الميزان في تفسير القرآن

سورة الكهف

9 - 26

أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِه ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاء ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)

بيان

الآيات تذكر قصة أصحاب الكهف و هي أحد الأمور الثلاثة التي أشارت اليهود على قريش أن تسأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عنها و تختبر بها صدقه في دعوى النبوة: قصة أصحاب الكهف و قصة موسى و فتاه و قصة ذي القرنين على ما وردت به الرواية غير أن هذه القصة لم تصدر بما يدل على تعلق السؤال بها كما صدرت به قصة ذي القرنين: «يسألونك عن ذي القرنين» الآية و إن كان في آخرها بعض ما يشعر بذلك كقوله: «و لا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا» على ما سيجيء.

و سياق الآيات الثلاث التي افتتحت بها القصة مشعر بأن قصة الكهف كانت معلومة إجمالا قبل نزول الوحي بذكر القصة و خاصة سياق قوله: «أم حسبت أن أصحاب الكهف و الرقيم كانوا من آياتنا عجبا و أن الذي كشف عنه الوحي تفصيل قصتهم الآخذ من قوله: «نحن نقص عليك نبأهم بالحق» إلى آخر الآيات.

و وجه اتصال آيات القصة بما تقدم أنه يشير بذكر قصتهم و نفي كونهم عجبا من آيات الله أن أمر جعله تعالى ما على الأرض زينة لها يتعلق بها الإنسان و يطمئن إليها مكبا عليها منصرفا غافلا عن غيرها لغرض البلاء و الامتحان ثم جعل ما عليها بعد أيام قلائل صعيدا جرزا لا يظهر للإنسان إلا سدى و سرابا ليس ذلك كله إلا آية إلهية هي نظيرة ما جرى على أصحاب الكهف حين سلط الله عليهم النوم في فجوة من الكهف ثلاث مائة سنين شمسية ثم لما بعثهم لم يحسبوا مكثهم ذلك إلا مكث يوم أو بعض يوم.

فمكث كل إنسان في الدنيا و اشتغاله بزخارفها و زيناتها و تولهه إليها ذاهلا عما سواها آية تضاهي في معناها آية أصحاب الكهف و سيبعث الله الناس من هذه الرقدة فيسألهم «كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم»: المؤمنون: 113 «كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار»: الأحقاف: 35 فما آية أصحاب الكهف ببدع عجيب من بين الآيات بل هي متكررة جارية ما جرت الأيام و الليالي على الإنسان.

فكأنه تعالى لما قال: «فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا» إلى تمام ثلاث آيات قال مخاطبا لنبيه: فكأنك ما تنبهت أن اشتغالهم بالدنيا و عدم إيمانهم بهذا الحديث عن تعلقهم بزينة الأرض آية إلهية تشابه آية مكث أصحاب الكهف في كهفهم ثم انبعاثهم و لذلك حزنت و كدت تقتل نفسك أسفا بل حسبت أن أصحاب الكهف كانوا من آياتنا بدعا عجبا من النوادر في هذا الباب.

و إنما لم يصرح بهذا المعنى صونا لمقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن نسبة الغفلة و الذهول إليه و لأن الكناية أبلغ من التصريح.

هذا ما يعطيه التدبر في وجه اتصال القصة و على هذا النمط يجري السياق في اتصال ما يتلو هذه القصة من مثل رجلين لأحدهما جنتان و قصة موسى و فتاه و سيجيء بيانه و قد ذكر في اتصال القصة وجوه أخر غير وجيهة لا جدوى في نقلها.

قوله تعالى: «أم حسبت أن أصحاب الكهف و الرقيم كانوا من آياتنا عجبا» الحسبان هو الظن، و الكهف هو المغارة في الجبل إلا أنه أوسع منها فإذا صغر سمي غارا و الرقيم من الرقم و هو الكتابة و الخط فهو في الأصل فعيل بمعنى المفعول كالجريح و القتيل بمعنى المجروح و المقتول، و العجب مصدر بمعنى التعجب أريد به معنى الوصف مبالغة.

و ظاهر سياق القصة أن أصحاب الكهف و الرقيم جماعة بأعيانهم و القصة قصتهم جميعا فهم المسمون أصحاب الكهف و أصحاب الرقيم أما تسميتهم أصحاب الكهف فلدخولهم الكهف و وقوع ما جرى عليهم فيه.

و أما تسميتهم أصحاب الرقيم فقد قيل: إن قصتهم كانت منقوشة في لوح منصوب هناك أو محفوظ في خزانة الملوك فبذلك سموا أصحاب الرقيم: و قيل: إن الرقيم اسم الجبل الذي فيه الكهف، أو الوادي الذي فيه الجبل أو البلد الذي خرجوا منه إلى الكهف أو الكلب الذي كان معهم أقوال خمسة، و سيأتي في الكلام على قصتهم ما يؤيد القول الأول.

و قيل: إن أصحاب الرقيم غير أصحاب الكهف و قصتهم غير قصتهم ذكرهم الله مع أصحاب الكهف و لم يذكر قصتهم و قد رووا لهم قصة سنشير إليها في البحث الروائي الآتي.

و هو بعيد جدا فما كان الله ليشير في بليغ كلامه إلى قصة طائفتين ثم يفصل القول في إحدى القصتين و لا يتعرض للأخرى لا إجمالا و لا تفصيلا على أن ما أوردوه من قصة أصحاب الرقيم لا يلائم السياق السابق المستدعي لذكر قصة أصحاب الكهف.

و قد تبين مما تقدم في وجه اتصال القصة أن معنى الآية: بل ظننت أن أصحاب الكهف و الرقيم - و قد أنامهم الله مئات من السنين ثم أيقظهم فحسبوا أنهم لبثوا يوما أو بعض يوم - كانوا من آياتنا آية عجيبة كل العجب؟ لا و ليسوا بعجب و ما يجري على عامة الإنسان من افتتانه بزينة الأرض و غفلته عن أمر المعاد ثم بعثه و هو يستقل اللبث في الدنيا آية جارية تضاهي آية الكهف.

و ظاهر السياق - كما تقدمت الإشارة إليه - أن القصة كانت معلومة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إجمالا عند نزول القصة و إنما العناية متعلقة بالإخبار عن تفصيلها، و يؤيد ذلك تعقيب الآية بالآيات الثلاث المتضمنة لإجمال القصة حيث إنها تذكر إجمال القصة المؤدي إلى عدهم آية عجيبة نادرة في بابها.

قوله تعالى: «إذ أوى الفتية إلى الكهف» إلى آخر الآية الأوي الرجوع و لا كل رجوع بل رجوع الإنسان أو الحيوان إلى محل يستقر فيه أو ليستقر فيه و الفتية جمع سماعي لفتى و الفتى الشاب و لا تخلو الكلمة من شائبة مدح.

و التهيئة الإعداد قال البيضاوي: و أصل التهيئة إحداث هيأة الشيء انتهى و الرشد بفتحتين أو الضم فالسكون الاهتداء إلى المطلوب، قال الراغب: الرشد و الرشد خلاف الغي يستعمل استعمال الهداية.

انتهى.

و قوله: «فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة» تفريع لدعائهم على أويهم كأنهم اضطروا لفقد القوة و انقطاع الحيلة إلى المبادرة إلى المسألة، و يؤيده قولهم: «من لدنك» فلو لا أن المذاهب أعيتهم و الأسباب تقطعت بهم و اليأس أحاط بهم ما قيدوا الرحمة المسئولة أن تكون من لدنه تعالى بل قالوا: آتنا رحمة كقول غيرهم «ربنا آتنا في الدنيا حسنة»: البقرة: 201 «ربنا آتنا ما وعدتنا على رسلك»: آل عمران: 194 فالمراد بالرحمة المسئولة التأييد الإلهي إذ لا مؤيد غيره.

و يمكن أن يكون المراد بالرحمة المسئولة من لدنه بعض المواهب و النعم المختصة به تعالى كالهداية التي يصرح في مواضع من كلامه بأنها منه خاصة، و يشعر به التقييد بقوله «من لدنك»، و يؤيده ورود نظيره في دعاء الراسخين في العلم المنقول في قوله: «ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا و هب لنا من لدنك رحمة»: آل عمران: 8 فما سألوا إلا الهداية.

و قوله: «و هيىء لنا من أمرنا رشدا» المراد من أمرهم الشأن الذي يخصهم و هم عليه و قد هربوا من قوم يتبعون المؤمنين و يسفكون دماءهم و يكرهونهم على عبادة غير الله، و التجئوا إلى كهف و هم لا يدرون ما ذا سيجري عليهم؟ و لا يهتدون أي سبيل للنجاة يسلكون؟ و من هنا يظهر أن المراد بالرشد الاهتداء إلى ما فيه نجاتهم.

فالجملة أعني قوله: «و هيىء لنا من أمرنا رشدا» على أول الاحتمالين السابقين في معنى الرحمة عطف تفسير على قوله: «آتنا من لدنك رحمة» و على ثانيهما مسألة بعد مسألة.

قوله تعالى: «فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا» قال في الكشاف، أي ضربنا عليها حجابا من أن تسمع يعني أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأصوات كما ترى المستثقل في نومه يصاح به فلا يسمع و لا يستنبه فحذف المفعول الذي هو الحجاب كما يقال: بنى على امرأته يريدون بنى عليها القبة.

انتهى.

و قال في المجمع،: و معنى ضربنا على آذانهم سلطنا عليهم النوم، و هو من الكلام البالغ في الفصاحة يقال: ضربه الله بالفالج إذا ابتلاه الله به، قال قطرب: هو كقول العرب: ضرب الأمير على يد فلان إذا منعه من التصرف، قال الأسود بن يعفر و قد كان ضريرا: و من الحوادث لا أبالك أنني.

ضربت علي الأرض بالأسداد.

و قال: هذا من فصيح لغات القرآن التي لا يمكن أن يترجم بمعنى يوافق اللفظ انتهى، و ما ذكره من المعنى أبلغ مما ذكره الزمخشري.

و هنا معنى ثالث و إن لم يذكروه: و هو أن يكون إشارة إلى ما تصنعه النساء عند إنامة الصبي غالبا من الضرب على أذنه بدق الأكف أو الأنامل عليها دقا نعيما لتتجمع حاسته عليه فيأخذه النوم بذلك فالجملة كناية عن إنامتهم سنين معدودة بشفقة و حنان كما تفعل الأم المرضع بطفلها الرضيع.

و قوله: «سنين عددا» ظرف للضرب، و العدد مصدر كالعد بمعنى المعدود فالمعنى سنين معدودة، و قيل بحذف المضاف و التقدير ذوات عدد.

و قد قال في الكشاف، إن توصيف السنين بالعدد يحتمل أن يراد به التكثير أو التقليل لأن الكثير قليل عنده كقوله: لم يلبثوا إلا ساعة من نهار، و قال الزجاج إن الشيء إذا قل فهم مقدار عدده فلم يحتج أن يعد و إذا كثر احتاج إلى أن يعد.

انتهى ملخصا.

و ربما كانت العناية في التوصيف بالعدد هي أن الشيء إذا بلغ في الكثرة عسر عده فلم يعد عادة و كان التوصيف بالعدد أمارة كونه قليلا يقبل العد بسهولة، قال تعالى: «و شروه بثمن بخس دراهم معدودة»: يوسف: 20 أي قليلة.

و كون الغرض من التوصيف بالعدد هو التقليل هو الملائم للسياق على ما مر فإن الكلام مسرود لنفي كون قصتهم عجبا و إنما يناسبه تقليل سني لبثهم لا تكثيرها - و معنى الآية ظاهر و قد دل فيها على كونهم نائمين في الكهف طول المدة لا ميتين.

قوله تعالى: «ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا» المراد بالبعث هو الإيقاظ دون الإحياء بقرينة الآية السابقة، و قال الراغب: الحزب جماعة فيها غلظ انتهى.

و قال: الأمد و الأبد يتقاربان لكن الأبد عبارة عن مدة الزمان التي ليس لها حد محدود و لا يتقيد لا يقال: أبد كذا، و الأمد مدة لها حد مجهول إذا أطلق، و قد ينحصر نحو أن يقال: أمد كذا كما يقال: زمان كذا.

و الفرق بين الأمد و الزمان أن الأمد يقال باعتبار الغاية و الزمان عام في المبدإ و الغاية، و لذلك قال بعضهم: المدى و الأمد يتقاربان.

انتهى.

و المراد بالعلم العلم الفعلي و هو ظهور الشيء و حضوره بوجوده الخاص عند الله، و قد كثر ورود العلم بهذا المعنى في القرآن كقوله: «ليعلم الله من ينصره و رسله بالغيب»: الحديد: 25، و قوله: «ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم»: الجن: 28 و إليه يرجع قول بعضهم في تفسيره: أن المعنى ليظهر معلومنا على ما علمناه.

و قوله: «لنعلم أي الحزبين أحصى» إلخ تعليل للبعث و اللام للغاية و المراد بالحزبين الطائفتان من أصحاب الكهف حين سأل بعضهم بعضا بعد البعث: قائلا كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم على ما يفيده قوله تعالى في الآيات التالية: «و كذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم» إلخ.

و أما قول القائل: إن المراد بالحزبين الطائفتان من قومهم المؤمنون و الكافرون كأنهم اختلفوا في أمد لبثهم في الكهف بين مصيب في إحصائه و مخطىء فبعثهم الله تعالى ليبين ذلك و يظهر، و المعنى أيقظناهم ليظهر أي الطائفتين المختلفتين من المؤمنين و الكافرين في أمد لبثهم مصيبة في قولها، فبعيد.

و قوله: «أحصى لما لبثوا أمدا فعل ماض من الإحصاء، و «أمدا» مفعوله و الظاهر أن «لما لبثوا» قيد لقوله «أمدا» و ما مصدرية أي أي الحزبين عد أمد لبثهم و قيل: أحصى اسم تفضيل من الإحصاء بحذف الزوائد كقولهم: هو أحصى للمال و أفلس من ابن المذلق 1، و أمدا منصوب بفعل يدل عليه «أحصى» و لا يخلو من تكلف، و قيل غير ذلك.

و معنى الآيات الثلاث أعني قوله: «إذ أوى الفتية إلى قوله: «أمدا» إذ رجع الشبان إلى الكهف فسألوا عند ذلك ربهم قائلين: ربنا هب لنا من لدنك ما ننجو به مما يهددنا بالتخيير بين عبادة غيرك و بين القتل و أعد لنا من أمرنا هدى نهتدي به إلى النجاة فأنمناهم في الكهف سنين معدودة ثم أيقظناهم ليتبين أي الحزبين عد أمدا للبثهم.

و الآيات الثلاث - كما ترى - تذكر إجمال قصتهم تشير بذلك إلى جهة كونهم من آيات الله و غرابة أمرهم، تشير الآية الأولى إلى دخولهم الكهف و مسألتهم للنجاة، و الثانية إلى نومهم فيه سنين عددا، و الثالثة إلى تيقظهم و انتباههم و اختلافهم في تقدير زمان لبثهم.

فلإجمال القصة أركان ثلاثة تتضمن كل واحدة من الآيات الثلاث واحدا منها و على هذا النمط تجري الآيات التالية المتضمنة لتفصيل القصة غير أنها تضيف إلى ذلك بعض ما جرى بعد ظهور أمرهم و تبين حالهم للناس، و هو الذي يشير إليه قوله: «و كذلك أعثرنا عليهم» إلى آخر آيات القصة.

قوله تعالى: «نحن نقص عليك نبأهم بالحق» إلى آخر الآية.

شروع في ذكر ما يهم من خصوصيات قصتهم تفصيلا، و قوله: «إنهم فتية آمنوا بربهم أي آمنوا إيمانا مرضيا لربهم و لو لا ذلك لم ينسبه إليهم قطعا.

و قوله: «و زدناهم هدى» الهدى بعد أصل الإيمان ملازم لارتقاء درجة الإيمان الذي فيه اهتداء الإنسان إلى كل ما ينتهي إلى رضوان الله قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و آمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته و يجعل لكم نورا تمشون به»: الحديد: 28.

قوله تعالى: «و ربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا» إلى آخر الآيات الثلاث الربط هو الشد، و الربط على القلوب كناية عن سلب القلق و الاضطراب عنها، و الشطط الخروج عن الحد و التجاوز عن الحق، و السلطان الحجة و البرهان.

و الآيات الثلاث تحكي الشطر الأول من محاورتهم حين انتهضوا لمخالفة الوثنية و مخاصمتهم «إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات و الأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لو لا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا».

و قد أتوا بكلام مملوء حكمة و فهما راموا به إبطال ربوبية أرباب الأصنام من الملائكة و الجن و المصلحين من البشر الذين رامت الفلسفة الوثنية إثبات ألوهيتهم و ربوبيتهم دون نفس الأصنام التي هي تماثيل و صور لأولئك الأرباب تدعوها عامتهم آلهة و أربابا، و من الشاهد على ذلك قوله: «عليهم» حيث أرجع إليهم ضمير «هم» المختص بأولى العقل.

فبدءوا بإثبات توحيده بقولهم: «ربنا رب السماوات و الأرض» فأسندوا ربوبية الكل إلى واحد لا شريك له، و الوثنية تثبت لكل نوع من أنواع الخلقية إلها و ربا كرب السماء و رب الأرض و رب الإنسان.

ثم أكدوا ذلك بقولهم: «لن ندعوا من دونه إلها و من فائدته نفي الآلهة الذين تثبتهم الوثنية فوق أرباب الأنواع كالعقول الكلية التي تعبده الصابئة و برهما و سيوا و وشنو الذين تعبدهم البراهمة و البوذية و أكدوه ثانيا بقولهم: «لقد قلنا إذا شططا» فدلوا على أن دعوة غيره من التجاوز عن الحد بالغلو في حق المخلوق برفعه إلى درجة الخالق.

ثم كروا على القوم في عبادتهم غير الله سبحانه باتخاذهم آلهة فقالوا: «هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لو لا يأتون عليهم بسلطان بين» فردوا قولهم بأنهم لا برهان لهم على ما يدعونه يدل عليه دلالة بينة.

و ما استدلوا به من قولهم: إن الله سبحانه أجل من أن يحيط به إدراك خلقه فلا يمكن التوجه إليه بالعبادة و لا التقرب إليه بالعبودية فلا يبقى لنا إلا أن نعبد بعض الموجودات الشريفة من عباده المقربين ليقربونا إليه زلفى مردود إليهم أما عدم إحاطة الإدراك به تعالى فهو مشترك بيننا معاشر البشر و بين من يعبدونه من العباد المقربين، و الجميع منا و منهم يعرفونه بأسمائه و صفاته و آثاره كل على قدر طاقته فله أن يتوجه إليه بالعبادة على قدر معرفته.

على أن جميع الصفات الموجبة لاستحقاق العبادة من الخلق و الرزق و الملك و التدبير له وحده و لا يملك غيره شيئا من ذلك فله أن يعبد و ليس لغيره ذلك.

ثم أردفوا قولهم: «لو لا يأتون عليهم بسلطان بين» بقولهم «فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا» و هو من تمام الحجة الرادة لقولهم، و معناه أن عليهم أن يقيموا برهانا قاطعا على قولهم فلو لم يقيموه كان قولهم من القول بغير علم في الله و هو افتراء الكذب عليه تعالى، و الافتراء ظلم و الظلم على الله أعظم الظلم.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي