الميزان في تفسير القرآن

سورة النور

11 - 26

تابع
إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ (12) لَوْلا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُولَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)

في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و أحمد و البخاري و عبد بن حميد و مسلم و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي في الشعب عن عائشة قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أراد أن يخرج إلى سفر أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) معه. قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي فخرجت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ما نزل الحجاب و أنا أحمل في هودجي و أنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من غزوته تلك و قفل.

فدنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع فالتمست عقدي و حبسني ابتغاؤه و أقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب، و هم يحسبون أني فيه، و كانت النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم إنما تأكل المرأة العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه و كنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل فساروا فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم و ليس بها داع و لا مجيب فيممت منزلي الذي كنت به فظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي فبينا أنا جالسة في منزل غلبتني عيني فنمت. و كان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكراني من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني و كان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي و الله ما كلمني كلمة واحدة و لا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته فوطىء على يديها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فهلك في من هلك. و كان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي بن سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا و الناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، و هو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اللطف الذي كنت أرى منه حين اشتكى إنما يدخل علي فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟ ثم ينصرف فذاك الذي يريبني

و لا أشعر بالشر حتى خرجت بعد ما نقهت و خرجت معي أم مسطح قبل المناصع و هي متبرزنا و كنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل، و ذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا و أمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط فكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا. فانطلقت أنا و أم مسطح فأقبلت أنا و أم مسطح قبل بيتي قد أشرعنا من ثيابنا فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح فقلت لها: بئس ما قلت أ تسبين رجلا شهد بدرا؟ قالت: أي هنتاه أ و لم تسمعي ما قال؟ قلت: و ما قال: فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي. فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسلم ثم قال: كيف تيكم؟ فقلت: أ تأذن لي أن آتي أبوي؟ قالت: و أنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما قالت: فأذن لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فجئت لأبوي فقلت لأمي: يا أمتاه ما يتحدث الناس؟ قالت يا بنية هوني عليك فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها و لها ضرائر إلا أكثرن عليها فقلت: سبحان الله و لقد تحدث الناس بهذا؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع و لا أكتحل بنوم ثم أصبحت أبكي. و دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب و أسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله، فأما أسامة فأشار على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالذي يعلم من براءة أهله و بالذي يعلم لهم في نفسه من الود فقال: يا رسول الله أهلك و لا نعلم إلا خيرا، و أما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك، و النساء سواها كثيرة و إن تسأل الجارية تصدقك، فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بريرة فقال: أي بريرة هل رأيت شيئا يريبك؟ قالت بريرة: لا و الذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا أغمضه أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فيأتي الداجن فيأكله.

فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاستعذر يومئذ من عبد الله بن أبي فقال و هو على المنبر: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهل بيتي فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، و لقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا و ما كان يدخل على أهلي إلا معي. فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: يا رسول الله أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه و إن كان من إخواننا من بني الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة و هو سيد الخزرج و كان قبل ذلك رجلا صالحا و لكن احتملته الحمية فقال لسعد: كذبت لعمر الله ما تقتله و لا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير و هو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة: كذبت لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاورا الحيان: الأوس و الخزرج حتى هموا أن يقتتلوا و رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قائم على المنبر فلم يزل رسول ص يخفضهم حتى سكتوا و سكت. فبكيت يومي ذلك فلا يرقأ لي دمع و لا أكتحل بنوم فأصبح أبواي عندي و قد بكيت ليلتين و يوما لا أكتحل بنوم و لا يرقأ لي دمع و أبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي. فبينما هما جالسان عندي و أنا أبكي فاستأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي فبينما نحن على ذلك دخل علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم جلس و لم يجلس عندي منذ قيل في ما قيل قبلها و قد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، فتشهد حين جلس ثم قال: أما بعد يا عائشة إنه بلغني عنك كذا و كذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، و إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله و توبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه. فلما قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب عني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). قال: و الله ما أدري ما أقول لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قالت: و الله ما أدري ما أقول لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

فقلت و أنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن: إني و الله لقد علمت أنكم سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم و صدقتم به فلئن قلت لكم: إني بريئة و الله يعلم أني بريئة لا تصدقوني، و لئن اعترفت لكم بأمر و الله يعلم أني منه بريئة لتصدقني، و الله لا أجد لي و لكم مثلا إلا قول أبي يوسف: فصبر جميل و الله المستعان على ما تصفون. ثم تحولت فاضطجعت على فراشي و أنا حينئذ أعلم أني بريئة و أن الله مبرئي ببراءتي و لكن و الله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى، و لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، و لكن كنت أرجو أن يرى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رؤيا يبرئني الله بها. قالت: فوالله ما رام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مجلسه و لا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق و هو في يوم شات من ثقل القول الذي أنزل عليه فلما سرى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سرى عنه و هو يضحك فكان أول كلمة تكلم بها أن قال: أبشري يا عائشة أما الله فقد برأك، فقالت أمي: قومي إليه، فقلت: و الله لا أقوم إليه و لا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي، و أنزل الله: «إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم» العشر الآيات كلها. فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر، و كان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه و فقره: و الله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال فأنزل الله: «و لا يأتل أولوا الفضل منكم و السعة - أن يؤتوا أولي القربى و المساكين إلى قوله رحيم» قال أبو بكر: و الله إني أحب أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، و قال: و الله لا أنزعها منه أبدا. قالت عائشة: فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يسأل زينب ابنة جحش عن أمري فقال: يا زينب ما ذا علمت أو رأيت؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي و بصري ما علمت إلا خيرا، قالت: و هي التي كانت تساميني من أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فعصمها الله بالورع، و طفقت أختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك:

أقول: و الرواية مروية بطرق أخرى عن عائشة أيضا و عن عمر و ابن عباس و أبي هريرة و أبي اليسر الأنصاري و أم رومان أم عائشة و غيرهم و فيها بعض الاختلاف: و فيها إن الذين جاءوا بالإفك عبد الله بن أبي بن سلول و مسطح بن أثاثة و كان بدريا من السابقين الأولين من المهاجرين، و حسان بن ثابت، و حمنة أخت زينب زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). و فيها أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دعاهم بعد ما نزلت آيات الإفك فحدهم جميعا غير أنه حد عبد الله بن أبي حدين و إنما حده حدين لأنه من قذف زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان عليه حدان.

و في الروايات على تقاربها في سرد القصة إشكال من وجوه: أحدها: أن المسلم من سياقها أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان في ريب من أمر عائشة بعد تحقق الإفك كما يدل عليه تغير حاله بالنسبة إليها في المعاملة باللطف أيام اشتكائها و بعدها حتى نزلت الآيات، و يدل عليه قولها له حين نزلت الآيات و بشرها به: بحمد الله لا بحمدك، و في بعض الروايات أنها قالت لأبيها و قد أرسله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليبشرها بنزول العذر: بحمد الله لا بحمد صاحبك الذي أرسلك، تريد به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و في الرواية الأخرى عنها: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما وعظها أن تتوب إلى الله إن كان منها شيء و في الباب امرأة جالسة قالت له عائشة: أ ما تستحي من هذه المرأة أن تذكر شيئا، و من المعلوم أن هذا النوع من الخطاب المبني على الإهانة و الإزراء ما كان يصدر عنها لو لا أنها وجدت النبي في ريب من أمرها.

كل ذلك مضافا إلى التصريح به في رواية عمر ففيها: «فكان في قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مما قالوا».

و بالجملة دلالة عامة الروايات على كون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ريب من أمرها إلى نزول العذر مما لا ريب فيه، و هذا مما يجل عنه مقامه (صلى الله عليه وآله وسلم) كيف؟ و هو سبحانه يقول: «لو لا إذ سمعتموه ظن المؤمنون و المؤمنات بأنفسهم خيرا و قالوا هذا إفك مبين» فيوبخ المؤمنين و المؤمنات على إساءتهم الظن و عدم ردهم ما سمعوه من الإفك فمن لوازم الإيمان حسن الظن بالمؤمنين، و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أحق من يتصف بذلك و يتحرز من سوء الظن الذي من الإثم و له مقام النبوة و العصمة الإلهية.

على أنه تعالى ينص في كلامه على اتصافه (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك إذ يقول: «و منهم الذين

يؤذون النبي و يقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله و يؤمن للمؤمنين و رحمة للذين آمنوا منكم و الذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم»: التوبة: 61.

على أنا نقول: إن تسرب الفحشاء إلى أهل النبي ينفر القلوب عنه فمن الواجب أن يطهر الله سبحانه ساحة أزواج الأنبياء عن لوث الزنا و الفحشاء و إلا لغت الدعوة و تثبت بهذه الحجة العقلية عفتهن واقعا لا ظاهرا فحسب، و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أعرف بهذه الحجة منا فكيف جاز له أن يرتاب في أمر أهله برمي من رام أو شيوع من إفك.

و ثانيها: أن الذي تدل عليه الروايات أن حديث الإفك كان جاريا بين الناس منذ بدأ به أصحاب الإفك إلى أن ختم بحدهم أكثر من شهر و قد كان حكم القذف مع عدم قيام الشهادة معلوما و هو جلد القاذف و تبرئة المقذوف شرعا فما معنى توقف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن حد أصحاب الإفك هذه المدة الطويلة و انتظاره الوحي في أمرها حتى يشيع بين الناس و تتلقاه الألسن و تسير به الركبان و يتسع الخرق على الراتق؟ و ما أتى به الوحي من العذر لا يزيد على ما تعينه آية القذف من براءة المقذوف حكما شرعيا ظاهريا.

فإن قيل: الذي نزل من العذر براءتها واقعا و طهارة ذيلها في نفس الأمر و هذا أمر لا تكفي له آية حد القاذف، و لعل صبره (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه المدة الطويلة إنما كان لأجله.

قلت: لا دلالة في شيء من هذه الآيات الست عشرة على ذلك، و إنما تثبت بالحجة العقلية السابقة الدالة على طهارة بيوت الأنبياء من لوثة الفحشاء.

أما الآيات العشر الأول التي فيها شائبة الاختصاص فأظهرها في الدلالة على براءتها قوله تعالى: «لو لا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون» و قد استدل فيها على كذبهم بعدم إتيانهم بالشهداء، و من الواضح أن عدم إقامة الشهادة إنما هو دليل البراءة الظاهرية أعني الحكم الشرعي بالبراءة دون البراءة الواقعية لوضوح عدم الملازمة.

و أما الآيات الست الأخيرة فقوله: «الطيبات للطيبين و الطيبون للطيبات إلخ عام من غير مخصص من جهة اللفظ فالذي تثبته من البراءة مشترك فيه بين جميع المقذوفين

من غير قيام بينة من المؤمنين و المؤمنات، و من الواضح أن البراءة المناسبة لهذا المعنى هي البراءة الشرعية.

و الحق أن لا مناص عن هذا الإشكال إلا بالقول بأن آية القذف لم تكن نازلة قبل حديث الإفك و إنما نزلت بعده، و إنما كان سبب توقفه (صلى الله عليه وآله وسلم) خلو الواقعة عن حكم الله بعد فكان ينتظر في أمر الإفك الحكم السماوي.

و من أوضح الدليل عليه ما في الرواية من استعذار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من القاذف في المسجد و قول سعد بن معاذ ما قال و مجادلة سعد بن عبادة إياه و اختلاف الأوس و الخزرج بمحضر من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و في رواية عمر بعد ما ذكر اختلاف ابن معاذ و ابن عبادة: فقال هذا: يا للأوس و قال هذا: يا للخزرج فاضطربوا بالنعال و الحجارة فتلاطموا، الحديث فلو كانت آية القذف نازلة قبل ذلك و حكم الحد معلوما لم يجب سعد بن معاذ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه يعذره منه بالقتل و لقال هو و سائر الناس: يا رسول الله حكم القذف معلوم و يدك مبسوطة.

و ثالثها: أنها تصرح بكون أصحاب الإفك هم عبد الله بن أبي و مسطحا و حسانا و حمنة ثم تذكر أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) حد عبد الله بن أبي حدين و كلا من مسطح و حسان و حمنة حدا واحدا، ثم تعلل حدي عبد الله بن أبي بأن من قذف أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فعليه حدان، و هذا تناقض صريح فإنهم جميعا كانوا قاذفين بلا فرق بينهم.

نعم تذكر الروايات أن عبد الله بن أبي كان هو الذي تولى كبره منهم لكن لم يقل أحد من الأمة إن هذا الوصف يوجب حدين.

و لا أن المراد بالعذاب العظيم في قوله: «الذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم» هو ثبوت حدين.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم» الآية فإن العامة روت أنها نزلت في عائشة و ما رميت به في غزوة بني المصطلق من خزاعة و أما الخاصة فإنهم رووا أنها نزلت في مارية القبطية و ما رمتها به عائشة.

حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا محمد بن عيسى عن الحسن بن علي بن فضال قال: حدثني عبد الله بن بكير عن زرارة قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: لما هلك إبراهيم بن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حزن عليه حزنا شديدا فقالت عائشة: ما الذي

يحزنك عليه؟ ما هو إلا ابن جريح، فبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا (عليه السلام) و أمره بقتله. فذهب علي (عليه السلام) و معه السيف و كان جريح القبطي في حائط فضرب علي (عليه السلام) باب البستان فأقبل جريح له ليفتح الباب فلما رأى عليا (عليه السلام) عرف في وجهه الغضب فأدبر راجعا و لم يفتح باب البستان فوثب علي (عليه السلام) على الحائط و نزل إلى البستان و اتبعه و ولى جريح مدبرا فلما خشي أن يرهقه صعد في نخلة و صعد علي (عليه السلام) في أثره فلما دنا منه رمى بنفسه من فوق النخلة فبدت عورته فإذا ليس له ما للرجال و لا له ما للنساء. فانصرف علي (عليه السلام) إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له: يا رسول الله إذا بعثتني في الأمر أكون كالمسمار المحمي في الوبر أم أثبت؟ قال: لا بل تثبت. قال: و الذي بعثك بالحق ما له ما للرجال و ما له ما للنساء، فقال: الحمد لله الذي صرف عنا السوء أهل البيت.

و فيه، في رواية عبيد الله بن موسى عن أحمد بن راشد عن مروان بن مسلم عن عبد الله بن بكير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر بقتل القبطي و قد علم أنها كذبت عليه أو لم يعلم؟ و قد دفع الله عن القبطي القتل بتثبيت علي (عليه السلام) فقال: بل كان و الله علم، و لو كان عزيمة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما انصرف علي (عليه السلام) حتى يقتله، و لكن إنما فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لترجع عن ذنبها فما رجعت و لا اشتد عليها قتل رجل مسلم.

أقول: و هناك روايات أخر تدل على مشاركة غيرها معها في هذا الرمي، و جريح هذا كان خادما خصيا لمارية أهداه معها مقوقس عظيم مصر لرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) و أرسله معها ليخدمها.

و هذه الروايات لا تخلو من نظر: أما أولا: فلأن ما فيها من القصة لا يقبل الانطباق على الآيات و لا سيما قوله: «إن

الذين جاءوا بالإفك» الآية و قوله: «لو لا إذ سمعتموه ظن المؤمنون و المؤمنات بأنفسهم خيرا» الآية، و قوله: «تلقونه بألسنتكم و تقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم» الآية، فمحصل الآيات أنه كان هناك جماعة مرتبط بعضهم ببعض يذيعون الحديث ليفضحوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و كان الناس يتداولونه لسانا عن لسان حتى شاع بينهم و مكثوا على ذلك زمانا و هم لا يراعون حرمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و كرامته من الله، و أين مضمون هذه الروايات من ذلك.

اللهم إلا أن تكون الروايات قاصرة في شرحها للقصة.

و أما ثانيا: فقد كان مقتضى القصة و ظهور براءتها إجراء الحد و لم يجر، و لا مناص عن هذا الإشكال إلا بالقول بنزول آية القذف بعد قصة الإفك بزمان.

و الذي ينبغي أن يقال بالنظر إلى إشكال الحد الوارد على الصنفين من الروايات جميعا - كما عرفت - أن آيات الإفك نزلت قبل آية حد القذف، و لم يشرع بنزول آيات الإفك إلا براءة المقذوف مع عدم قيام الشهادة و تحريم القذف.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي