الميزان في تفسير القرآن

سورة الكهف

9 - 26

تابع
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِه ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاء ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)

هذا فقد دلوا بكلامهم هذا أنهم كانوا علماء بالله أولي بصيرة في دينهم، و صدقوا قوله تعالى «و زدناهم هدى» و في الكلام على ما به من الإيجاز قيود تكشف عن تفصيل نهضتهم في بادئها فقوله تعالى: «و ربطنا على قلوبهم» يدل على أن قولهم: «ربنا رب السماوات و الأرض» إلخ لم يكن بإسرار النجوى و في خلإ من عبدة الأوثان بل كان بإعلان القول و الإجهار به في ظرف تذوب منه القلوب و ترتاع النفوس و تقشعر الجلود في ملإ معاند يسفك الدماء و يعذب و يفتن.

و قوله: «لن ندعوا من دونه إلها» بعد قوله «ربنا رب السماوات و الأرض» - و هو جحد و إنكار - فيه إشعار و تلويح إلى أنه كان هناك تكليف إجباري بعبادة الأوثان و دعاء غير الله.

و قوله: «إذ قاموا فقالوا» إلخ يشير إلى أنهم في بادىء قولهم كانوا في مجلس يصدر عنه الأمر بعبادة الأوثان و الإجبار عليها و النهي عن عبادة الله و السياسة المنتحلية بالقتل و العذاب كمجلس الملك أو ملئه أو ملإ عام كذلك فقاموا و أعلنوا مخالفتهم و خرجوا و اعتزلوا القوم و هم في خطر عظيم يهددهم و يهجم عليهم من كل جانب كما يدل عليه قولهم: «و إذ اعتزلتموهم و ما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف.

و هذا يؤيد ما وردت به الرواية - و سيجيء الخبر - أن ستة منهم كانوا من خواص الملك يستشيرهم في أموره فقاموا من مجلس و أعلنوا التوحيد و نفي الشريك عنه تعالى.

و لا ينافي ذلك ما سيأتي من الروايات أنهم كانوا يسرون إيمانهم و يعملون بالتقية لجواز أن يكونوا سائرين عليها ثم يفاجئوا القوم بإعلان الإيمان ثم يعتزلوهم من غير مهل فلم تكن تسعهم إدامة التظاهر بالإيمان و إلا قتلوا بلا شك.

و ربما احتمل أن يكون المراد بقيامهم قيامهم لله نصرة منهم للحق و قولهم: «ربنا رب السماوات و الأرض» إلخ قولا منهم في أنفسهم و قولهم: «و إذ اعتزلتموهم» إلخ قولا منهم بعد ما خرجوا من المدينة، أو يكون المراد قيامهم لله، و جميع ما نقل من أقوالهم إنما قالوها فيما بين أنفسهم بعد ما خرجوا من المدينة و تنحوا عن القوم و على الوجهين يكون المراد بالربط على قلوبهم أنهم لم يخافوا عاقبة الخروج و الهرب من المدينة و هجرة القوم لكن الأظهر هو الوجه الأول.

قوله تعالى: «و إذ اعتزلتموهم و ما يعبدون من دون الله فأووا إلى الكهف» إلى آخر الآية الاعتزال و التعزل التنحي عن أمر، و النشر البسط، و المرفق بكسر الميم و فتح الفاء و بالعكس و بفتحهما المعاملة بلطف.

هذا هو الشطر الثاني من محاورتهم جرت بينهم بعد خروجهم من بين الناس و اعتزالهم إياهم و ما يعبدون من دون الله و تنحيهم عن الجميع يشير به بعضهم عليهم أن يدخلوا الكهف و يتستروا فيه من أعداء الدين.

و قد تفرسوا بهدى إلهي أنهم لو فعلوا ذلك عاملهم الله من لطفه و رحمته بما فيه نجاتهم من تحكم القوم و ظلمهم و الدليل على ذلك قولهم بالجزم: «فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته» إلخ و لم يقولوا: عسى أن ينشر أو لعل.

و هذان اللذان تفرسوا بهما من نشر الرحمة و تهيئة المرفق هما اللذان سألوهما بعد دخول الكهف إذ قالوا - كما حكى الله - «ربنا آتنا من لدنك رحمة و هيىء لنا من أمرنا رشدا».

و الاستثناء في قوله: «و ما يعبدون إلا الله» استثناء منقطع فإن الوثنيين لم يكونوا يعبدون الله مع سائر آلهتهم حتى يفيد الاستثناء إخراج بعض ما دخل أولا في المستثنى منه فيكون متصلا فقول بعضهم: إنهم كانوا يعبدون الله و يعبدون الأصنام كسائر المشركين.

و كذا قول بعض آخر: يجوز أنه كان فيهم من يعبد الله مع عبادة الأصنام فيكون الاستثناء متصلا في غير محله، إذ لم يعهد من الوثنيين عبادة الله سبحانه مع عبادة الأصنام، و فلسفتهم لا تجيز ذلك، و قد أشرنا إلى حجتهم في ذلك آنفا.

قوله تعالى: «و ترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين و إذا غربت تقرضهم ذات الشمال» إلى آخر الآيتين التزاور هو التمايل مأخوذ من الزور بمعنى الميل و القرض القطع، و الفجوة المتسع من الأرض و ساحة الدار و المراد بذات اليمين و ذات الشمال الجهة التي تلي اليمين أو الشمال أو الجهة ذات اسم اليمين أو الشمال و هما جهتا اليمين و الشمال.

و هاتان الآيتان تمثلان الكهف و مستقرهم منه و منظرهم و ما يتقلب عليهم من الحال أيام لبثهم فيه و هم رقود و الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما أنه سامع لا بما أنه هو، و هذا شائع في الكلام، و الخطاب على هذا النمط يعم كل سامع من غير أن يختص بمخاطب خاص.

فقوله: «و ترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين و إذا غربت تقرضهم ذات الشمال و هم في فجوة منه» يصف موقع الكهف و موقعهم فيه و هم نائمون و أما إنامتهم فيه بعد الأوي إليه و مدة لبثهم فيه فقد اكتفي في ذلك بما أشير إليه في الآيات السابقة من إنامتهم و لبثهم و ما سيأتي من قوله: «و لبثوا في كهفهم» «إلخ» إيثارا للإيجاز.

و المعنى: و ترى أنت و كل راء يفرض اطلاعه عليهم و هم في الكهف يرى الشمس إذا طلعت تتزاور و تتمايل عن كهفهم جانب اليمين فيقع نورها عليه، و إذا غربت تقطع جانب الشمال فيقع شعاعها عليه و هم في متسع من الكهف لا تناله الشمس.

و قد أشار سبحانه بذلك إلى أن الكهف لم يكن شرقيا و لا غربيا لا يقع عليه شعاع الشمس إلا في أحد الوقتين بل كان قطبيا يحاذي ببابه القطب فيقع شعاع الشمس على أحد جانبيه من داخل طلوعا و غروبا، و لا يقع عليهم لأنهم كانوا في متسع منه فوقاهم الله بذلك من أن يؤذيهم حر الشمس أو يغير ألوانهم أو يبلي ثيابهم بل كانوا مرتاحين في نومتهم مستفيدين من روح الهواء المتحول عليهم بالشروق و الغروب و هم في فجوة منه، و لعل تنكير فجوة للدلالة على وصف محذوف و التقدير و هم في فجوة منه لا يصيبهم فيه شعاعها.

و قد ذكر المفسرون أن الكهف كان بابه مقابلا للقطب الشمالي يسامت بنات النعش، و الجانب الأيمن منه ما يلي المغرب و يقع عليه شعاع الشمس عند طلوعها و الجانب الأيسر منه ما يلي المشرق و تناله الشمس عند غروبها، و هذا مبني على أخذ جهتي اليمين و الشمال للكهف باعتبار الداخل فيه، و كأن ذلك منهم تعويلا على ما هو المشهور أن هذا الكهف واقع في بلدة إفسوس من بلاد الروم الشرقي فإن الكهف الذي هناك قطبي يقابل بابه القطب الشمالي متمايلا قليلا إلى المشرق على ما يقال.

و المعمول في اعتبار اليمين و اليسار لمثل الكهف و البيت و الفسطاط و كل ما له باب أن يؤخذا باعتبار الخارج منه دون الداخل فيه فإن الإنسان أول ما أحس الحاجة إلى اعتبار الجهات أخذها لنفسه فسمى ما يلي رأسه و قدمه علوا و سفلا و فوق و تحت، و سمى ما يلي وجهه قدام و ما يقابله خلف، و سمى الجانب القوي منه و هو الذي فيه يده القوية يمينا، و الذي يخالفه شمالا و يسارا ثم إذا مست الحاجة إلى اعتبار الجهات في شيء فرض الإنسان نفسه مكانه فما كان من أطراف ذلك الشيء ينطبق عليه الوجه و هو الطرف الذي يستقبل به الشيء غيره تعين به قدامه و بما يقاطره خلفه، و بما ينطبق عليه يمين الإنسان من أطرافه يمينه و كذا بيسار الإنسان يساره.

و إذ كان الوجه في مثل البيت و الدار و الفسطاط و كل ما له باب طرفه الذي فيه الباب كان تعين يمينه و يساره باعتبار الخارج من الباب دون الداخل منه، و على هذا يكون الكهف الذي وصفته الآية بما وصفت جنوبيا يقابل بابه القطب الجنوبي لا كما ذكروه، و للكلام تتمة ستوافيك إن شاء الله.

و على أي حال كان وضعهم هذا من عناية الله و لطفه بهم ليستبقيهم بذلك حتى يبلغ الكتاب أجله، و إليه الإشارة بقوله عقيبه: «ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد و من يضلل فلن تجد له وليا مرشدا».

و قوله: «و تحسبهم أيقاظا و هم رقود» الأيقاظ جمع يقظ و يقظان و الرقود جمع راقد و هو النائم، و في الكلام تلويح إلى أنهم كانوا مفتوحي الأعين حال نومهم كالأيقاظ.

و قوله: «و نقلبهم ذات اليمين و ذات الشمال» أي و نقلبهم جهة اليمين و جهة الشمال، و المراد نقلبهم تارة من اليمين إلى الشمال و تارة من الشمال إلى اليمين لئلا تأكلهم الأرض، و لا تبلى ثيابهم، و لا تبطل قواهم البدنية بالركود و الخمود طول المكث.

و قوله: «و كلبهم باسط ذراعيه بالوصيد» الوصيد فناء البيت و قيل: عتبة الدار و المعنى كانوا على ما وصف من الحال و الحال أن كلبهم مفترش بذراعيه باسط لهما بفناء الكهف و فيه إخبار بأنهم كان لهم كلب يلازمهم و كان ماكثا معهم طول مكثهم في الكهف.

و قوله: «لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا و لملئت منهم رعبا» بيان أنهم و حالهم هذا الحال كان لهم منظر موحش هائل لو أشرف عليهم الإنسان فر منهم خوفا من خطرهم تبعدا من المكروه المتوقع من ناحيتهم و ملأ قلبه الروع و الفزع رعبا و سرى إلى جميع الجوارح فملأ الجميع رعبا، و الكلام في الخطاب الذي في قوله: «لوليت» و قوله: «و لملئت» كالكلام في الخطاب الذي في قوله: «و ترى الشمس».

و قد بان بما تقدم من التوضيح أولا: الوجه في قوله: «و لملئت منهم رعبا» و لم يقل: و لملىء قلبك رعبا.

و ثانيا: الوجه في ترتيب الجملتين: «لوليت منهم فرارا و لملئت منهم رعبا» و ذلك أن الفرار و هو التبعد من المكروه معلول لتوقع وصول المكروه تحذرا منه، و ليس بمعلول للرعب الذي هو الخشية و تأثر القلب، و المكروه المترقب يجب أن يتحذر منه سواء كان هناك رعب أو لم يكن.

فتقديم الفرار على الرعب ليس من قبيل تقديم المسبب على سببه بل من تقديم حكم الخوف على الرعب و هما حالان متغايران قلبيان، و لو كان بدل الخوف من الرعب لكان من حق الكلام تقديم الجملة الثانية و تأخير الأولى و أما بناء على ما ذكرناه فتقديم حكم الخوف على حصول الرعب و هما جميعا أثران للاطلاع على منظرهم الهائل الموحش أحسن و أبلغ لأن الفرار أظهر دلالة على ذلك من الامتلاء بالرعب.

قوله تعالى: «و كذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم» إلى آخر الآيتين التساؤل سؤال بعض القوم بعضا، و الورق بالفتح فالكسر: الدراهم، و قيل هو الفضة مضروبة كانت أو غيرها، و قوله: إن يظهروا عليكم أي إن يطلعوا عليكم أو إن يظفروا بكم.

و الإشارة بقوله: «و كذلك بعثناهم» إلى إنامتهم بالصورة التي مثلتها الآيات السابقة أي كما أنمناهم في الكهف دهرا طويلا على هذا الوضع العجيب المدهش الذي كان آية من آياتنا كذلك بعثناهم و أيقظناهم ليتساءلوا بينهم.

و هذا التشبيه و جعل التساؤل غاية للبعث مع ما تقدم من دعائهم لدى ورود الكهف و إنامتهم إثر ذلك يدل على أنهم إنما بعثوا من نومتهم ليتساءلوا فيظهر لهم حقيقة الأمر، و إنما أنيموا و لبثوا في نومتهم دهرا ليبعثوا، و قد نومهم الله إثر دعائهم و مسألتهم رحمة من عند الله و اهتداء مهيأ من أمرهم فقد كان أزعجهم استيلاء الكفر على مجتمعهم و ظهور الباطل و إحاطة القهر و الجبر و هجم عليهم اليأس و القنوط من ظهور كلمة الحق و حرية أهل الدين في دينهم فاستطالوا لبث الباطل في الأرض و ظهوره على الحق كالذي مر على قرية و هي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه.

و بالجملة لما غلبت عليهم هذه المزعمة و استيأسوا من زوال غلبة الباطل أنامهم الله سنين عددا ثم بعثهم ليتساءلوا فيجيبوا بيوم أو بعض يوم ثم ينكشف لهم تحول الأحوال و مرور مآت من السنين عند غيرهم و هي بنظرة أخرى كيوم أو بعض يوم فيعلموا أن طول الزمان و قصره ليس بذاك الذي يميت حقا أو يحيي باطلا و إنما هو الله سبحانه جعل ما على الأرض زينة لها و جذب إليها الإنسان و أجرى فيها الدهور و الأيام ليبلوهم أيهم أحسن عملا، و ليس للدنيا إلا أن تغر بزينتها طالبيها ممن أخلد إلى الأرض و اتبع هواه.

و هذه حقيقة لا تزال لائحة للإنسان كلما انعطف على ما مرت عليه من أيامه السالفة و ما جرت عليه من الحوادث حلوها و مرها و جدها كطائف في نومة أو سنة في مثل يوم غير أن سكر الهوى و التلهي بلهو الدنيا لا يدعه أن ينتبه للحق فيتبعه لكن لله سبحانه على الإنسان يوم لا يشغله عن مشاهدة هذه الحقيقة شاغل من زينة الدنيا و زخرفها و هو يوم الموت كما عن علي (عليه السلام): «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا و يوم آخر و هو يوم يطوي فيه بساط الدنيا و زينتها و يقضي على العالم الإنساني بالبيد و الانقراض.

و قد ظهر بما تقدم أن قوله تعالى: «ليتساءلوا بينهم» غاية لبعثهم و اللام لتعليل الغاية، و تنطبق على ما مر من الغاية في قوله: «ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا».

و ذكر بعضهم: أنه بعض الغاية وضع موضعها لاستتباعه لسائر آثار البعث كأنه قيل ليتساءلوا بينهم و ينجر ذلك إلى ظهور أمرهم و انكشاف الآية و ظهور القدرة و هذا مع عدم شاهد عليه من جهة اللفظ تكلف ظاهر.

و ذكر آخرون: أن اللام في قوله: «ليتساءلوا» للعاقبة دون الغاية استبعادا لأن يكون التساؤل و هو أمر هين غاية للبعث و هو آية عظيمة، و فيه أن جعل اللام للعاقبة لا يجدي نفعا في دفع ما استبعده إذ كما لا ينبغي أن يجعل أمر هين للغاية مطلوبة لأمر خطير و آية عظيمة كذلك لا يحسن ذكر شيء يسير عاقبة لأمر ذي بال و آية عجيبة مدهشة على أنك عرفت صحة كون التساؤل علة غائية للبعث آنفا.

و قوله: «قال قائل منهم كم لبثتم» دليل على أن السائل عن لبثهم كان واحدا منهم خاطب الباقين و سألهم عن مدة لبثهم في الكهف نائمين و كأن السائل استشعر طولا في لبثهم مما وجده من لوثة النوم الثقيل بعد التيقظ فقال: كم لبثتم؟.

و قوله: «قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم» ترددوا في جوابهم بين اليوم و بعض اليوم و كأنهم بنوا الجواب على ما شاهدوا من تغير محل وقوع الشمس كأن أخذوا في النوم أوائل النهار و انتبهوا في أواسطه أو أواخره ثم شكوا في مرور الليل عليهم فيكون مكثهم يوما و عدم مروره فيكون بعض يوم فأجابوا بالترديد بين يوم و بعض يوم و هو على أي حال جواب واحد.

و قول بعضهم: إن الترديد على هذا يجب أن يكون بين بعض يوم و يوم و بعض لا بين يوم و بعض يوم فالوجه أن يكون «أو» للتفصيل لا للترديد و المعنى قال بعضهم: لبثنا يوم و قال بعض آخر: لبثنا بعض يوم.

لا يلتفت إليه أما أولا فلأن هذا المعنى لا يتلقى من سياق مثل قوله: «لبثنا يوما أو بعض يوم» البتة و قد أجاب بمثله شخص واحد بعينه قال تعالى: «قال كم لبثت قال: لبثت يوما أو بعض يوم»: البقرة: 259.

و أما ثانيا فلأن قولهم: «لبثنا يوما» إنما أخذوه عما استدلوا به من الأمور المشهودة لهم لجلالة قدرهم عن التحكم و التهوس و المجازفة و الأمور الخارجية التي يستدل بها الإنسان و خاصة من نام ثم انتبه من شمس و ظل و نور و ظلمة و نحو ذلك لا تشخص مقدار اليوم التام من غير زيادة و نقيصة سواء في ذلك الترديد و التفصيل فالمراد باليوم على أي حال ما يزيد على ليلة بنهارها بعض الزيادة و هو استعمال شائع.

و قوله تعالى: «قالوا ربكم أعلم بما لبثتم» أي قال بعض آخر منهم ردا على القائلين: لبثنا يوما أو بعض يوم»: «ربكم أعلم بما لبثتم» و لو لم يكن ردا لقالوا ربنا أعلم بما لبثنا.

و بذلك يظهر أن إحالة العلم إلى الله تعالى في قولهم: «ربكم أعلم» ليس لمجرد مراعاة حسن الأدب كما قيل بل لبيان حقيقة من حقائق معارف التوحيد و هي أن العلم بحقيقة معنى الكلمة ليس إلا لله سبحانه فإن الإنسان محجوب عما وراء نفسه لا يملك بإذن الله إلا نفسه و لا يحيط إلا بها و إنما يحصل له من العلم بما هو خارج عن نفسه ما دلت عليه الأمارات الخارجية و بمقدار ما ينكشف بها و أما الإحاطة بعين الأشياء و نفس الحوادث و هو العلم حقيقة فإنما هو لله سبحانه المحيط بكل شيء الشهيد على كل شيء و الآيات الدالة على هذه الحقيقة لا تحصى.

فليس للموحد العارف بمقام ربه إلا أن يسلم الأمر له و ينسب العلم إليه و لا يسند إلى نفسه شيئا من الكمال كالعلم و القدرة إلا ما اضطر إليه فيبدأ بربه فينسب إليه حقيقة الكمال ثم لنفسه ما ملكه الله إياه و أذن له فيه كما قال: «علم الإنسان ما لم يعلم»: العلق: 5 و قال: «قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا»: البقرة: 32 إلى آيات أخرى كثيرة.

و يظهر بذلك أن القائلين منهم: «ربكم أعلم بما لبثتم» كانوا أعلى كعبا في مقام المعرفة من القائلين: «لبثنا يوما أو بعض يوم» و لم يريدوا بقولهم هذا مجرد إظهار الأدب و إلا لقالوا: ربنا أعلم بما لبثنا و لم يكونوا أحد الحزبين اللذين أشار سبحانه إليهما بقوله فيما سبق: «ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا» فإن إظهار الأدب لا يسمى قولا و إحصاء و لا الآتي به ذا قول و إحصاء.

و الظاهر أن القائلين منهم: «ربكم أعلم بما لبثتم» غير القائلين: «لبثنا يوما أو بعض يوم» فإن السياق سياق المحاورة و المجاوبة كما قيل و لازمه كون المتكلمين ثانيا غير المتكلمين أولا و لو كانوا هم الأولين بأعيانهم لكان من حق الكلام أن يقال: ثم قالوا ربنا أعلم بما لبثنا بدل قوله: «ربكم أعلم» إلخ.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي