الميزان في تفسير القرآن

سورة الأنبياء

16 - 33

تابع
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)

هذا ما يعطيه البحث العقلي و يؤيده البحث القرآني و كفى في ذلك قوله تعالى: «و يوم يقول كن فيكون قوله الحق:» الأنعام: 73، فقد عد كلمة «كن» التي هي ما به يوجد الأشياء أي وجودها المنسوب إليه قولا لنفسه و ذكر أنه الحق أي العين الثابت الخارجي فقوله هو وجود الأشياء الخارجي و هو فعله أيضا فقوله فعله و قوله و فعله وجود الأشياء خارجا، و قال: «الحق من ربك فلا تكن من الممترين:» آل عمران: 60، و الحق هو القول أو الاعتقاد من جهة أن الخارج يطابقه فالخارج حق بالأصالة و القول أو الاعتقاد حق يتبع مطابقته، و إذا كان الخارج هو فعله تعالى و الخارج هو مبدأ القول و الاعتقاد فالحق منه تعالى يبتدأ و إليه يعود، و لذا قال: «الحق من ربك» و لم يقل: الحق مع ربك كما نقول في المخاصمات التي فيها بيننا: الحق مع فلان.

و من هنا يظهر أن كل فعل ففيه سؤال إلا فعله سبحانه لأن المطلوب بالسؤال بيان كون الفعل مطابقا - بصيغة اسم المفعول - للحق و هذا إنما يجري في غير نفس الحق و أما الحق نفسه فهو حق بذاته من غير حاجة إلى مطابقة.

قوله تعالى: «أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم» إلى آخر الآية.

«هاتوا» اسم فعل بمعنى ائتوا به، و البرهان الدليل المفيد للعلم، و المراد بالذكر - على ما يستفاد من السياق - الكتاب المنزل من عند الله فالمراد بذكر من معي القرآن المنزل عليه الذي هو ذكر أمته إلى يوم القيامة و بذكر من قبلي كتب الأنبياء السابقين كالتوراة و الإنجيل و الزبور و غيرها.

و يمكن أن يكون المراد به الوحي النازل عليه في القرآن و هو ذكر من معه (صلى الله عليه وآله وسلم) و الوحي النازل على من قبله في أمر توحيد العبادة المنقول في القرآن فالمشار إليه بهذا هو ما في القرآن من الأمر بتوحيد العبادة النازل عليه و النازل على من تقدمه من الأنبياء (عليهم السلام)، و ربما فسر الذكر بالخبر و غيره و لا يعبأ به.

و في الآية دفع احتمال آخر من الاحتمالات المنافية لإثبات المعاد و الحساب المذكور سابقا و هو أن يتخذوا آلهة من دون الله سبحانه فيعبدوهم و يستغنوا بذلك عن عبادة الله و ولايته المستلزمة للمعاد إليه و حسابه و وجوب إجابة دعوة أنبيائه، و دفع هذا الاحتمال بعدم الدليل عليه و قد خاصمهم بأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يطالبهم بالدليل بقوله: «قل هاتوا برهانكم»... إلخ.

و قوله: «قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي و ذكر من قبلي» من قبيل المنع مع السند - باصطلاح فن المناظرة - و محصل معناه طلب الخصم من المدعي الدليل على مدعاه غير المدلل مستندا في طلبه ذلك إلى أن عنده دليلا يدل على خلافه.

يقول تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): قل لهؤلاء المتخذين الآلهة من دون الله هاتوا برهانكم على دعواكم فإن الدعوى التي لا دليل عليها لا تسمع و لا يجوز عقلا أن يركن إليها، و الذي استند إليه في طلب الدليل أن الكتب السماوية النازلة من عند الله سبحانه لا يوافقكم على ما ادعيتم بل يخالفكم فيه فهذا القرآن و هو ذكر من معي و هذه سائر الكتب كالتوراة و الإنجيل و غيرهما و هي ذكر من قبلي تذكر انحصار الألوهية فيه تعالى وحده و وجوب عبادته.

أو أن ما في القرآن من الوحي النازل علي و هو ذكر من معي و الوحي النازل على من سبقني من الأنبياء و هو ذكر من قبلي في أمر عبادة الإله يحصر الألوهية و العبادة فيه تعالى.

و قوله: «بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون» رجوع إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالإشارة إلى أن أكثرهم لا يميزون الحق من الباطل فليسوا من أهل التمييز الذين لا يتبعون إلا الدليل فهم معرضون عن الحق و اتباعه.

قوله تعالى: «و ما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون» تثبيت لما قيل في الآية السابقة أن الذكر يذكر توحيده و وجوب عبادته و لا يخلو من تأييد ما للمعنى الثاني من معنيي الذكر.

و قوله: «نوحي إليه» مفيد للاستمرار، و قوله: «فاعبدون» خطاب للرسل و من معهم من أممهم و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: «و قالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون» ظاهر السياق يشهد أنه حكاية قول الوثنيين أن الملائكة أولاده سبحانه فالمراد بالعباد المكرمين الملائكة، و قد نزه الله نفسه عن ذلك بقوله: «سبحانه» ثم ذكر حقيقة حالهم بالإضراب.

و إذ كان قوله بعد: «لا يسبقونه بالقول»... إلخ بيان كمال عبوديتهم من حيث الآثار و صفائها من جهة الخواص و التبعات و قد ذكر قبلا كونهم عبادا كان ظاهر ذلك أن المراد بإكرامهم إكرامهم بالعبودية لا بغيرها فيئول المعنى إلى أنهم عباد بحقيقة معنى العبودية و من الدليل عليه صدور آثارها الكاملة عنهم.

فالمراد بكونهم عبادا - و جميع أرباب الشعور عباد الله - إكرامهم في أنفسهم بالعبودية فلا يشاهدون من أنفسهم إلا أنهم عباد، و المراد بكونهم مكرمين إكرامه تعالى لهم بإفاضة العبودية الكاملة عليهم، و هذا نظير كون العبد مخلصا - بكسر اللام - لربه و مقابلته تعالى ذلك بجعله مخلصا - بفتح اللام - لنفسه، و إنما الفرق بين كرامة الملائكة و البشر أنها في البشر اكتسابي بخلاف ما في الملائكة، و أما إكرامه تعالى فهو موهبي في القبيلين جميعا فافهم ذلك.

قوله تعالى: «لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون» لا يسبق فلان فلانا بالقول أي لا يقول شيئا قبل أن يقوله فقوله تبع، و ربما يكنى به عن الإرادة و المشية أي إرادته تبع إرادته، و قوله: «و هم بأمره يعملون» الظرف متعلق بيعملون قدم عليه لإفادة الحصر أي يعملون بأمره لا بغير أمره، و ليس المراد لا يعملون بأمر غيره ففعلهم تابع لأمره أي لإرادته كما أن قولهم تابع لقوله فهم تابعون لربهم قولا و فعلا.

و بعبارة أخرى إرادتهم و عملهم تابعان لإرادته نظرا إلى كون القول كناية عن الإرادة - فلا يريدون إلا ما أراد و لا يعملون إلا ما أراد و هو كمال العبودية فإن لازم عبودية العبد أن يكون إرادته و عمله مملوكين لمولاه.

هذا ما يفيده ظاهر الآية على أن يكون المراد بالأمر ما يقابل النهي، و تفيد الآية أن الملائكة لا يعرفون النهي إذ النهي فرع جواز الإتيان بالفعل المنهي عنه و هم لا يفعلون إلا عن أمر.

و يمكن أن يستفاد من قوله تعالى: «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء:» يس: 83، و قوله: «و ما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر:» القمر: 50، حقيقة معنى أمره تعالى و قد تقدم في بعض المباحث السابقة كلام في ذلك و سيجيء استيفاء البحث في كلام خاص بالملائكة فيما يعطيه القرآن في حقيقة الملك.

قوله تعالى: «يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم و لا يشفعون إلا لمن ارتضى و هم من خشيته مشفقون» فسروا «ما بين أيديهم و ما خلفهم» بما قدموا من أعمالهم و ما أخروا، و المعنى: يعلم ما عملوا و ما هم عاملون.

فقوله: «يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم» استئناف في مقام التعليل لما تقدمه من قوله: «لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون» كأنه قيل: إنما لم يقدموا على قول أو عمل بغير أمره تعالى لأنه يعلم ما قدموا من قول و عمل و ما أخروا فلا يزالون يراقبون أحوالهم حيث إنهم يعلمون ذلك.

و هو معنى جيد في نفسه لكنه إنما يصلح لتعليل عدم إقدامهم على المعصية لا لتعليل قصر عملهم على مورد الأمر و هو المطلوب، على أن لفظ الآية لا دلالة فيه على أنهم يعلمون ذلك و لو لا ذلك لم يتم البيان.

و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: «و ما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا و ما خلفنا و ما بين ذلك و ما كان ربك نسيا:» مريم: 64، أن الأوجه حمل قوله: «ما بين أيدينا» على الأعمال و الآثار المتفرعة على وجودهم، و قوله: «و ما خلفنا» على ما هو من أسباب وجودهم مما تقدمهم و تحقق قبلهم فلو حمل اللفظتان في هذه الآية على ما حملتا عليه هناك كانت الجملة تعليلا واضحا لمجموع قوله: «بل عباد مكرمون» - إلى قوله - بأمره يعملون» الذي يذكرهم بشرافة الذات و شرافة آثار الذات من القول و الفعل و يكون المعنى: إنما أكرم الله ذواتهم و حمد آثارهم لأنه يعلم أعمالهم و أقوالهم و هي ما بين أيديهم و يعلم السبب الذي به وجدوا و الأصل الذي عليه نشئوا و هو ما خلفهم كما يقال: فلان كريم النفس حميد السيرة لأنه مرضي الأعمال من أسرة كريمة.

و قوله: «و لا يشفعون إلا لمن ارتضى» تعرض لشفاعتهم لغيرهم و هو الذي تعلق به الوثنيون في عبادتهم الملائكة كما ينبىء عنه قولهم: «هؤلاء شفعاؤنا عند الله» «ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى» فرد تعالى عليهم بأن الملائكة إنما يشفعون لمن ارتضاه الله و المراد به ارتضاء دينه لقوله تعالى: «إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء:» النساء: 48، فالإيمان بالله من غير شرك هو الارتضاء، و الوثنيون مشركون، و من عجيب أمرهم أنهم يشركون بنفس الملائكة الذين لا يشفعون إلا لغير المشركين من الموحدين.

و قوله: «و هم من خشيته مشفقون» هي الخشية من سخطه و عذابه مع الأمن منه بسبب عدم المعصية و ذلك لأن جعله تعالى إياهم في أمن من العذاب بما أفاض عليهم من العصمة لا يحدد قدرته تعالى و لا ينتزع الملك من يده، فهو يملك بعد الأمن عين ما كان يملكه قبله، و هو على كل شيء قدير، و بذلك يستقيم معنى الآية التالية.

قوله تعالى: «و من يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين» أي من قال كذا كان ظالما و نجزيه جهنم لأنها جزاء الظالم، و الآية قضية شرطية و الشرطية لا تقتضي تحقق الشرط.

قوله تعالى: «أ و لم ير الذين كفروا أن السماوات و الأرض كانتا رتقا ففتقناهما و جعلنا من الماء كل شيء حي أ فلا يؤمنون» المراد بالرؤية العلم الفكري و إنما عبر بالرؤية لظهوره من حيث إنه نتيجة التفكير في أمر محسوس.

و الرتق و الفتق معنيان متقابلان، قال الراغب في المفردات،: الرتق الضم و الالتحام خلقة كان أم صنعة، قال تعالى: «كانتا رتقا ففتقناهما» و قال: الفتق الفصل بين المتصلين و هو ضد الرتق.

انتهى.

و ضمير التثنية في «كانتا رتقا ففتقناهما» للسماوات و الأرض بعد السماوات طائفة و الأرض طائفة فهما طائفتان اثنتان، و مجيء الخبر أعني رتقا مفردا لكونه مصدرا و إن كان بمعنى المفعول و المعنى كانت هاتان الطائفتان منضمتين متصلتين ففصلناهما.

و هذه الآية و الآيات الثلاث التالية لها برهان على توحيده تعالى في ربوبيته للعالم كله أوردها بمناسبة ما انجر الكلام إلى توحيده و نفي ما اتخذوها آلهة من دون الله و عدوا الملائكة و هم من الآلهة عندهم أولادا له، بانين في ذلك على أن الخلقة و الإيجاد لله و الربوبية و التدبير للآلهة.

فأورد سبحانه في هذه الآيات أشياء من الخليقة خلقتها ممزوجة بتدبير أمرها فتبين بذلك أن التدبير لا ينفك عن الخلقة فمن الضروري أن يكون الذي خلقها هو الذي يدبر أمرها و ذلك كالسماوات و الأرض و كل ذي حياة و الجبال و الفجاج و الليل و النهار و الشمس و القمر في خلقها و أحوالها التي ذكرها سبحانه.

فقوله: «أ و لم ير الذين كفروا أن السماوات و الأرض كانتا رتقا ففتقناهما» المراد بالذين كفروا - بمقتضى السياق - هم الوثنيون حيث يفرقون بين الخلق و التدبير بنسبة الخلق إلى الله سبحانه و التدبير إلى الآلهة من دونه و قد بين خطأهم في هذه التفرقة بعطف نظرهم إلى ما لا يرتاب فيه من فتق السماوات و الأرض بعد رتقهما فإن في ذلك خلقا غير منفك عن التدبير، فكيف يمكن قيام خلقهما بواحد و قيام تدبيرهما بآخرين.

لا نزال نشاهد انفصال المركبات الأرضية و الجوية بعضها من بعض و انفصال أنواع النباتات من الأرض و الحيوان من الحيوان و الإنسان من الإنسان و ظهور المنفصل بالانفصال في صورة جديدة لها آثار و خواص جديدة بعد ما كان متصلا بأصله الذي انفصله منه غير متميز الوجود و لا ظاهر الأثر و لا بارز الحكم فقد كانت هذه الفعليات محفوظة الوجود في القوة مودعة الذوات في المادة رتقا من غير فتق حتى فتقت بعد الرتق و ظهرت بفعلية ذواتها و آثارها.

و السماوات و الأرض بأجرامها حالها حال أفراد الأنواع التي ذكرناها و هذه الأجرام العلوية و الأرض التي نحن عليها و إن لم يسمح لنا أعمارنا على قصرها أن نشاهد منها ما نشاهده في الكينونات الجزئية التي ذكرناها، فنرى بدء كينونتها أو انهدام وجودها لكن المادة هي المادة و أحكامها هي أحكامها و القوانين الجارية فيها لا تختلف و لا تتخلف.

فتكرار انفصال جزئيات المركبات و المواليد من الأرض و نظير ذلك في الجو يدلنا على يوم كانت الجميع فيه رتقا منضمة غير منفصلة من الأرض و كذا يهدينا إلى مرحلة لم يكن فيها ميز بين السماء و الأرض و كانت الجميع رتقا ففتقها الله تحت تدبير منظم متقن ظهر به كل منها على ما له من فعلية الذات و آثارها.

فهذا ما يعطيه النظر الساذج في كينونة هذا العالم المشهود بأجزائها العلوية و السفلية كينونة ممزوجة بالتدبير مقارنة للنظام الجاري في الجميع و قد قربت الأبحاث العلمية الحديثة هذه النظرة حيث أوضحت أن الأجرام التي تحت الحس مؤلفة من عناصر معدودة مشتركة و لكل منها بقاء محدود و عمر مؤجل و إن اختلفت بالطول و القصر.

هذا لو أريد برتق السماوات و الأرض عدم تميز بعضها من بعض و بالفتق تميز السماوات من الأرض و لو أريد برتقها عدم الانفصال بين أجزاء كل منهما في نفسه حتى ينزل من السماء شيء أو يخرج من الأرض شيء و بفتقها خلاف ذلك كان المعنى أن السماوات كانت رتقا لا تمطر ففتقناها بالإمطار و الأرض كانت رتقا لا تنبت ففتقناها بالإنبات و تم البرهان و ربما أيده قوله بعد: «و جعلنا من الماء كل شيء حي» لكنه يختص من بين جميع الحوادث بالإمطار و الإنبات، بخلاف البرهان على التقريب الأول.

و ذكر بعض المفسرين و ارتضاه آخرون أن المراد برتق السماوات و الأرض عدم تميز بعضها من بعض حال عدمها السابق، و بفتقها تميز بعضها من بعض في الوجود بعد العدم فيكون احتجاجا بحدوث السماوات و الأرض على وجود محدثها و هو الله سبحانه.

و فيه أن الاحتجاج بالحدوث على المحدث تام في نفسه، لكنه لا ينفع قبال الوثنيين المعترفين بوجوده تعالى و استناد الإيجاد إليه و وجه الكلام إليهم، و إنما ينفع قبالهم من الحجة ما يثبت بها استناد التدبير إليه تعالى تجاه ما يسندون التدبير إلى آلهتهم و يعلقون العبادة على ذلك.

و قوله: «و جعلنا من الماء كل شيء حي» ظاهر السياق أن الجعل بمعنى الخلق و «كل شيء حي» مفعوله و المراد أن للماء دخلا تاما في وجود ذوي الحياة كما قال: «و الله خلق كل دابة من ماء:» النور: 45، و لعل ورود القول في سياق تعداد الآيات المحسوسة يوجب انصراف الحكم بغير الملائكة و من يحذو حذوهم، و قد اتضح ارتباط الحياة بالماء بالأبحاث العلمية الحديثة.

قوله تعالى: «و جعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم و جعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون» قال في المجمع،: الرواسي الجبال رست ترسو رسوا إذا ثبتت بثقلها فهي راسية كما ترسو السفينة إذا وقفت متمكنة في وقوفها، و الميد الاضطراب بالذهاب في الجهات، و الفج الطريق الواسع بين الجبلين.

انتهى.

و المعنى: و جعلنا في الأرض جبالا ثوابت لئلا تميل و تضطرب الأرض بهم و جعلنا في تلك الجبال طرقا واسعة هي سبل لعلهم يهتدون منها إلى مقاصدهم و مواطنهم.

و فيه دلالة على أن للجبال ارتباطا خاصا بالزلازل و لولاها لاضطربت الأرض بقشرها.

قوله تعالى: «و جعلنا السماء سقفا محفوظا و هم عن آياتها معرضون» كأن المراد بكون السماء محفوظة حفظها من الشياطين كما قال: «و حفظناها من كل شيطان رجيم:» الحجر: 17، و المراد بآيات السماء الحوادث المختلفة السماوية التي تدل على وحدة التدبير و استناده إلى موجدها الواحد.

قوله تعالى: «و هو الذي خلق الليل و النهار و الشمس و القمر كل في فلك يسبحون» الآية ظاهرة في إثبات الفلك لكل من الليل و هو الظل المخروطي الملازم لوجه الأرض المخالف لمسامتة الشمس، و النهار و هو خلاف الليل، و للشمس و القمر فالمراد بالفلك مدار كل منها.

و المراد مع ذلك بيان الأوضاع و الأحوال الحادثة بالنسبة إلى الأرض و في جوها و إن كانت حال الأجرام الأخر على خلاف ذلك فلا ليل و لا نهار يقابله للشمس و سائر الثوابت، التي هي نيرة بالذات و للقمر و سائر السيارات الكاسبة للنور من الليل و النهار غير ما لنا.

و قوله: «يسبحون» من السبح بمعنى الجري في الماء بخرقه قيل و إنما قال: يسبحون لأنه أضاف إليها فعل العقلاء كما قال: «و الشمس و القمر رأيتهم لي ساجدين:» يوسف: 4.

بحث روائي

في المحاسن، بإسناده عن يونس رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ليس من باطل يقوم بإزاء حق إلا غلب الحق الباطل و ذلك قول الله: «بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق».

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي