الميزان في تفسير القرآن

سورة النمل

15 - 44

تابع
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُوْلُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)

ففي قوله: «يخرج الخبء في السماوات و الأرض» استعارة كأن الأشياء مخبوءة مستورة تحت أطباق العدم فيخرجها الله تعالى إلى الوجود واحدا بعد آخر فيكون تسمية الإيجاد بعد العدم إخراجا للخبء قريبا من تسميته بالفطر و توصيفه تعالى بأنه فاطر السماوات و الأرض و الفطر هو الشق كأنه يشق العدم فيخرج الأشياء.

و يمكن حمل الجملة على الحقيقة من غير استعارة لكنه مفتقر إلى بيان موضعه غير هذا الموضع.

و قيل: المراد بالخبء الغيب و إخراجه العلم به و هو كما ترى.

و قوله: «و يعلم ما تخفون و ما تعلنون» بالتاء على الخطاب أي يعلم سركم و علانيتكم، و قرأ الأكثرون بالياء على الغيبة و هو أرجح.

و ملخص الحجة: أنهم إنما يسجدون للشمس دون الله تعظيما لها على ما أودع الله سبحانه في طباعها من الآثار الحسنة و التدبير العام للعالم الأرضي و غيره، و الله الذي

أخرج جميع الأشياء من العدم إلى الوجود و من الغيب إلى الشهادة فترتب على ذلك نظام التدبير من أصله - و من جملتها الشمس و تدبيرها - أولى بالتعظيم و أحق أن يسجد له، مع أنه لا معنى لعبادة ما لا شعور له بها و لا شعور للشمس بسجدتهم و الله سبحانه يعلم ما يخفون و ما يعلنون فالله سبحانه هو المتعين للسجدة و التعظيم لا غير.

و بهذا البيان تبين وجه اتصال قوله تلوا «الله لا إله إلا هو» إلخ.

قوله تعالى: «الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم» من تمام كلام الهدهد و هو بمنزلة التصريح بنتيجة البيان الضمني السابق و إظهار الحق قبال باطلهم و لذا أتى أولا بالتهليل الدال على توحيد العبادة ثم ضم إليه قوله: «رب العرش العظيم» الدال على انتهاء تدبير الأمر إليه فإن العرش الملكي هو المقام الذي تجتمع عنده أزمة الأمور و تصدر منه الأحكام الجارية في الملك.

و في قوله: «رب العرش العظيم» مناسبة محاذاة أخرى مع قوله في وصف ملكة سبإ: «و لها عرش عظيم» و لعل قول الهدهد هذا هو الذي دعا - أو هو من جملة ما دعا - سليمان (عليه السلام) أن يأمر أن يأتوا بعرشها إليه ليخضع لعظمة ربه كل عظمة.

قوله تعالى: «قال سننظر أ صدقت أم كنت من الكاذبين» الضمير لسليمان (عليه السلام).

أحال القضاء في أمر الهدهد إلى المستقبل فلم يصدقه في قوله لعدم بينة عليه بعد و لم يكذبه لعدم الدليل على كذبه بل وعده أن يجرب و يتأمل.

قوله تعالى: «اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ما ذا يرجعون» حكاية قول سليمان خطابا للهدهد كأنه قيل: فكتب سليمان كتابا ثم قال للهدهد: اذهب بكتابي هذا إليهم أي إلى ملكة سبإ و ملئها فألقه إليهم ثم تول عنهم أي تنح عنهم وقع في مكان تراهم فانظر ما ذا يرجعون أي ما ذا يرد بعضهم من الجواب على بعض إذا تكلموا فيه.

و قوله: «فألقه» بسكون الهاء وصلا و وقفا في جميع القراءات و هي هاء السكت، و مما قيل في الآية: إن قوله «ثم تول عنهم فانظر» إلخ، من قبيل التقديم و التأخير و الأصل فانظر ما ذا يرجعون ثم تول عنهم: و هو كما ترى.

قوله تعالى: «قالت يا أيها الملؤا إني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمان و إنه

بسم الله الرحمن الرحيم» في الكلام حذف و إيجاز و التقدير فأخذ الهدهد الكتاب و حمله إلى ملكة سبإ حتى إذا أتاها ألقاه إليها فأخذته و لما قرأته قالت لملئها و أشراف قومها يا أيها الملؤا «إلخ».

فقوله: «قالت يا أيها الملؤا إني ألقي إلي كتاب كريم» حكاية ذكرها لملئها أمر الكتاب و كيفية وصوله إليها و مضمونه، و قد عظمته إذ وصفته بالكرم.

و قوله: «إنه من سليمان و إنه بسم الله الرحمن الرحيم» ظاهره أنه تعليل لكون الكتاب كريما أي و السبب فيه أنه من سليمان و لم يكد يخفى عليها جبروت سليمان و ما أوتيه من الملك العظيم و الشوكة العجيبة كما اعترفت بذلك في قولها على ما حكاه الله بعد: «و أوتينا العلم من قبلها و كنا مسلمين».

«و إنه بسم الله الرحمن الرحيم: أي الكتاب باسمه تعالى فهو كريم لذلك و الوثنيون جميعا قائلون بالله سبحانه يرونه رب الأرباب و إن لم يعبدوه، و عبدة الشمس منهم و هم من شعب الصابئين يعظمونه و يعظمون صفاته و إن كانوا يفسرون الصفات بنفي النقائص و الأعدام فيفسرون العلم و القدرة و الحياة و الرحمة مثلا بانتفاء الجهل و العجز و الموت و القسوة فكون الكتاب باسم الله الرحمن الرحيم يستدعي كونه كريما، كما أن كونه من سليمان العظيم يستدعي كونه كريما، و على هذا فالكتاب أي مضمونه هو قوله: «ألا تعلوا علي و أتوني مسلمين» و أن مفسرة.

و من العجيب ما عن جمع من المفسرين أن قوله: «إنه من سليمان» استئناف وقع جوابا لسؤال مقدر كأنه قيل: ممن الكتاب و ما ذا فيه فقالت: إنه من سليمان إلخ، و على هذا يكون قوله: و إنه بسم الله بيانا للكتاب أي لمتنه و أن الكتاب هو «بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي و أتوني مسلمين».

و يتوجه عليهم أولا: وقوع لفظة أن زائدة لا فائدة لها و لذا قال بعضهم: إنها مصدرية و «لا» نافية لا ناهية و هو وجه سخيف كما سيأتي.

و ثانيا: بيان الوجه في كون الكتاب كريما فقيل: وجه كرامته أنه كان مختوما ففي الحديث: إكرام الكتاب ختمه حتى ادعى بعضهم أن معنى كرامة الكتاب ختمه، يقال: أكرمت الكتاب فهو كريم إذا ختمته، و قيل: إنها سمته كريما لجودة

خطه و حسن بيانه، و قيل: لوصوله إليها على منهاج غير عادي، و قيل: لظنها بسبب إلقاء الطير أنه كتاب سماوي إلى غير ذلك من الوجوه.

و أنت خبير بأنها تحكمات غير مقنعة، و الظاهر أن الذي أوقعهم فيما وقعوا حملهم قوله: «و إنه بسم الله - إلى قوله - مسلمين» على حكاية متن الكتاب و ذلك ينافي حمل قوله: «إنه من سليمان و إنه بسم الله» إلخ، على تعليل كرامة الكتاب و يدفعه أن ظاهر أن المفسرة في قوله: «ألا تعلوا علي» إلخ، أنه نقل لمعنى الكتاب و مضمونه لا حكاية متنه فمحصل الآيتين أن الكتاب كان مبدوا ببسم الله الرحمن الرحيم و أن مضمونه النهي عن العلو عليه و الأمر بأن يأتوه مسلمين فلا محذور أصلا.

قوله تعالى: «ألا تعلوا علي و أتوني مسلمين» أن مفسرة تفسر مضمون كتاب سليمان كما تقدمت الإشارة إليه.

و قول بعضهم: إنها مصدرية و «لا» نافية أي عدم علوكم علي، سخيف لاستلزامه أولا: تقدير مبتدإ أو خبر محذوف من غير موجب، و ثانيا: عطف الإنشاء و هو قوله: «و أتوني» على الإخبار.

و المراد بعلوهم عليه، استكبارهم عليه، و بقوله: «و أتوني مسلمين» إسلامهم بمعنى الانقياد على ما يؤيده قوله: «ألا تعلوا علي» دون الإسلام بالمعنى المصطلح و هو الإيمان بالله سبحانه و إن كان إتيانهم منقادين له يستلزم إيمانهم بالله على ما يستفاد من سياق قول الهدهد و سياق الآيات الآتية، و لو كان المراد بالإيمان المعنى المصطلح كان المناسب له أن يقال: أن لا تعلوا على الله.

و كون سليمان (عليه السلام) نبيا شأنه الدعوة إلى الإسلام لا ينافي ذلك فإنه كان ملكا رسولا و كانت دعوته إلى الانقياد المطلق تستلزم ذلك كما تقدم و قد انتهت إلى إسلامها لله كما حكى الله تعالى عنها «و أسلمت مع سليمان لله رب العالمين».

قوله تعالى: «قالت يا أيها الملؤا أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون» الإفتاء إظهار الفتوى و هي الرأي، و قطع الأمر القضاء به و العزم عليه و الشهادة الحضور و هذا استشارة منها لهم تقول: أشيروا علي في هذا الأمر الذي واجهته و هو الذي يشير إليه كتاب سليمان - و إنما أستشيركم فيه لأني لم أكن حتى اليوم

أستبد برأيي في الأمور بل أقضي و أعزم عن إشارة و حضور منكم.

فالآية تشير إلى فصل ثان من كلامها مع ملئها بعد الفصل الأول الذي أخبرتهم فيه بكتاب سليمان (عليه السلام) و كيفية وصوله و ما فيه.

قوله تعالى: «قالوا نحن أولوا قوة و أولوا بأس شديد و الأمر إليك فانظري ما ذا تأمرين» القوة ما يتقوى به على المطلوب و هي هاهنا الجند الذي يتقوى به على دفع العدو و قتاله، و البأس الشدة في العمل و المراد به النجدة و الشجاعة.

و الآية تتضمن جواب الملإ لها يسمعونها أولا ما يطيب له نفسها و يسكن به قلقها ثم يرجعون إليها الأمر يقولون طيبي نفسا و لا تحزني فإن لنا من القوة و الشدة ما لا نهاب به عدوا و إن كان هو سليمان ثم الأمر إليك مري بما شئت فنحن مطيعوك.

قوله تعالى: «قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها و جعلوا أعزة أهلها أذلة و كذلك يفعلون» إفساد القرى تخريبها و إحراقها و هدم أبنيتها، و إذلال أعزة أهلها هو بالقتل و الأسر و السبي و الإجلاء و التحكم.

كان رأيها على ما يستفاد من هاتين الآيتين - - - زيادة التبصر في أمر سليمان (عليه السلام) بأن ترسل إليه من يختبر حاله و يشاهد مظاهر نبوته و ملكه فيخبر الملكة بما رأى حتى تصمم هي العزم على أحد الأمرين: الحرب أو السلم و كان الظاهر من كلام الملإ «حيث بدءوا في الكلام معها بقولهم نحن أولو قوة و أولو بأس شديد، أنهم يميلون إلى القتال لذلك أخذت أولا تذم الحرب ثم نصت على ما هو رأيها فقالت: «إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها» إلخ، أي إن الحرب لا تنتهي إلا إلى غلبة أحد المتحاربين و فيها فساد القرى و ذلة أعزتها فليس من الحزم الإقدام عليها مع قوة العدو و شوكته مهما كانت إلى السلم و الصلح سبيل إلا لضرورة و رأيي الذي أراه أن أرسل إليهم بهدية ثم أنظر بما ذا يرجع المرسلون من الخبر و عند ذلك أقطع بأحد الأمرين الحرب أو السلم.

فقوله: «إن الملوك إذا دخلوا» إلخ، توطئة لقوله بعد: «و إني مرسلة إليهم بهدية فناظرة» إلخ.

و قوله: «و جعلوا أعزة أهلها أذلة» أبلغ و آكد من قولنا مثلا: استذلوا أعزتها لأنه مع الدلالة على تحقق الذلة يدل على تلبسهم بصفة الذلة.

و قوله: «و كذلك يفعلون» مسوق للدلالة على الاستمرار بعد دلالة قوله: «أفسدوها و جعلوا أعزة أهلها أذلة» على أصل الوقوع، و قيل: إن الجملة من كلام الله سبحانه لا من تمام كلام ملكة سبإ و ليس بسديد إذ لا اقتضاء في المقام لمثل هذا التصديق.

قوله تعالى: «و إني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون» أي مرسلة إلى سليمان و هذا نوع من التجبر و الاعتزاز الملوكي تصون لسانها عن اسمه و تنسب الأمر إليه و إلى من معه جميعا و أيضا تشير به إلى أنه يفعل ما يفعل بأيدي أعضاده و جنوده و إمداد رعيته.

و قوله: «فناظرة بم يرجع المرسلون» أي حتى أعمل عند ذلك بما تقتضيه الحال و هذا - كما تقدم - هو رأي ملكة سبإ و يعلم من قوله: «المرسلون» أن الحامل للهدية كان جمعا من قومها كما يستفاد من قول سليمان بعد: «ارجع إليهم» أنه كان للقوم المرسلين رئيس يرأسهم.

قوله تعالى: «فلما جاء سليمان قال أ تمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون» ضمير جاء للمال الذي أهدي إليه أو للرسول الذي جاء بالهدية.

و الاستفهام في قوله: «أ تمدونن بمال» للتوبيخ و الخطاب للرسول و المرسل بتغليب الحاضر على الغائب، و توبيخ القوم من غير تعيين الملكة من بينهم نظير قولها فيما تقدم: «و إني مرسلة إليهم بهدية» كما أشرنا إليه.

و جوز أن يكون الخطاب للمرسلين و كانوا جماعة و هو خطأ فإن الإمداد لم يكن من المرسلين بل ممن أرسلهم فلا معنى لتوجيه التوبيخ إليهم خاصة، و تنكير المال للتحقير، و المراد بما آتاني الله الملك و النبوة.

و المعنى: أ تمدونني بمال حقير لا قدر له عندي في جنب ما آتاني الله فما آتاني الله من النبوة و الملك و الثروة خير مما آتاكم.

و قوله: «بل أنتم بهديتكم تفرحون» إضراب عن التوبيخ بإمداده بالمال إلى التوبيخ بفرحهم بهديتهم أي إن إمدادكم إياي بمال لا قدر له عندي في جنب ما آتاني الله قبيح و فرحكم بهديتكم لاستعظامكم لها و إعجابكم بها أقبح.

و قيل: المراد بهديتكم الهدية التي تهدى إليكم، و المعنى: بل أنتم تفرحون بما

يهدى إليكم من الهدية لحبكم زيادة المال و أما أنا فلا أعتد بمال الدنيا هذا.

و بعده ظاهر.

قوله تعالى: «ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها و لنخرجنهم منها أذلة و هم صاغرون» الخطاب لرئيس المرسلين، و ضمائر الجمع راجعة إلى ملكة سبإ و قومها، و القبل الطاقة، و ضمير «بها» لسبإ، و قوله: «و هم صاغرون» تأكيد لما قبله، و اللام في «فلنأتينهم» و «لنخرجنهم» للقسم.

لما كان ظاهر تبديلهم امتثال أمره - و هو قوله: «و أتوني مسلمين» من إرسال الهدية هو الاستنكاف عن الإسلام قدر بحسب المقام أنهم غير مسلمين له فهددهم بإرسال جنود لا قبل لهم بها و لذلك فرع إتيانهم بالجنود على رجوع الرسول من غير أن يشترطه بعدم إتيانهم مسلمين فقال: «ارجع إليهم فلنأتينهم» إلخ، و لم يقل: ارجع فإن لم يأتوني مسلمين فلنأتينهم إلخ، و إن كان مرجع المعنى إليه فإن إرسال الجنود و إخراجهم من سبإ على حال الذلة كان مشروطا به على أي حال.

و السياق يشهد أنه (عليه السلام) رد إليهم هديتهم و لم يقبلها منهم.

قوله تعالى: «قال يا أيها الملؤا أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين» كلام تكلم به بعد رد الهدية و إرجاع الرسل، و فيه إخباره أنهم سيأتونه مسلمين و إنما أراد الإتيان بعرشها قبل حضورها و قومها عنده ليكون دلالة ظاهرة على بلوغ قدرته الموهوبة من ربه و معجزة باهرة لنبوته حتى يسلموا لله كما يسلمون له و يستفاد ذلك من الآيات التالية.

قوله تعالى: «قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك و إني عليه لقوي أمين» العفريت - على ما قيل - المارد الخبيث، و قوله: «آتيك به» اسم فاعل أو فعل مضارع من الإتيان، و الأول أنسب للسياق لدلالته على التلبس بالفعل و كونه أنسب لعطف قوله: «و إني عليه» إلخ، و هو جملة اسمية عليه.

كذا قيل.

و قوله: «و إني عليه لقوي أمين» الضمير للإتيان أي أنا للإتيان بعرشها لقوي لا يثقل علي حمله و لا يجهدني نقله أمين لا أخونك في هذا الأمر.

قوله تعالى: «قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك» مقابلته لمن قبله دليل

على أنه كان من الإنس، و قد وردت الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أنه كان آصف بن برخيا وزير سليمان و وصيه، و قيل: هو الخضر، و قيل: رجل كان عنده اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أجاب و قيل: جبرئيل، و قيل: هو سليمان نفسه، و هي وجوه لا دليل على شيء منها.

و أيا ما كان و أي من كان ففصل الكلام مما قبله من غير أن يعطف عليه للاعتناء بشأن هذا العالم الذي أتى بعرشها إليه في أقل من طرفة العين، و قد اعتني بشأن علمه أيضا إذ نكر فقيل: علم من الكتاب أي علم لا يحتمل اللفظ وصفه.

و المراد بالكتاب الذي هو مبدأ هذا العلم العجيب إما جنس الكتب السماوية أو اللوح المحفوظ، و العلم الذي أخذه هذا العالم منه كان علما يسهل له الوصول إلى هذه البغية و قد ذكر المفسرون أنه كان يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أجاب، و ربما ذكر بعضهم أن ذلك الاسم هو الحي القيوم، و قيل: ذو الجلال و الإكرام، و قيل: الله الرحمن، و قيل: هو بالعبرانية آهيا شراهيا، و قيل: إنه دعا بقوله: يا إلهنا و إله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت ائتني بعرشها.

إلى غير ذلك مما قيل.

و قد تقدم في البحث عن الأسماء الحسنى في الجزء الثامن من الكتاب أن من المحال أن يكون الاسم الأعظم الذي له التصرف في كل شيء من قبيل الألفاظ و لا المفاهيم التي تدل عليها و تكشف عنها الألفاظ بل إن كان هناك اسم له هذا الشأن أو بعض هذا الشأن فهو حقيقة الاسم الخارجية التي ينطبق عليها مفهوم اللفظ نوعا من الانطباق و هي الاسم حقيقة و اللفظ الدال عليها اسم الاسم.

و لم يرد في لفظ الآية نبأ من هذا الاسم الذي ذكروه بل الذي تتضمنه الآية أنه كان عنده علم من الكتاب، و أنه قال: أنا آتيك به، و من المعلوم مع ذلك أن الفعل فعل الله حقيقة، و بذلك كله يتحصل أنه كان له من العلم بالله و الارتباط به ما إذا سأل ربه شيئا بالتوجه إليه لم يتخلف عن الاستجابة و إن شئت فقل: إذا شاءه الله سبحانه.

و يتبين مما تقدم أيضا أن هذا العلم لم يكن من سنخ العلوم الفكرية التي تقبل الاكتساب و التعلم.

و قوله: «أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك» الطرف - على ما قيل -

اللحظ و النظر و ارتداد الطرف وصول المنظور إليه إلى النفس و علم الإنسان به، فالمراد أنا آتيك به في أقل من الفاصلة الزمانية بين النظر إلى الشيء و العلم به.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي