الميزان في تفسير القرآن

سورة الأنبياء

34 - 47

وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَن ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون (41) قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلا هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاء وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاء إِذَا مَا يُنذَرُونَ (45) وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)

بيان

من تتمة الكلام حول النبوة يذكر فيها بعض ما قاله المشركون في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كقولهم: سيموت فنتخلص منه و نستريح و قولهم استهزاء به: أ هذا الذي يذكر آلهتكم، و قولهم استهزاء بالبعث و القيامة التي أنذروا بها: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين و فيها جواب أقاويلهم و إنذار و تهديد لهم و تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

قوله تعالى: «و ما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أ فإن مت فهم الخالدون» يلوح من الآية أنهم كانوا يسلون أنفسهم بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سيموت فيتخلصون من دعوته و تنجو آلهتهم من طعنه كما حكى ذلك عنهم في مثل قولهم: «نتربص به ريب المنون:» الطور: 30، فأجاب عنه بأنا لم نجعل لبشر من قبلك الخلد حتى يتوقع ذلك لك بل إنك ميت و إنهم ميتون، و لا ينفعهم موتك شيئا فلا أنهم يقبضون على الخلود بموتك، فالجميع ميتون، و لا أن حياتهم القصيرة المؤجلة تخلو من الفتنة و الامتحان الإلهي فلا يخلو منه إنسان في حياته الدنيا، و لا أنهم خارجون بالآخرة من سلطاننا بل إلينا يرجعون فنحاسبهم و نجزيهم بما عملوا.

و قوله: «أ فإن مت فهم الخالدون» و لم يقل: فهم خالدون و الاستفهام للإنكار يفيد نفي قصر القلب كأنه قيل: إن قولهم: نتربص به ريب المنون كلام من يرى لنفسه خلودا أنت مزاحمه فيه فلو مت لذهب بالخلود و قبض عليه و عاش عيشة خالدة طيبة ناعمة و ليس كذلك بل كل نفس ذائقة الموت، و الحياة الدنيا مبنية على الفتنة و الامتحان، و لا معنى للفتنة الدائمة و الامتحان الخالد بل يجب أن يرجعوا إلى ربهم فيجازيهم على ما امتحنهم و ميزهم.

قوله تعالى: «كل نفس ذائقة الموت و نبلوكم بالشر و الخير فتنة و إلينا ترجعون» لفظ النفس - على ما يعطيه التأمل في موارد استعماله - أصل معناه هو معنى ما أضيف إليه فنفس الشيء معناه الشيء و نفس الإنسان معناه هو الإنسان و نفس الحجر معناه هو الحجر فلو قطع عن الإضافة لم يكن له معنى محصل، و على هذا المعنى يستعمل للتأكيد اللفظي كقولنا: جاءني زيد نفسه أو لإفادة معناه كقولنا: جاءني نفس زيد.

و بهذا المعنى يطلق على كل شيء حتى عليه تعالى كما قال: «كتب على نفسه «الرحمة:» الأنعام: 12، و قال: «و يحذركم الله نفسه:» آل عمران: 28، و قال: «تعلم ما في نفسي و لا أعلم ما في نفسك:» المائدة: 116.

ثم شاع استعمال لفظها في شخص الإنسان خاصة و هو الموجود المركب من روح و بدن فصار ذا معنى في نفسه و إن قطع عن الإضافة قال تعالى: «هو الذي خلقكم من نفس واحدة و جعل منها زوجها» أي من شخص إنساني واحد، و قال: «من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا و من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا:» المائدة: 32، أي من قتل إنسانا و من أحيا إنسانا، و قد اجتمع المعنيان في قوله: «كل نفس تجادل عن نفسها» فالنفس الأولى بالمعنى الثاني و الثانية بالمعنى الأول.

ثم استعملوها في الروح الإنساني لما أن الحياة و العلم و القدرة التي بها قوام الإنسان قائمة بها و منه قوله تعالى: «أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون:» الأنعام: 93.

و لم يطرد هذان الإطلاقان أعني الثاني و الثالث في غير الإنسان كالنبات و سائر الحيوان إلا بحسب الاصطلاح العلمي فلا يقال للواحد من النبات و الحيوان عرفا نفس و لا للمبدإ المدبر لجسمه نفس نعم ربما سميت الدم نفسا لأن للحياة توقفا عليها و منه النفس السائلة.

و كذا لا يطلق النفس في اللغة بأحد الإطلاقين الثاني و الثالث على الملك و الجن و إن كان معتقدهم أن لهما حياة، و لم يرد استعمال النفس فيهما في القرآن أيضا و إن نطقت الآيات بأن للجن تكليفا كالإنسان و موتا و حشرا قال: «و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون:» الذاريات: 56، و قال في أمم قد خلت من قبلهم من الجن و الإنس»: الأحقاف: 18، و قال: «و يوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس»: الأنعام: 128، هذا ما يتحصل من معنى النفس بحسب عرف اللغة.

و أما الموت فهو فقد الحياة و آثارها من الشعور و الإرادة عما من شأنه أن يتصف بها قال تعالى: «و كنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم:» البقرة: 28، و قال في الأصنام: «أموات غير أحياء:» النحل: 21، و أما أنه مفارقة النفس للبدن بانقطاع تعلقها التدبيري كما يعرفه الأبحاث العقلية أو أنه الانتقال من دار إلى دار كما في الحديث النبوي فهو معنى كشف عنه العقل أو النقل غير ما استقر عليه الاستعمال و من المعلوم أن الموت بالمعنى الذي ذكر إنما يتصف به الإنسان المركب من الروح و البدن باعتبار بدنه فهو الذي يتصف بفقدان الحياة بعد وجدانه و أما الروح فلم يرد في كلامه تعالى ما ينطق باتصافه بالموت كما لم يرد ذلك في الملك، و أما قوله: «كل شيء هالك إلا وجهه:» القصص: 88، و قوله: «و نفخ في الصور فصعق من في السماوات و من في الأرض:» الزمر: 68 فسيجيء إن شاء الله أن الهلاك و الصعق غير الموت و إن انطبقا عليه أحيانا.

فقد تبين مما قدمناه أولا: أن المراد بالنفس في قوله: «كل نفس ذائقة الموت» الإنسان - و هو الاستعمال الثاني من استعمالاتها الثلاث - دون الروح الإنساني إذ لم يعهد نسبة الموت إلى الروح في كلامه تعالى حتى تحمل عليه.

و ثانيا: أن الآية إنما تعم الإنسان لا غير كالملك و الجن و سائر الحيوان و إن كان بعضها مما يتصف بالموت كالجن و الحيوان، و من القرينة على اختصاص الآية بالإنسان قوله قبله: «و ما جعلنا لبشر من قبلك الخلد» و قوله بعده: «و نبلوكم بالشر و الخير فتنة» على ما سنوضحه.

و قد ذكر جمع منهم أن المراد بالنفس في الآية الروح، و قد عرفت خلافه و أصر كثير منهم على عموم الآية لكل ذي حياة من الإنسان و الملك و الجن و سائر الحيوانات حتى النبات إن كان لها حياة حقيقة و قد عرفت ما فيه.

و من أعجب ما قيل في تقرير عموم الآية ما ذكره الإمام الرازي في التفسير الكبير، بعد ما قرر أن الآية عامة لكل ذي نفس: أن الآية مخصصة فإن له تعالى نفسا كما قال حكاية عن عيسى (عليه السلام): «تعلم ما في نفسي و لا أعلم ما في نفسك» مع أن الموت مستحيل عليه سبحانه، و كذا الجمادات لها نفوس و هي لا تموت.

ثم قال: و العام المخصوص حجة فيبقى معمولا به على ظاهره فيما عدا ما أخرج منه، و ذلك يبطل قول الفلاسفة في الأرواح البشرية و العقول المفارقة و النفوس الفلكية أنها لا تموت.

انتهى.

و فيه أولا: أن النفس بالمعنى الذي تطلق عليه تعالى و على كل شيء هي النفس بالاستعمال الأول من الاستعمالات الثلاث التي قدمناها لا تستعمل إلا مضافة كما في الآية التي استشهد بها و التي في الآية مقطوعة عن الإضافة فهي غير مرادة بهذا المعنى في الآية قطعا فتبقى النفس بأحد المعنيين الآخرين و قد عرفت أن المعنى الثالث أيضا غير مراد فيبقى الثاني.

و ثانيا: أن نفيه الموت عن الجمادات ينافي قوله تعالى: «كنتم أمواتا فأحياكم» و قوله: «أموات غير أحياء» و غير ذلك.

و ثالثا: أن قوله: إن عموم الآية يبطل قول الفلاسفة في الأرواح البشرية و العقول المفارقة و النفوس الفلكية خطأ فإن هذه مسائل عقلية يرام السلوك إليها من طريق البرهان، و البرهان حجة مفيدة لليقين فإن كانت الحجج التي أقاموها عليها كلها أو بعضها براهين كما ادعوها لم ينعقد من الآية في مقابلها ظهور و الظهور حجة ظنية و كيف يتصور اجتماع العلم مع الظن بالخلاف، و إن لم تكن براهين لم تثبت المسائل و لا حاجة معه إلى ظن بالخلاف.

ثم إن قوله: «كل نفس ذائقة الموت» كما هو تقرير و تثبيت لمضمون قوله قبلا: «و ما جعلنا لبشر من قبلك الخلد» إلخ، كذلك توطئة و تمهيد لقوله بعد «و نبلوكم بالشر و الخير فتنة» - أي و نمتحنكم بما تكرهونه من مرض و فقر و نحوه و ما تريدونه من صحة و غنى و نحوهما امتحانا - كأنه قيل: نحيي كلا منكم حياة محدودة مؤجلة و نمتحنكم فيها بالشر و الخير امتحانا ثم إلى ربكم ترجعون فيقضي عليكم و لكم.

و فيه إشارة إلى علة تحتم الموت لكل نفس حية، و هي أن حياة كل نفس حياة امتحانية ابتلائية، و من المعلوم أن الامتحان أمر مقدمي و من الضروري أن المقدمة لا تكون خالدة لا تنتهي إلى أمد و من الضروري أن وراء كل مقدمة ذا مقدمة و بعد كل امتحان موقف تتعين فيه نتيجته فلكل نفس حية موت محتوم ثم لها رجوع إلى الله سبحانه لفصل القضاء.

قوله تعالى: و إذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أ هذا الذي يذكر آلهتكم و هم بذكر الرحمن هم كافرون» إن نافية و المراد بقوله: «إن يتخذونك إلا هزوا» قصر معاملتهم معه على اتخاذهم إياه هزوا أي لم يتخذوك إلا هزوا يستهزأ به.

و قوله: «أ هذا الذي يذكر آلهتكم» - و التقدير يقولون أو قائلين: أ هذا الذي إلخ - حكاية كلمة استهزائهم، و الاستهزاء في الإشارة إليه بالوصف، و مرادهم ذكره آلهتهم بسوء و لم يصرحوا به أدبا مع آلهتهم و هو نظير قوله: «قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم» الآية: - 60 من السورة.

و قوله: «و هم بذكر الرحمن هم كافرون» في موضع الحال من ضمير «إن يتخذونك» أو من فاعل يقولون المقدر و هو أقرب و محصله أنهم يأنفون لآلهتهم عليك إذ تقول فيها أنها لا تنفع و لا تضر - و هو كلمة حق - فلا يواجهونك إلا بالهزء و الإهانة و لا يأنفون لله إذ يكفر بذكره و الكافرون هم أنفسهم.

و المراد بذكر الرحمن ذكره تعالى بأنه مفيض كل رحمة و منعم كل نعمة و لازمه كونه تعالى هو الرب الذي تجب عبادته، و قيل: المراد بالذكر القرآن.

و المعنى: و إذا رآك الذين كفروا و هم المشركون ما يتخذونك و لا يعاملون معك إلا بالهزء و السخرية قائلين بعضهم لبعض أ هذا الذي يذكر آلهتكم أي بسوء فيأنفون لآلهتهم حيث تذكرها و الحال أنهم بذكر الرحمن كافرون و لا يعدونه جرما و لا يأنفون له.

قوله تعالى: «خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون» كان المشركون على كفرهم بالدعوة النبوية يستهزءون بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كلما رأوه، و هو زيادة في الكفر و العتو، و الاستهزاء بشيء إنما يكون بالبناء على كونه هزلا غير جد فيقابل الهزل بالهزل لكنه تعالى أخذ استهزاءهم هذا أخذ جد غير هزل فكان الاستهزاء بعد الكفر تعرضا للعذاب الإلهي بعد تعرض و هو الاستعجال بالعذاب فإنهم لا يقنعون بما جاءتهم من الآيات و هم في عافية و يطلبون آيات تجازيهم بما صنعوا، و لذلك عد سبحانه استهزاءهم بعد الكفر استعجالا برؤية الآيات و هي الآيات الملازمة للعذاب و أخبرهم أنه سيريهم إياها.

فقوله: «خلق الإنسان من عجل» كناية عن بلوغ الإنسان في العجل كأنه خلق من عجل و لا يعرف سواه نظير ما يقال: فلان خير كله أو شر كله و خلق من خير أو من شر و هو أبلغ من قولنا، ما أعجله و ما أشد استعجاله، و الكلام وارد مورد التعجيب.

و فيه استهانة بأمرهم و أنه لا يعجل بعذابهم لأنهم لا يفوتونه.

و قوله: «سأريكم آياتي فلا تستعجلون» الآية الآتية تشهد بأن المراد بإراءة الآيات تعذيبهم بنار جهنم و هي قوله لو يعلم الذين كفروا حين» إلخ.

قوله تعالى: «و يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين» القائلون هم الذين كفروا و المخاطبون هم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنون و كان مقتضى الظاهر أن يقولوا؟ إن كنت من الصادقين لكنهم عدلوا إلى ما ترى ليضيفوا إلى تعجيز النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمطالبته ما لا يقدر عليه إضلال المؤمنين به و إغراؤهم عليه و الوعد هو ما اشتملت عليه الآية السابقة و تفسره الآية اللاحقة.

قوله تعالى: «لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار و لا عن ظهورهم و لا هم ينصرون» «لو» للتمني و «حين» مفعول يعلم على ما قيل و قوله «لا يكفون عن وجوههم النار و لا عن ظهورهم» أي لا يدفعونها حيث تأخذهم من قدامهم و من خلفهم و فيه إشارة إلى إحاطتها بهم.

و قوله: «و لا هم ينصرون» معطوف على ما تقدمه لرجوع معناه إلى الترديد بالمقابلة و المعنى لا يدفعون النار باستقلال من أنفسهم و لا بنصر من ينصرهم على دفعه.

و الآية في موضع الجواب لسؤالهم عن الموعد، و المعنى ليت الذين كفروا يعلمون الوقت الذي لا يدفعون النار عن وجوههم و لا عن ظهورهم لا باستقلال من أنفسهم و لا هم ينصرون في دفعها.

قوله تعالى: «بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها و لا هم ينظرون» الذي يقتضيه السياق أن فاعل تأتيهم ضمير راجع إلى النار دون الساعة كما ذهب إليه بعضهم، و الجملة إضراب عن قوله في الآية السابقة: «لا يكفون» إلخ.

لا عن مقدر قبله تقديره لا تأتيهم الآيات بحسب اقتراحهم بل تأتيهم بغتة، و لا عن قوله: «لو يعلم الذين كفروا» بدعوى أنه في معنى النفي و التقدير لا يعلمون ذلك بل تأتيهم بغتة فإن هذه كلها وجوه يأبى عنها السياق.

و معنى إتيان النار بغتة أنها تفاجئهم حيث لا يدرون من أين تأتيهم و تحيط بهم فإن ذلك لازم ما وصفه الله من أمرها بقوله: «نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة:» الهمزة: 7، و قوله: «النار التي وقودها الناس:» البقرة: 24، و قوله: «إنكم و ما تعبدون من دون الله حصب جهنم» الآية: 98 من السورة، و النار التي هذا شأنها تأخذ باطن الإنسان كظاهره على حد سواء لا كنار الدنيا حتى تتوجه من جهة إلى جهة و تأخذ الظاهر قبل الباطن و الخارج قبل الداخل حتى تمهلهم بقطع مسافة أو بتدرج في عمل أو مفارقة في جهة فيحتال لدفعها بتجاف أو تجنب أو إبداء حائل أو الالتجاء إلى ركن بل هي معهم كما أن أنفسهم معهم لا تستطاع ردا إذ لا اختلاف جهة و لا تقبل مهلة إذ لا مسافة بينها و بينهم فلا تسمح لهم في نزولها عليهم إلا البهت و الحيرة.

فمعنى الآية - و الله أعلم - لا يدفعون النار عن وجوههم و ظهورهم بل تأتيهم من حيث لا يشعرون بها و لا يدرون فتكون مباغتة لهم فلا يستطيعون ردها و لا يمهلون في إتيانها.

قوله تعالى: «و لقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون» قال في المجمع،: الفرق بين السخرية و الهزء أن في السخرية معنى طلب الذلة لأن التسخير التذليل فأما الهزء فيقتضي طلب صغر القدر بما يظهر في القول.

انتهى و الحيق الحلول، و المراد بما كانوا به يستهزءون، العذاب و في الآية تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تخويف و تهديد للذين كفروا.

قوله تعالى: «قل من يكلؤكم بالليل و النهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون» الكلاءة الحفظ و المعنى أسألهم من الذي يحفظهم من الرحمن إن أراد أن يعذبهم ثم أضرب عن تأثير الموعظة و الإنذار فيهم فقال: «بل هم عن ذكر ربهم» أي القرآن «معرضون» فلا يعتنون به و لا يريدون أن يصغوا إليه إذا تلوته عليهم و قيل المراد بالذكر مطلق المواعظ و الحجج.

قوله تعالى: «أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم و لا هم منا يصحبون» أم منقطعة و الاستفهام للإنكار، و كل من «تمنعهم» و «من دوننا» صفة آلهة، و المعنى بل أسألهم أ لهم آلهة من دوننا تمنعهم منا.

و قوله: «لا يستطيعون نصر أنفسهم» إلخ تعليل للنفي المستفاد من الاستفهام الإنكاري و لذا جيء بالفصل و التقدير ليس لهم آلهة كذلك لأنهم لا يستطيعون نصر أنفسهم بأن ينصر بعضهم بعضا و لا هم منا يجأرون و يحفظون فكيف ينصرون عبادهم من المشركين أو يجيرونهم، و ذكر بعضهم أن ضمائر الجمع راجعة إلى المشركين و السياق يأباه.

قوله تعالى: «بل متعنا هؤلاء و آباءهم حتى طال عليهم العمر» إلى آخر الآية هو إضراب عن مضمون الآية السابقة كما كان قوله: «بل هم عن ذكر ربهم معرضون» إضرابا عما تقدمه و المضامين - كما ترى - متقاربة.

و قوله: «حتى طال عليهم العمر» غاية لدوام التمتع المدلول عليه بالجملة السابقة و التقدير بل متعنا هؤلاء المشركين و آباءهم و دام لهم التمتع حتى طال عليهم العمر فاغتروا بذلك و نسوا ذكر الله و أعرضوا عن عبادته، و كذلك كان مجتمع قريش فإنهم كانوا بعد أبيهم إسماعيل قاطنين في حرم آمن متمتعين بأنواع النعم التي تحمل إليهم حتى تسلطوا على مكة و أخرجوا جرهما منها فنسوا ما هم عليه من دين أبيهم إبراهيم و عبدوا الأصنام.

و قوله: «أ فلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها» الأنسب للسياق أن يكون المراد من نقص الأرض من أطرافها هو انقراض بعض الأمم التي تسكنها فإن لكل أمة أجلا ما تسبق من أمة أجلها و ما يستأخرون - و قد تقدمت الإشارة إلى أن المراد بطول العمر عليهم طول عمر مجتمعهم.

و المعنى: أ فلا يرون أن الأرض تنقص منها أمة بعد أمة بالانقراض بأمر الله فما ذا يمنعه أن يهلكهم أ فهم الغالبون إن أرادهم الله سبحانه بضر أو هلاك و انقراض.

و قد مر بعض الكلام في الآية في نظيرتها من سورة الرعد فراجع.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي