الميزان في تفسير القرآن

سورة النور

35 - 46

اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لّا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (36) رِجَالٌ لّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ (40) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (46)

بيان

تتضمن الآيات مقايسة بين المؤمنين بحقيقة الإيمان و الكفار، تميز المؤمنين منهم بأن المؤمنين مهديون بأعمالهم الصالحة إلى نور من ربهم يفيدهم معرفة الله سبحانه و يسلك بهم إلى أحسن الجزاء و الفضل من الله تعالى يوم ينكشف عن قلوبهم و أبصارهم الغطاء، و الكفار لا تسلك بهم أعمالهم إلا إلى سراب لا حقيقة له، و هم في ظلمات بعضها فوق بعض و لم يجعل الله لهم نورا فما لهم من نور.

و قد بين سبحانه هذه الحقيقة بأن له تعالى نورا عاما تستنير به السماوات و الأرض فتظهر به في الوجود بعد ما لم تكن ظاهرة فيه، فمن البين أن ظهور شيء بشيء يستدعي كون المظهر ظاهرا بنفسه و الظاهر بذاته المظهر لغيره هو النور فهو تعالى نور يظهر السماوات و الأرض بإشراقه عليها كما أن الأنوار الحسية تظهر الأجسام

الكثيفة للحس بإشراقها عليها غير أن ظهور الأشياء بالنور الإلهي عين وجودها و ظهور الأجسام الكثيفة بالأنوار الحسية غير أصل وجودها.

و نورا خاصا يستنير به المؤمنون و يهتدون إليه بأعمالهم الصالحة و هو نور المعرفة الذي سيستنير به قلوبهم و أبصارهم يوم تتقلب فيه القلوب و الأبصار فيهتدون به إلى سعادتهم الخالدة فيشاهدون فيه شهود عيان ما كان في غيب عنهم في الدنيا، و مثل تعالى هذا النور بمصباح في زجاجة في مشكاة يشتعل من زيت في نهاية الصفاء فتتلألأ الزجاجة كأنها كوكب دري فتزيد نورا على نور، و المصباح موضوع في بيوت العبادة التي يسبح الله فيها رجال من المؤمنين لا تلهيهم عن ذكر ربهم و عبادته تجارة و لا بيع.

فهذه صفة ما أكرم الله به المؤمنين من نور معرفته المتعقب للسعادة الخالدة، و حرمه على الكافرين و تركهم في ظلمات لا يبصرون، فخص من اشتغل بربه و أعرض عن عرض الحياة الدنيا بنور من عنده، و الله يفعل ما يشاء له الملك و إليه المصير يحكم بما أراد ينزل الودق و البرد من سحاب واحد، و يقلب الليل و النهار، و يجعل من الحيوان من يمشي على بطنه و من يمشي على رجلين و من يمشي على أربع و قد خلق الكل من ماء.

و الآيات غير فاقدة للاتصال بما قبلها لما أن بيان الأحكام و الشرائع فيما تقدم انتهى إلى مثل قوله: «و لقد أنزلنا إليكم آيات مبينات و مثلا من الذين خلوا من قبلكم و موعظة للمتقين» و البيان إظهار لحقائق المعارف فهو تنوير إلهي.

على أن الآيات قرآن و قد سمى سبحانه القرآن في مواضع من كلامه نورا كقوله: «و أنزلنا إليكم نورا مبينا»: النساء: 174.

قوله تعالى: «الله نور السماوات و الأرض» إلى آخر الآية.

المشكاة على ما ذكره الراغب و غيره: كوة غير نافذة و هي ما يتخذ في جدار البيت من الكو لوضع بعض الأثاث كالمصباح و غيره عليه و هو غير الفانوس.

و الدري: من الكواكب العظيم الكثير النور، و هو معدود في السماء، و الإيقاد: الإشعال، و الزيت: الدهن المتخذ من الزيتون.

و قوله: «الله نور السماوات و الأرض» النور معروف و هو الذي يظهر به الأجسام الكثيفة لأبصارنا فالأشياء ظاهرة به و هو ظاهر مكشوف لنا بنفس ذاته فهو الظاهر بذاته المظهر لغيره من المحسوسات للبصر.

هذا أول ما وضع عليه لفظ النور ثم عمم لكل ما ينكشف به شيء من المحسوسات على نحو الاستعارة أو الحقيقة الثانية فعد كل من الحواس نورا أو ذا نور يظهر به محسوساته كالسمع و الشم و الذوق و اللمس.

ثم عمم لغير المحسوس فعد العقل نورا يظهر به المعقولات كل ذلك بتحليل معنى النور المبصر إلى الظاهر بذاته المظهر لغيره.

و إذ كان وجود الشيء هو الذي يظهر به نفسه لغيره من الأشياء كان مصداقا تاما للنور، ثم لما كانت الأشياء الممكنة الوجود إنما هي موجودة بإيجاد الله تعالى كان هو المصداق الأتم للنور فهناك وجود و نور يتصف به الأشياء و هو وجودها و نورها المستعار المأخوذ منه تعالى و وجود و نور قائم بذاته يوجد و يستنير به الأشياء.

فهو سبحانه نور يظهر به السماوات و الأرض، و هذا هو المراد بقوله: «الله نور السماوات و الأرض» حيث أضيف النور إلى السماوات و الأرض ثم حمل على اسم الجلالة، و على هذا ينبغي أن يحمل قول من قال: إن المعنى الله منور السماوات و الأرض، و عمدة الغرض منه أن ليس المراد بالنور النور المستعار القائم بها و هو الوجود الذي يحمل عليها تعالى الله عن ذلك و تقدس.

و من ذلك يستفاد أنه تعالى غير مجهول لشيء من الأشياء إذ ظهور كل شيء لنفسه أو لغيره إنما هو عن إظهاره تعالى فهو الظاهر بذاته له قبله، و إلى هذه الحقيقة يشير قوله تعالى بعد آيتين: «أ لم تر أن الله يسبح له من في السماوات و الأرض و الطير صافات كل قد علم صلاته و تسبيحه» إذ لا معنى للتسبيح و العلم به و بالصلاة مع الجهل بمن يصلون له و يسبحونه فهو نظير قوله: «و إن من شيء إلا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم»: إسراء: 44، و سيوافيك البحث عنه إن شاء الله.

فقد تحصل أن المراد بالنور في قوله: «الله نور السماوات و الأرض» نوره تعالى من حيث يشرق منه النور العام الذي يستنير به كل شيء و هو مساو لوجود كل شيء و ظهوره في نفسه و لغيره و هي الرحمة العامة.

و قوله: «مثل نوره» يصف تعالى نوره، و إضافة النور إلى الضمير الراجع إليه تعالى - و ظاهره الإضافة اللامية - دليل على أن المراد ليس هو وصف النور الذي هو الله بل النور المستعار الذي يفيضه، و ليس هو النور العام المستعار الذي يظهر به كل شيء و هو الوجود الذي يستفيضه منه الأشياء و تتصف، به و الدليل عليه قوله بعد تتميم المثل: «يهدي الله لنوره من يشاء» إذ لو كان هو النور العام لم يختص به شيء دون شيء بل هو نوره الخاص بالمؤمنين بحقيقة الإيمان على ما يفيده الكلام.

و قد نسب تعالى في سائر كلامه إلى نفسه نورا كما في قوله: «يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم و الله متم نوره»: الصف: 8، و قوله: «أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها»: الأنعام: 122 و قوله: «يؤتكم كفلين من رحمته و يجعل لكم نورا تمشون به»: الحديد: 28، و قوله: «أ فمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه»: الزمر: 22، و هذا هو النور الذي يجعله الله لعباده المؤمنين يستضيئون به في طريقهم إلى ربهم و هو نور الإيمان و المعرفة.

و ليس المراد به القرآن كما قاله بعضهم فإن الآية تصف حال عامة المؤمنين قبل نزول القرآن و بعده.

على أن هذا النور وصف لهم يتصفون به كما يشير إليه قوله: «لهم أجرهم و نورهم»: الحديد: 19 و قوله: «يقولون ربنا أتمم لنا نورنا»: التحريم: 8، و القرآن ليس وصفا لهم و إن لوحظ باعتبار ما يكشف عنه من المعارف رجع إلى ما قلناه.

و قوله: «كمشكوة فيها مصباح المصباح في زجاجة» المشبه به مجموع ما ذكر من قوله مشكاة فيها مصباح المصباح «إلخ» لا مجرد المشكاة و إلا فسد المعنى، و هذا كثير في تمثيلات القرآن.

و قوله: «الزجاجة كأنها كوكب دري» تشبيه الزجاجة بالكوكب الدري من جهة ازدياد لمعان نور المصباح و شروقه بتركيب الزجاجة على المصباح فتزيد الشعلة بذلك سكونا من غير اضطراب بتموج الأهوية و ضرب الرياح فهي كالكوكب الدري في تلألؤ نورها و ثبات شروقها.

و قوله: «يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية و لا غربية يكاد زيتها يضيء و لو لم تمسسه نار» خبر بعد خبر للمصباح أي المصباح يشتعل آخذا اشتعاله من شجرة مباركة زيتونة أي إنه يشتعل من دهن زيت مأخوذ منها، و المراد بكون الشجرة لا شرقية و لا غربية أنها ليست نابتة في الجانب الشرقي و لا في الجانب الغربي حتى تقع الشمس عليها في أحد طرفي النهار و يفيء الظل عليها في الطرف الآخر فلا تنضج ثمرتها فلا يصفو الدهن المأخوذ منها فلا تجود الإضاءة بل هي ضاحية تأخذ من الشمس حظها طول النهار فيجود دهنها لكمال نضج ثمرتها.

و الدليل على هذا المعنى قوله: «يكاد زيتها يضيء و لو لم تمسسه نار» فإن ظاهر السياق أن المراد به صفاء الدهن و كمال استعداده للاشتعال و أن ذلك متفرع على الوصفين: لا شرقية و لا غربية.

و أما قول بعضهم: إن المراد بقوله: «لا شرقية و لا غربية» أنها ليست من شجر الدنيا حتى تنبت إما في شرق أو في غرب، و كذا قول آخرين: إن المراد أنها ليست من شجر شرق المعمورة و لا من شجر غربها بل من شجر الشام الواقع بين الشرق و الغرب و زيته أفضل الزيت فغير مفهوم من السياق.

و قوله: «نور على نور» خبر لمبتدإ محذوف و هو ضمير راجع إلى نور الزجاجة المفهوم من السياق، و المعنى نور الزجاجة المذكور نور عظيم على نور كذلك أي في كمال التلمع.

و المراد من كون النور على النور قيل: هو تضاعف النور لا تعدده فليس المراد به أنه نور معين أو غير معين فوق نور آخر مثله، و لا أنه مجموع نورين اثنين فقط بل أنه نور متضاعف من غير تحديد لتضاعفه و هذا التعبير شائع في الكلام.

و هذا معنى لا يخلو من جودة و إن كان إرادة التعدد أيضا لا تخلو من لطف و دقة فإن للنور الشارق من المصباح نسبة إليه بالأصالة و الحقيقة و نسبة إلى الزجاجة التي عليه بالاستعارة و المجاز، و يتغاير النور بتغاير النسبتين و يتعدد بتعددهما و إن لم يكن بحسب الحقيقة إلا للمصباح و الزجاجة صفر الكف منه فللزجاجة بالنظر إلى تعدد النسب نور غير نور المصباح و هو قائم به و مستمد منه.

و هذا الاعتبار جار بعينه في الممثل له فإن نور الإيمان و المعرفة نور مستعار مشرق على قلوب المؤمنين مقتبس من نوره تعالى قائم به مستمد منه.

فقد تحصل أن الممثل له هو نور الله المشرق على قلوب المؤمنين و المثل هو المشبه به النور المشرق من زجاجة على مصباح موقد من زيت جيد صاف و هو موضوع في مشكاة فإن نور المصباح المشرق من الزجاجة و المشكاة تجمعه و تعكسه على المستنيرين به يشرق عليهم في نهاية القوة و الجودة.

فأخذ المشكاة للدلالة على اجتماع النور في بطن المشكاة و انعكاسه إلى جو البيت، و اعتبار كون الدهن من شجرة زيتونة لا شرقية و لا غربية للدلالة على صفاء الدهن و جودته المؤثر في صفاء النور المشرق عن اشتعاله و جودة الضياء على ما يدل عليه كون زيته يكاد يضيء و لو لم تمسسه نار، و اعتبار كون النور على النور للدلالة على تضاعف النور أو كون الزجاجة مستمدة من نور المصباح في إنارتها.

و قوله: «يهدي الله لنوره من يشاء» استئناف يعلل به اختصاص المؤمنين بنور الإيمان و المعرفة و حرمان غيرهم، فمن المعلوم من السياق أن المراد بقوله: «من يشاء» القوم الذين ذكرهم بقوله بعد: «رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله» إلخ، فالمراد بمن يشاء المؤمنون بوصف كمال إيمانهم.

و المعنى: أن الله إنما هدى المتلبسين بكمال الإيمان إلى نوره دون المتلبسين بالكفر - الذين سيذكرهم بعد - لمجرد مشيته، و ليس المعنى أن الله يهدي بعض الأفراد إلى نوره دون بعض بمشيته ذلك حتى يحتاج في تتميمه إلى القول بأنه إنما يشاء الهداية إذا استعد المحل إلى الهداية بحسن السريرة، و السيرة و ذلك مما يختص به أهل الإيمان دون أهل الكفر فافهمه.

و الدليل على ذلك ما سيأتي من قوله: «و لله ملك السماوات و الأرض» إلى آخر الآيات بالبيان الآتي إن شاء الله.

و قوله: «و يضرب الله الأمثال للناس و الله بكل شيء عليم» إشارة إلى أن المثل المضروب تحته طور من العلم، و إنما اختير المثل لكونه أسهل الطرق لتبيين الحقائق و الدقائق و يشترك فيه العالم و العامي فيأخذ منه كل ما قسم له، قال تعالى:

«و تلك الأمثال نضربها للناس و ما يعقلها إلا العالمون»: العنكبوت: 43.

قوله تعالى: «في بيوت أذن الله أن ترفع و يذكر فيها اسمه» الإذن في الشيء هو إعلام ارتفاع المانع عن فعله، و المراد بالرفع رفع القدر و المنزلة و هو التعظيم، و إذ كانت العظمة و العلو لله تعالى لا يشاركه في ذلك غيره إلا أن ينتسب إليه، و بمقدار ما ينتسب إليه فالإذن منه تعالى في أن ترفع هذه البيوت إنما هو لانتساب ما منها إليه.

و بذلك يظهر أن السبب لرفعها هو ما عطف عليه من ذكر اسمه فيها، و السياق يدل على الاستمرار أو التهيؤ له فيعود المعنى إلى مثل قولنا: «أن يذكر فيها اسمه فيرتفع قدرها بذلك».

و قوله: «في بيوت» متعلق بقوله في الآية السابقة: «كمشكوة» أو قوله: «يهدي الله» إلخ، و المال واحد، و من المتيقن من هذه البيوت المساجد فإنها معدة لذكر اسمه فيها ممحضة لذلك، و قد قال تعالى: «و مساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا»: الحج: 40.

قوله تعالى: «يسبح له فيها بالغدو و الآصال رجال» إلى آخر الآية.

تسبيحه تعالى تنزيهه عن كل ما لا يليق بساحة قدسه، و الغدو جمع غداة و هو الصبح و الآصال جمع أصيل و هو العصر، و الإلهاء صرف الإنسان عما يعنيه و يهمه، و التجارة على ما قاله الراغب: التصرف في رأس المال طلبا للربح.

قال: و ليس في كلامهم تاء بعدها جيم غير هذا اللفظ.

و البيع على ما قال: إعطاء المثمن و أخذ الثمن، و قلب الشيء على ما ذكره صرف الشيء من وجه إلى وجه، و التقليب مبالغة فيه و التقلب قبوله فتقلب القلوب و الأبصار تحول منها من وجه من الإدراك إلى وجه آخر.

و قوله: «يسبح له فيها بالغدو و الآصال» صفة لبيوت أو استئناف لبيان قوله: «و يذكر فيها اسمه»، و كون التسبيح بالغدو و الآصال كناية عن استمرارهم فيه لا أن التسبيح مقصور في الوقتين لا يسبح له في غيرهما.

و الاكتفاء بالتسبيح من غير ذكر التحميد معه لأنه تعالى معلوم بجميع صفاته الكمالية لا سترة عليه إذ المفروض أنه نور و النور هو الظاهر بذاته المظهر لغيره و إنما يحتاج خلوص المعرفة إلى نفي النقائص عنه و تنزيهه عما لا يليق به فإذا تم التسبيح لم

يبق معه غيره و تمت المعرفة ثم إذا تمت المعرفة وقع الثناء و الحمد و بالجملة التوصيف بصفات الكمال موقعه بعد حصول المعرفة كما قال تعالى: «سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين»: الصافات: 160، فنزهه عما يصفونه به إلا ما وصفه به من أخلصهم لنفسه من عباده، و قد تقدم في تفسير سورة الحمد كلام في معنى حمده تعالى.

و ببيان آخر حمده تعالى و هو ثناؤه بصفة الكمال مساوي لحصول نور المعرفة و تسبيحه و هو التنزيه بنفي ما لا يليق به عنه مقدمة لحصوله، و الآية في مقام بيان خصالهم التي تستدعي هدايتهم إلى نوره فلا جرم اقتصر فيها بذكر ما هي المقدمة و هو التسبيح، فافهم ذلك.

و قوله: «رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع» التجارة إذا قوبلت بالبيع كان المفهوم منها بحسب العرف الاستمرار في الاكتساب بالبيع و الشراء و البيع هو العمل الاكتسابي الدفعي فالفرق بينهما هو الفرق بين الدفعة و الاستمرار فمعنى نفي البيع بعد نفي التجارة مع كونه منفيا بنفيها الدلالة على أنهم لا يلهون عن ربهم في مكاسبهم دائما و لا في وقت من الأوقات، و بعبارة أخرى لا تنسيهم ربهم تجارة مستمرة و لا بيع ما من البيوع التي يوقعونها مدة تجارتهم.

و قيل: الوجه في نفي البيع بعد نفي إلهاء التجارة أن الربح في البيع ناجز بالفعل بخلاف التجارة التي هي الحرفة، فعدم إلهاء التجارة لا يستلزم عدم إلهاء البيع الرابح بالفعل، و لذلك نفى البيع ثانيا بعد نفي إلهاء التجارة و لذلك كررت لفظة «لا» لتذكير النفي و تأكيده، و هو وجه حسن.

و قوله: «عن ذكر الله و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة» الإقام هو الإقامة بحذف التاء تخفيفا.

و المراد بإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة الإتيان بجميع الأعمال الصالحة التي كلف الله تعالى عباده بإتيانها في حياتهم الدنيا، و إقامة الصلاة ممثلة لإتيان ما للعبد من وظائف العبودية مع الله سبحانه، و إيتاء الزكاة ممثل لوظائفه مع الخلق و ذلك لكون كل منها ركنا في بابه.

و المقابلة بين ذكر الله و بين إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و هما - و خاصة الصلاة -

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي