الميزان في تفسير القرآن

سورة النور

35 - 46

تابع
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لّا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (36) رِجَالٌ لّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ (40) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (46)

من ذكر الله يعطي أن يكون المراد بذكر الله الذكر القلبي الذي يقابل النسيان و الغفلة و هو ذكر علمي كما أن أمثال الصلاة و الزكاة ذكر عملي.

فالمقابلة المذكورة تعطي أن المراد بقوله: «عن ذكر الله و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة» أنهم لا يشتغلون بشيء عن ذكرهم المستمر بقلوبهم لربهم و ذكرهم الموقت بأعمالهم من الصلاة و الزكاة، و عند ذلك يظهر حسن التقابل بين التجارة و البيع و بين ذكر الله و إقام الصلاة إلخ، لرجوع المعنى إلى أنهم لا يلهيهم مله مستمر و لا موقت عن الذكر المستمر و الموقت، فافهم ذلك.

و قوله: «يخافون يوما تتقلب فيه القلوب و الأبصار» هذا هو يوم القيامة، و المراد بالقلوب و الأبصار ما يعم قلوب المؤمنين و الكافرين و أبصارهم لكون القلوب و الأبصار جمعا محلى باللام و هو يفيد العموم.

و أما تقلب القلوب و الأبصار فالآيات الواصفة لشأن يوم القيامة تدل على أنه بظهور حقيقة الأمر و انكشاف الغطاء كما قال تعالى: «فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد»: ق: 22، و قال: «و بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون: الزمر: 47، إلى غير ذلك من الآيات.

فتنصرف القلوب و الأبصار يومئذ عن المشاهدة و الرؤية الدنيوية الشاغلة عن الله الساترة للحق و الحقيقة إلى سنخ آخر من المشاهدة و الرؤية و هو الرؤية بنور الإيمان و المعرفة فيتبصر المؤمن بنور ربه و هو نور الإيمان و المعرفة فينظر إلى كرامة الله، و يعمى الكافر و لا يجد إلا ما يسوؤه قال تعالى: «و أشرقت الأرض بنور ربها،»: الزمر: 69 و قال: «يوم ترى المؤمنين و المؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم و بأيمانهم»: الحديد: 12، و قال: «و من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى»: الإسراء: 72، و قال: «وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة»: القيامة: 23 و قال: «كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون»: المطففين: 15.

و قد تبين بما مر: أولا: وجه اختصاص هذه الصفة أعني تقلب القلوب و الأبصار من بين أوصاف يوم القيامة بالذكر و ذلك أن الكلام مسوق لبيان ما يتوسل به إلى هدايته تعالى إلى

نوره و هو نور الإيمان و المعرفة الذي يستضاء به يوم القيامة و يبصر به.

و ثانيا: أن المراد بالقلوب و الأبصار النفوس و بصائرها.

و ثالثا: أن توصيف اليوم بقوله: «تتقلب فيه القلوب و الأبصار» لبيان سبب الخوف فهم إنما يخافون اليوم لما فيه من تقلب القلوب و الأبصار، و إنما يخافون هذا التقلب لما في أحد شقيه من الحرمان من نور الله و النظر إلى كرامته و هو الشقاء الدائم و العذاب الخالد و في الحقيقة يخافون أنفسهم.

قوله تعالى: «ليجزيهم الله أحسن ما عملوا و يزيدهم من فضله و الله يرزق من يشاء بغير حساب» الظاهر أن لام «ليجزيهم» للغاية، و الذي ذكره الله في خلال الكلام هو أعمالهم الصالحة و الأجر الجميل على كل صالح مما ينص عليه كلامه تعالى فقوله: إنه يجزيهم أحسن ما عملوا معناه أنه يجزيهم بإزاء عملهم في كل باب جزاء أحسن عمل في ذلك الباب، و مرجع ذلك إلى أنه تعالى يزكي أعمالهم فلا يناقش فيها بالمؤاخذة في جهات توجب نقصها و انحطاط قدرها فيعد الحسن منها أحسن.

و يؤيد هذا المعنى قوله في ذيل الآية: «و الله يرزق من يشاء بغير حساب» فإن ظاهره عدم المداقة في حساب الحسنات بالإغماض عن جهات نقصها فيلحق الحسن بالأحسن.

و قوله: «و يزيدهم من فضله» الفضل العطاء، و هذا نص في أنه تعالى يعطيهم من فضله ما ليس بإزاء أعمالهم الصالحة، و أوضح منه قوله تعالى في موضع آخر: «لهم ما يشاءون فيها و لدينا مزيد»: ق: 35، حيث إن ظاهره أن هذا المزيد الموعود أمر وراء ما تتعلق به مشيتهم.

و قد دل كلامه سبحانه أن أجرهم أن لهم ما يشاءون قال تعالى: «أولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين»: الزمر: 34، و قال: «أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء و مصيرا لهم فيها ما يشاءون خالدين»: الفرقان: 16، و قال: «لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزي الله المتقين»: النحل: 31.

فهذا المزيد الذي هو وراء جزاء الأعمال أمر أعلى و أعظم من أن تتعلق به مشية الإنسان أو يوصل إليه سعيه، و هذا أعجب ما يعده القرآن المؤمنين و يبشرهم به فأجد التدبر فيه.

و قوله: «و الله يرزق من يشاء بغير حساب» استئناف مآله تعليل الجملتين السابقتين بالمشية نظير قوله فيما تقدم: «يهدي الله لنوره من يشاء» على ما مر بيانه.

و محصله أنهم عملوا صالحا و كان لهم من الأجر ما يعادل عملهم كما هو ظاهر قوله: «و توفى كل نفس ما عملت»: النحل: 111، و ما في معناه من الآيات لكنه تعالى يجزيهم لكل عمل من أعمالهم جزاء أحسن عمل يؤتى به في بابه من غير أن يداق في الحساب فهذه موهبة ثم يرزقهم أمرا هو أعلى و أرفع من أن تتعلق به مشيتهم و هذه أيضا موهبة و رزق بغير حساب، و الرزق من الله موهبة محضة من غير أن يملك المرزوقون منه شيئا أو يستحقوه عليه تعالى فله تعالى أن يخص منه ما يشاء لمن يشاء.

غير أنه تعالى وعدهم الرزق و أقسم على إنجازه في قوله: «فورب السماء و الأرض إنه لحق»: الذاريات: 23، فملكهم الاستحقاق لأصله و هو الذي يجزيهم به على قدر أعمالهم و أما الزائد عليه فلم يملكهم ذلك فله أن يختص به من يشاء فلا يعلل ذلك إلا بمشية و للكلام تتمة ستوافيك إن شاء الله في بحث مستقل.

قوله تعالى: «و الذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء» إلى آخر الآية.

السراب هو ما يلمع في المفازة كالماء و لا حقيقة له، و القيع و القاع هو المستوي من الأرض و مفرداهما القيعة و القاعة كالتينة و التمرة، و الظمآن هو العطشان.

لما ذكر سبحانه المؤمنين و وصفهم بأنهم ذاكرون له في بيوت معظمة لا تلهيهم عنه تجارة و لا بيع، و أن الله الذي هو نور السماوات و الأرض يهديهم بذلك إلى نوره فيكرمهم بنور معرفته قابل ذلك بذكر الذين كفروا فوصف أعمالهم تارة بأنها لا حقيقة لها كسراب بقيعة فلا غاية لها تنتهي إليها، و تارة بأنها كظلمات بعضها فوق بعض لا نور معها و هي حاجزة عن النور، و هذه الآية هي التي تتضمن الوصف الأول.

فقوله: «و الذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا» شبه أعمالهم - و هي التي يأتون بها من قرابين و أذكار و غيرهما من

عباداتهم يتقربون بها إلى آلهتهم - بسراب بقيعة يحسبه الإنسان ماء و لا حقيقة له يترتب عليها ما يترتب على الماء من رفع العطش و غير ذلك.

و إنما قيل: يحسبه الظمآن ماء مع أن السراب يتراءى ماء لكل راء لأن المطلوب بيان سيره إليه و لا يسير إليه إلا الظمآن يدفعه إليه ما به من ظمإ، و لذلك رتب عليه قوله: «حتى إذا جاءه لم يجده شيئا»، كأنه قيل: كسراب بقيعة يتخيله الظمآن ماء فيسير إليه و يقبل نحوه ليرتوي و يرفع عطشه به، و لا يزال يسير حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.

و التعبير بقوله: «جاءه» دون أن يقال: بلغه أو وصل إليه أو انتهى إليه و نحوها للإيماء إلى أن هناك من يريد مجيئه و ينتظره انتظارا و هو الله سبحانه، و لذلك أردفه بقوله: «و وجد الله عنده فوفاه حسابه» فأفاد أن هؤلاء يريدون بأعمالهم الظفر بأمر تبعثهم نحوه فطرتهم و جبلتهم و هو السعادة التي يريدها كل إنسان بفطرته و جبلته لكن أعمالهم لا توصلهم إليه، و لا أن الآلهة التي يبتغون بأعمالهم جزاء حسنا منهم لهم حقيقة بل الذي ينتهي إليه أعمالهم و يحيط هو بها و يجزيهم هو الله سبحانه فيوفيهم حسابهم، و توفية الحساب كناية عن الجزاء بما يستوجبه حساب الأعمال و إيصال ما يستحقه صاحب الأعمال.

ففي الآية تشبيه أعمالهم بالسراب، و تشبيههم بالظمآن الذي يريد الماء و عنده عذب الماء لكنه يعرض عنه و لا يصغي إلى مولاه الذي ينصحه و يدعوه إلى شربه بل يحسب السراب ماء فيسير إليه و يقبل نحوه، و تشبيه مصيرهم إلى الله سبحانه بحلول الآجال و عند ذلك تمام الأعمال بالظمآن السائر إلى السراب إذا جاءه و عنده مولاه الذي كان ينصحه و يدعوه إلى شرب الماء.

فهؤلاء قوم ألهوا عن ذكر ربهم و الأعمال الصالحة الهادية إلى نوره و فيه سعادتهم و حسبوا أن سعادتهم عند غيره من الآلهة الذين يدعونهم و الأعمال المقربة إليهم و فيها سعادتهم فأكبوا على تلك الأعمال السرابية و استوفوا ما يمكنهم أن يأتوا بها مدة أعمارهم حتى حلت آجالهم و شارفوا الدار الآخرة فلم يجدوا شيئا مما يؤملونه من أعمالهم و لا أثرا من ألوهية آلهتهم فوفاهم الله حسابهم و الله سريع الحساب.

و قوله: «و الله سريع الحساب» إنما هو لإحاطة علمه بالقليل و الكثير و الحقير و الخطير و الدقيق و الجليل و المتقدم و المتأخر على حد سواء.

و اعلم أن الآية و إن كان ظاهرها بيان حال الكفار من أهل الملل و خاصة المشركين من الوثنيين لكن البيان جار في غيرهم من منكري الصانع فإن الإنسان كائنا من كان يرى لنفسه سعادة في الحياة و لا يرتاب أن الوسيلة إلى نيلها أعماله التي يأتي بها فإن كان ممن يقول بالصانع و يراه المؤثر في سعادته بوجه من الوجوه توسل بأعماله إلى تحصيل رضاه و الفوز بالسعادة التي يقدرها له، و إن كان ممن ينكره و ينهي التأثير إلى غيره توسل بأعماله إلى توجيه ما يقول به من المؤثر كالدهر و الطبيعة و المادة نحو سعادة حياته الدنيا التي لا يقول بما وراءها.

فهؤلاء يرون المؤثر الذي بيده سعادة حياتهم غيره تعالى و لا مؤثر غيره و يرون مساعيهم الدنيوية موصلة لهم إلى سعادتهم و ليست إلا سرابا لا حقيقة له و لا يزالون يسعون حتى إذا تم ما قدر لهم من الأعمال بحلول ما سمي لهم من الآجال لم يجدوا عندها شيئا و عاينوا أن ما كانوا يتمنون منها لم يكن إلا طائف خيال أو حلم نائم، و عند ذلك يوفيهم الله حسابهم و الله سريع الحساب.

قوله تعالى: «أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب» تشبيه ثان لأعمالهم يظهر به أنها حجب متراكمة على قلوبهم تحجبهم عن نور المعرفة، و قد تكرر في كلامه تعالى أنهم في الظلمات كقوله: «و الذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات»: البقرة: 257، و قوله: «كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها»: الأنعام: 122، و قوله: «كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون»: المطففين: 15.

و قوله: «أو كظلمات في بحر لجي» معطوف على «سراب» في الآية السابقة، و البحر اللجي هو البحر المتردد أمواجه منسوب إلى لجة البحر و هي تردد أمواجه، و المعنى: أعمالهم كظلمات كائنة في بحر لجي.

و قوله: «يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب» صفة البحر جيء بها لتقرير الظلمات المفروضة فيه فصفته أنه يغشاه و يحيط به موج كائن من فوقه موج آخر

كائن من فوقه سحاب يحجبنه جميعا من الاستضاءة بأضواء الشمس و القمر و النجوم.

و قوله: «ظلمات بعضها فوق بعض» تقرير لبيان أن المراد بالظلمات المفروضة الظلمات المتراكمة بعضها على بعض دون المتفرقة، و قد أكد ذلك بقوله: «إذا أخرج يده لم يكد يراها» فإن أقرب ما يشاهده الإنسان منه هو نفسه و هو أقدر على رؤية يده منه على سائر أعضائه لأنه يقربها تجاه باصرته كيفما أراد فإذا أخرج يده و لم يكد يراها كانت الظلمة بالغة.

فهؤلاء و هم سائرون إلى الله و صائرون إليه من جهة أعمالهم كراكب بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب في ظلمات متراكمة كأشد ما يكون و لا نور هناك يستضيء به فيهتدي إلى ساحل النجاة.

و قوله: «و من لم يجعل الله له نورا فما له من نور» نفي للنور عنهم بأن الله لم يجعله لهم، كيف لا؟ و جاعل النور هو الله الذي هو نور كل شيء، فإذا لم يجعل لشيء نورا لم يكن له نورا إذ لا جاعل غيره تعالى.

قوله تعالى: «أ لم تر أن الله يسبح له من في السماوات و الأرض و الطير صافات» إلى آخر الآية، لما ذكر سبحانه أنه نور تستنير به السماوات و الأرض و أنه يختص بمزيد نوره المؤمنين من عباده و الذين كفروا لا نصيب لهم من ذلك شرع يحتج على ذلك بما في هذه الآية و الآيات الأربع التالية لها.

فكونه تعالى نور السماوات و الأرض يدل عليه أن ما في السماوات و الأرض موجود بوجود ليس من عنده و لا من عند شيء مما فيهما لكونه مثله في الفاقة، فوجود ما فيهما من موجود من الله الذي ينتهي إليه الحاجات.

فوجود كل شيء مما فيهما كما يظهر به نفس الوجود يدل على من يظهره بما أفاض عليه من الوجود فهو نور يستنير به الشيء و يدل على منوره بما أشرق عليه من النور و أن هناك نورا يستنير به كل شيء فكل شيء مما فيهما يدل على أن وراءه شيئا منزها من الظلمة التي غشيته، و الفاقة التي لزمته، و النقص الذي لا ينفك عنه، و هذا هو تسبيح ما في السماوات و الأرض له سبحانه، و لازمه نفي الاستقلال عن كل من سواه و سلب أي إله و رب يدبر الأمر دونه تعالى.

و إلى ذلك يشير قوله: «أ لم تر أن الله يسبح له من في السماوات و الأرض و الطير صافات كل قد علم صلاته و تسبيحه» و به يحتج تعالى على كونه نور السماوات و الأرض لأن النور هو ما يظهر به الشيء المستنير ثم يدل بظهوره على مظهره، و هو تعالى يظهر و يوجد بإظهاره و إيجاده الأشياء ثم يدل على ظهوره و وجوده.

و تزيد الآية بالإشارة إلى لطائف يكمل بها البيان: منها: اختصاصها من في السماوات و الأرض و الطير صافات و هم العقلاء و بعض ذوات الروح بالذكر مع عموم التسبيح لغيرهم لقوله: «و إن من شيء إلا يسبح بحمده».

و لعل ذلك من باب اختيار أمور من أعاجيب الخلقة للذكر فإن ظهور الموجود العاقل الذي يدل عليه لفظ «من في السماوات و الأرض» من عجيب أمر الخلقة الذي يدهش لب ذي اللب، كما أن صفيف الطير الصافات في الجو من أعجب ما يرى من أعمال الحيوان ذي الشعور و أبدعه.

و يظهر من بعضهم أن المراد بقوله: «من في السماوات» إلخ، جميع الأشياء و إنما عبر بلفظ أولي العقل لكون التسبيح المنسوب إليها من شئون أولي العقل أو للتنبيه على قوة تلك الدلالة و وضوح تلك الإشارة تنزيلا للسان الحال منزلة المقال.

و فيه أنه لا يلائم إسناد العلم إليها في قوله بعد: «كل قد علم صلاته و تسبيحه».

و منها: تصدير الكلام بقوله: «أ لم تر» و فيه دلالة على ظهور تسبيحهم و وضوح دلالتهم على التنزيه بحيث لا يرتاب فيه ذو ريب فكثيرا ما يعبر عن العلم الجازم بالرؤية كما في قوله تعالى: «أ لم تر أن الله خلق السماوات و الأرض»: إبراهيم: 19، و الخطاب فيه عام لكل ذي عقل و إن كان خاصا بحسب اللفظ.

و من الممكن أن يكون خطابا خاصا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد كان أراه الله تسبيح من في السماوات و الأرض و الطير صافات فيما أراه من ملكوت السماوات و الأرض و ليس ببدع منه (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد أرى الناس تسبيح الحصاة في كفه كما وردت به الأخبار المعتبرة.

و منها: أن الآية تعمم العلم لكل ما ذكر في السماوات و الأرض و الطير، و قد تقدم بعض البحث عنه في تفسير قوله: «و إن من شيء إلا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم»: الإسراء: 44، و ستجيء تتمة الكلام فيه في تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله.

و قول بعضهم: إن الضمير في قوله: «قد علم» راجع إليه تعالى، يدفعه عدم ملائمته للسياق و خاصة لقوله بعده: «و الله عليم بما يفعلون» و نظيره قول آخرين: إن إسناد العلم إلى مجموع ما تقدم من المجاز بتنزيل غير العالم منزلة العالم لقوة دلالته على تسبيحه و تنزيهه.

و منها: تخصيصها التسبيح بالذكر مع أن الأشياء تشير إلى صفات كماله تعالى و هو التحميد كما تسبحه على ما يدل عليه البرهان و يؤيده قوله: «و إن من شيء إلا يسبح بحمده» و لعل الوجه فيه كون الآيات مسوقة للتوحيد و نفي الشركاء و ذلك بالتنزيه أمس فإن من يدعو من دون الله إلها آخر أو يركن إلى غيره نوعا من الركون إنما يكفر بإثبات خصوصية وجود ذلك الشيء للإله تعالى فنفيه إنما يتأتى بالتنزيه دون التحميد فافهمه.

و أما قوله: «كل قد علم صلاته و تسبيحه» فصلاته دعاؤه و الدعاء توجيه من الداعي للمدعو إلى حاجته ففيه دلالة على حاجة عند الداعي المدعو في غنى عنها فهو أقرب إلى الدلالة على التنزيه منه على الثناء و التحميد.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي