئتك» إلخ، بمنزلة عطف التفسير لقوله: «أحطت» إلخ، و سبأ بلدة باليمن كانت عاصمته يومئذ و النبأ الخبر الذي له أهمية، و اليقين ما لا شك فيه.

و المعنى: فمكث سليمان - أو فمكث الهدهد - زمانا غير بعيد - ثم حضر فسأله سليمان عن غيبته و عاتبه - فقال أحطت من العلم بما لم تحط به و جئتك من سبإ بخبر مهم لا شك فيه.

و منه يظهر أن في الآية حذفا و إيجازا، و قد قيل: إن في قول الهدهد: «أحطت بما لم تحط به» كسرا لسورة سليمان (عليه السلام) فيما شدد عليه.

قوله تعالى: «إني وجدت امرأة تملكهم و أوتيت من كل شيء و لها عرش عظيم» الضمير في «تملكهم» لأهل سبإ و ما يتبعها و قوله: «و أوتيت من كل شيء» وصف لسعة ملكها و عظمته و هو القرينة على أن المراد بكل شيء في الآية كل شيء هو من لوازم الملك العظيم من حزم و عزم و سطوة و مملكة عريضة و كنوز و جنود مجندة و رعية مطيعة، و خص بالذكر من بينها عرشها العظيم.

قوله تعالى: «وجدتها و قومها يسجدون للشمس من دون الله» إلخ، أي إنهم

من عبدة الشمس من الوثنيين.

و قوله: «و زين لهم الشيطان أعمالهم» بمنزلة عطف التفسير لما سبقه و هو مع ذلك توطئة لقوله بعد: «فصدهم عن السبيل» لأن تزيين الشيطان لهم أعمالهم التي هي سجدتهم و سائر تقرباتهم هو الذي صرفهم و منعهم عن سبيل الله و هي عبادته وحده.

و في إطلاق السبيل من غير إضافتها إليه تعالى إشارة إلى أنها السبيل المتعينة للسبيلية بنفسها للإنسان بالنظر إلى فطرته بل لكل شيء بالنظر إلى الخلقة العامة.

و قوله: «فهم لا يهتدون» تفريع على صدهم عن السبيل إذ لا سبيل مع الصد عن السبيل فلا اهتداء، فافهمه.

قوله تعالى: «ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات و الأرض و يعلم ما تخفون و ما تعلنون» القراءة الدائرة «إلا» - بتشديد اللام - مؤلف من «أن و لا» و هو عطف بيان من «أعمالهم»، و المعنى: زين لهم الشيطان أن لا يسجدوا لله، و قيل: بتقدير لام التعليل، و المعنى: زين لهم الشيطان ضلالتهم لئلا يسجدوا لله.

و الخبء على ما في مجمع البيان، المخبوء و هو ما أحاط به غيره حتى منع من إدراكه و هو مصدر وصف به يقال: خبأته أخبئه خبأ و ما يوجده الله تعالى فيخرجه من العدم إلى الوجود يكون بهذه المنزلة.

انتهى.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي