الميزان في تفسير القرآن

سورة الكهف

83 - 102

تابع
وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلا (102)

لم يعترض لاسمه و لا لتاريخ زمان ولادته و حياته و لا لنسبه و سائر مشخصاته على ما هو دأبه في ذكر قصص الماضين بل اكتفى على ذكر ثلاث رحلات منه فرحلة أولى إلى المغرب حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة أو حامية و وجد عندها قوما، و رحلة ثانية إلى المشرق حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم يجعل الله لهم من دونها سترا، و رحلة ثالثة حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا فشكوا إليه إفساد يأجوج و مأجوج في الأرض و عرضوا عليه أن يجعلوا له خرجا على أن يجعل بين القوم و بين يأجوج و مأجوج سدا فأجابهم إلى بناء السد و وعدهم أن يبني لهم فوق ما يأملون و أبى أن يقبل خرجهم و إنما طلب منهم أن يعينوه بقوة و قد أشير منها في القصة إلى الرجال و زبر الحديد و المنافخ و القطر.

و الخصوصيات و الجهات الجوهرية التي تستفاد من القصة هي أولا أن صاحب القصة كان يسمى قبل نزول قصته في القرآن بل حتى في زمان حياته بذي القرنين كما يظهر في سياق القصة من قوله: «يسألونك عن ذي القرنين» «قلنا يا ذا القرنين» و «قالوا يا ذا القرنين».

و ثانيا: أنه كان مؤمنا بالله و اليوم الآخر و متدينا بدين الحق كما يظهر من قوله: «هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء و كان وعد ربي حقا» و قوله: «أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا و أما من آمن و عمل صالحا» إلخ و يزيد في كرامته الدينية أن قوله تعالى: «قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب و إما أن تتخذ فيهم حسنا» يدل على تأييده بوحي أو إلهام أو نبي من أنبياء الله كان عنده يسدده بتبليغ الوحي.

و ثالثا: أنه كان ممن جمع الله له خير الدنيا و الآخرة، أما خير الدنيا فالملك العظيم الذي بلغ به مغرب الشمس و مطلعها فلم يقم له شيء و قد ذلت له الأسباب، و أما خير الآخرة فبسط العدل و إقامة الحق و الصفح و العفو و الرفق و كرامة النفس و بث الخير و دفع الشر، و هذا كله مما يدل عليه قوله تعالى: «إنا مكنا له في الأرض و آتيناه من كل شيء سببا» مضافا إلى ما يستفاد من سياق القصة من سيطرته الجسمانية و الروحانية.

و رابعا: أنه صادف قوما ظالمين بالمغرب فعذبهم.

و خامسا: أن الردم الذي بناه هو في غير مغرب الشمس و مطلعها فإنه بعد ما بلغ مطلع الشمس أتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين.

و من مشخصات ردمه مضافا إلى كونه واقعا في غير المغرب و المشرق أنه واقع بين جبلين كالحائطين، و أنه ساوى بين صدفيهما و أنه استعمل في بنائه زبر الحديد و القطر، و لا محالة هو في مضيق هو الرابط بين ناحيتين من نواحي الأرض المسكونة.

2 - ذكرى ذي القرنين و السد و يأجوج و مأجوج:

في أخبار الماضين، لم يذكر القدماء من المؤرخين في أخبارهم ملكا يسمى في عهده بذي القرنين أو ما يؤدي معناه من غير اللفظ العربي و لا يأجوج و مأجوج بهذين اللفظين و لا سدا ينسب إليه باسمه نعم ينسب إلى بعض ملوك حمير من اليمنيين أشعار في المباهاة يذكر فيها ذا القرنين و أنه من أسلافه التبابعة و فيها ذكر سيره إلى المغرب و المشرق و سد يأجوج و مأجوج و سيوافيك نبذة منها في بعض الفصول الآتية.

و ورد ذكر «مأجوج» و «جوج و مأجوج» في مواضع من كتب العهد العتيق ففي الإصلاح 1 العاشر من سفر التكوين من التوراة،: «و هذه مواليد بني نوح: سام و حام و يافث و ولد لهم بنون بعد الطوفان. بنو يافث جومر و مأجوج و ماداي و باوان و نوبال و ماشك و نبراس.

و في كتاب حزقيال، 2 الإصحاح الثامن و الثلاثون: و كان إلى كلام الرب قائلا: يا بن آدم اجعل وجهك على جوج أرض مأجوج رئيس روش ماشك و نوبال، و تنبأ عليه و قل: هكذا قال السيد الرب: ها أنا ذا عليك يأجوج رئيس روش و ماشك و نوبال و أرجعك و أضع شكائم في فكيك و أخرجك أنت و كل جيشك خيلا و فرسانا كلهم لابسين أفخر لباس جماعة عظيمة مع أتراس و مجان كلهم ممسكين السيوف. فارس و كوش و فوط معهم كلهم بمجن و خوذة، و جومر و كل جيوشه و بيت نوجرمه من أقاصي الشمال مع كل جيشه شعوبا كثيرين معك». قال: لذلك تنبأ يا بن آدم و قل لجوج: هكذا قال السيد الرب في ذلك اليوم عند سكنى شعب إسرائيل آمنين أ فلا تعلم و تأتي من موضعك من أقاصي الشمال» إلخ.

و قال في الإصحاح التاسع و الثلاثين ماضيا في الحديث السابق: و أنت يا بن آدم تنبأ على جوج و قل هكذا قال السيد الرب ها أنا ذا عليك يأجوج رئيس روش ماشك و نوبال و أردك و أقودك و أصعدك من أقاصي الشمال. و آتي بك على جبال إسرائيل و أضرب قوسك من يدك اليسرى و أسقط سهامك من يدك اليمني فتسقط على جبال إسرائيل أنت و كل جيشك و الشعوب الذين معك أ بذلك مأكلا للطيور الكاسرة من كل نوع و لوحوش الحفل، على وجه الحفل تسقط لأني تكلمت بقول السيد الرب، و أرسل نارا على مأجوج و على الساكنين في الجزائر آمنين فيعلمون أني أنا الرب» إلخ.

و في رؤيا يوحنا في الإصحاح العشرين: «و رأيت ملاكا نازلا من السماء معه مفتاح الهاوية و سلسلة عظيمة على يده فقبض على التنين الحية القديمة الذي هو إبليس و الشيطان، و قيده ألف سنة، و طرحه في الهاوية و أغلق عليه و ختم عليه لكيلا يضل الأمم فيما بعد حتى تتم الألف سنة، و بعد ذلك لا بد أن يحل زمانا يسيرا. قال: «ثم متى تمت الألف سنة لن يحل الشيطان من سجنه و يخرج ليضل الأمم الذين في أربع زوايا الأرض جوج و مأجوج ليجمعهم للحرب الذين عددهم مثل رمل البحر فصعدوا على عرض الأرض، و أحاطوا بمعسكر القديسين و بالمدينة المحبوبة فنزلت نار من عند الله من السماء و أكلتهم، و إبليس الذي كان يضلهم طرح في بحيرة النار و الكبريت حيث الوحش و النبي الكذاب و سيعذبون نهارا و ليلا إلى أبد الآبدين».

و يستفاد منها أن «مأجوج» أو «جوج و مأجوج» أمة أو أمم عظيمة كانت قاطنة في أقاصي شمال آسيا من معمورة الأرض يومئذ و أنهم كانوا أمما حربية معروفة بالمغازي و الغارات.

و يقرب حينئذ أن يحدس أن ذا القرنين هذا هو أحد الملوك العظام الذين سدوا الطريق على هذه الأمم المفسدة في الأرض، و أن السد المنسوب إليه يجب أن يكون فاصلا بين منطقة شمالية من قارة آسيا و جنوبها كحائط الصين أو سد باب الأبواب أو سد «داريال» أو غير هذه.

و قد تسلمت تواريخ الأمم اليوم من أن ناحية الشمال الشرقي من آسيا و هي الأحداب و المرتفعات في شمال الصين كانت موطنا لأمة كبيرة بدوية همجية لم تزل تزداد عددا و تكثر سوادا فتكر على الأمم المجاورة لها كالصين و ربما نسلت من أحدابها و هبطت إلى بلاد آسيا الوسطى و الدنيا و بلغت إلى شمال أوربة فمنهم من قطن في أراض أغار عليها كأغلب سكنة أوربة الشمالية فتمدين بها و اشتغل بالزراعة و الصناعة، و منهم من رجع ثم عاد و عاد 1.

و هذا أيضا مما يؤيد ما استقربناه آنفا أن السد الذي نبحث عنه هو أحد الأسداد الموجودة في شمال آسيا الفاصلة بين الشمال و جنوبه.

3 - من هو ذو القرنين؟ و أين سده؟

للمؤرخين و أرباب التفسير في ذلك أقوال بحسب اختلاف أنظارهم في تطبيق القصة:.

أ - ينسب إلى بعضهم أن السد المذكور في القرآن هو حائط الصين، و هو حائط طويل يحول بين الصين و بين منغوليا بناه «شينهوانكتى» أحد ملوك الصين لصد هجمات المغول عن الصين، طوله ثلاثة آلاف كيلو متر في عرض تسعة أمتار و ارتفاع خمسة عشر مترا و قد بنى بالأحجار شرع في بنائه سنة 264 ق م و قد تم بناؤه في عشر أو عشرين و على هذا فذو القرنين هو الملك المذكور.

و يدفعه أن الأوصاف و المشخصات المذكورة في القرآن لذي القرنين و سده لا تنطبق على هذا الملك و حائط الصين الكبير فلم يذكر من هذا الملك أنه سار من أرضه إلى المغرب الأقصى، و السد الذي يذكره القرآن يصفه بأنه ردم بين جبلين و قد استعمل فيه زبر الحديد و القطر و هو النحاس المذاب و الحائط الكبير يمتد ثلاثة آلاف كيلو متر يمر في طريقه على السهول و الجبال، و ليس بين جبلين و هو مبني بالحجارة لم يستعمل فيه حديد و لا قطر.

ب - نسب إلى بعضهم أن الذي بنى السد هو أحد ملوك آشور 1 و قد كان يهجم في حوالي القرن السابع قبل الميلاد أقوام 2 سيت من مضيق جبال قفقاز إلى أرمينستان ثم غربي إيران و ربما بلغوا بلاد آشور و عاصمتها نينوا فأحاطوا بهم قتلا و سبيا و نهبا فبنى ملك آشور السد لصدهم، و كأن المراد به سد باب الأبواب المنسوب تعميره أو ترميمه إلى كسرى أنوشيروان من ملوك الفرس هذا.

و لكن الشأن في انطباق خصوصيات القصة عليه.

ج - قال في روح المعاني:، و قيل: هو يعني ذا القرنين فريدون بن أثفيان بن جمشيد خامس ملوك الفرس الفيشدادية، و كان ملكا عادلا مطيعا لله تعالى، و في كتاب صور الأقاليم، لأبي زيد البلخي: أنه كان مؤيدا بالوحي و في عامة التواريخ أنه ملك الأرض و قسمها بين بنيه الثلاثة: إيرج و سلم و تور فأعطى إيرج العراق و الهند و الحجاز و جعله صاحب التاج، و أعطى سلم الروم و ديار مصر و المغرب، و أعطى تور الصين و الترك و المشرق، و وضع لكل قانونا يحكم به، و سميت القوانين الثلاثة «سياسة» و هي معربة «سي أيسا» أي ثلاثة قوانين.

و وجه تسميته ذا القرنين أنه ملك طرفي الدنيا أو طول أيام سلطنته فإنها كانت على ما في روضة الصفا، خمسمائة سنة، أو عظم شجاعته و قهره الملوك انتهى.

و فيه أن التاريخ لا يعترف بذلك.

د - و قيل: إن ذا القرنين هو الإسكندر المقدوني و هو المشهور في الألسن و سد الإسكندر كالمثل السائر بينهم و قد ورد ذلك في بعض الروايات كما في رواية قرب الإسناد، عن موسى بن جعفر (عليه السلام) و رواية عقبة بن عامر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و رواية وهب بن منبه المرويتين في الدر المنثور،.

و به قال بعض قدماء المفسرين من الصحابة و التابعين كمعاذ بن جبل على ما في مجمع البيان، و قتادة على ما رواه في الدر المنثور، و وصفه الشيخ أبو علي بن سينا عند ما ذكره في كتاب الشفاء، بذي القرنين، و أصر على ذلك الإمام الرازي في تفسيره الكبير،.

قال فيه ما ملخصه: إن القرآن دل على أن ملك الرجل بلغ إلى أقصى المغرب و أقصى المشرق و جهة الشمال، و ذلك تمام المعمورة من الأرض و مثل هذا الملك يجب أن يبقى اسمه مخلدا، و الملك الذي اشتهر في كتب التواريخ أن ملكه بلغ هذا المبلغ ليس إلا الإسكندر.

و ذلك أنه بعد موت أبيه جمع ملوك الروم و المغرب و قهرهم و انتهى إلى البحر الأخضر ثم إلى مصر، و بنى الإسكندرية ثم دخل الشام و قصد بني إسرائيل و ورد بيت المقدس، و ذبح في مذبحه.

ثم انعطف إلى أرمينية و باب الأبواب، و دان له العراقيون و القبط و البربر، و استولى على إيران، و قصد الهند و الصين و غزا الأمم البعيدة و رجع إلى خراسان و بنى المدن الكثيرة ثم رجع إلى العراق و مات في شهرزور أو رومية المدائن و حمل إلى إسكندرية و دفن بها، و عاش ثلاثا و ثلاثين سنة، و مدة ملكه اثنتا عشرة سنة.

فلما ثبت بالقرآن أن ذا القرنين ملك أكثر المعمورة، و ثبت بالتواريخ أن الذي هذا شأنه هو الإسكندر وجب القطع بأن المراد بذي القرنين هو الإسكندر.

انتهى.

و فيه أولا: أن الذي ذكره من انحصار ملك معظم المعمورة في الإسكندر المقدوني غير مسلم في التاريخ ففي الملوك من يماثله أو يزيد عليه ملكا.

و ثانيا: أن الذي يذكره القرآن من أوصاف ذي القرنين لا يتسلمه التاريخ للإسكندر أو ينفيه عنه فقد ذكر القرآن أن ذا القرنين كان مؤمنا بالله و اليوم الآخر و هو دين التوحيد و كان الإسكندر وثنيا من الصابئين كما يحكى أنه ذبح ذبيحته للمشتري، و ذكر القرآن أن ذا القرنين كان من صالحي عباد الله ذا عدل و رفق و التاريخ يقص للإسكندر خلاف ذلك.

و ثالثا: أنه لم يرد في شيء من تواريخهم أن الإسكندر المقدوني بنى سد يأجوج و مأجوج على ما يذكره القرآن.

و قال في البداية، و النهاية، في خبر ذي القرنين: و قال إسحاق بن بشر عن سعيد بن بشير عن قتادة قال: إسكندر هو ذو القرنين و أبوه أول القياصرة، و كان من ولد سام بن نوح.

فأما ذو القرنين الثاني فهو إسكندر بن فيلبس و ساق نسبه إلى عيص بن إسحاق بن إبراهيم المقدوني اليوناني المصري باني إسكندرية الذي يؤرخ بأيامه الروم، و كان متأخرا عن الأول بدهر طويل.

و كان هذا قبل المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة، و كان أرسطاطاليس الفيلسوف وزيره، و هو الذي قتل دارا بن دارا، و أذل ملوك الفرس و أوطأ أرضهم.

قال: و إنما نبهنا عليه لأن كثيرا من الناس يعتقد أنهما واحد و أن المذكور في القرآن هو الذي كان أرسطاطاليس وزيره فيقع بسبب ذلك خطأ كبير، و فساد عريض طويل كثير فإن الأول كان عبدا مؤمنا صالحا، و ملكا عادلا، و كان وزيره الخضر و قد كان نبيا على ما قررناه قبل هذا، و أما الثاني فكان مشركا، و قد كان وزيره فيلسوفا، و قد كان بين زمانيهما، أزيد من ألفي سنة فأين هذا من هذا لا يستويان و لا يشتبهان إلا على غبي لا يعرف حقائق الأمور انتهى.

و فيه تعريض بالإمام الرازي في مقاله السابق لكنك لو أمعنت فيما نقلنا من كلامه ثم راجعت كتابه فيما ذكره من قصة ذي القرنين وجدته لا يرتكب من الخطإ أقل مما ارتكبه الإمام الرازي فلا أثر في التاريخ عن ملك كان قبل المسيح بأكثر من ألفين و ثلاثمائة سنة ملك الأرض من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق و جهة الشمال و بنى السد و كان مؤمنا صالحا بل نبيا و وزيره الخضر و دخل الظلمات في طلب ماء الحياة سواء كان اسمه الإسكندر أو غير ذلك.

ه - ذكر جمع من المؤرخين أن ذا القرنين أحد التبابعة 1 الأذواء اليمنيين من ملوك حمير باليمن كالأصمعي في تاريخ العرب قبل الإسلام، و ابن هشام في السيرة، و التيجان و أبي ريحان البيروني في الآثار الباقية، و نشوان بن سعيد الحميري في شمس العلوم، - على ما نقل عنهم - و غيرهم.

و قد اختلفوا في اسمه فقيل اسمه مصعب بن عبد الله، و قيل: صعب بن ذي المرائد و هو أول التبابعة، و هو الذي حكم لإبراهيم في بئر السبع، و قيل: تبع الأقرن و اسمه حسان، و ذكر الأصمعي أنه أسعد الكامل الرابع من التبابعة بن حسان الأقرن ملكي كرب تبع الثاني ابن الملك تبع الأول، و قيل: اسمه «شمريرعش.

و قد ورد ذكر ذي القرنين و الافتخار به في عدة من أشعار الحميريين و بعض شعراء الجاهلية ففي البداية، و النهاية،: أنشد ابن هشام للأعشى: و الصعب ذو القرنين أصبح ثاويا.

بالجنو في جدث أشم مقيما.

و قد مر في البحث الروائي السابق أن عثمان بن أبي الحاضر أنشد لابن عباس قول بعض الحميريين: قد كان ذو القرنين جدي مسلما.

ملكا تدين له الملوك و تحشد.

بلغ المشارق و المغارب يبتغي.

أسباب أمر من حكيم مرشد.

فرأى مغيب الشمس عند غروبها.

في عين ذي خلب و ثأط حرمد.

قال المقريزي في الخطط،: اعلم أن التحقيق عند علماء الأخبار أن ذا القرنين الذي ذكره الله في كتابه العزيز فقال: «و يسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا إنا مكنا له في الأرض و آتيناه من كل شيء سببا» الآيات عربي قد كثر ذكره في أشعار العرب.

و أن اسمه الصعب بن ذي مرائد بن الحارث الرائش بن الهمال ذي سدد بن عاد ذي منح بن عار الملطاط بن سكسك بن وائل بن حمير بن سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح (عليه السلام).

و أنه ملك من ملوك حمير و هم العرب 1 العاربة، و يقال لهم أيضا العرب العرباء، و كان ذو القرنين تبعا متوجا، و لما ولي الملك تجبر ثم تواضع لله، و اجتمع بالخضر، و قد غلط من ظن أن الإسكندر بن فيلبس هو ذو القرنين الذي بنى السد فإن لفظة ذو عربية، و ذو القرنين من ألقاب العرب ملوك اليمن، و ذاك رومي يوناني.

قال أبو جعفر الطبري: و كان الخضر في أيام أفريدون الملك بن الضحاك في قول عامة علماء أهل الكتاب الأول، و قيل: موسى بن عمران (عليهما السلام)، و قيل: إنه كان على مقدمة ذي القرنين الأكبر الذي كان على أيام إبراهيم الخليل (عليه السلام) و إن الخضر بلغ مع ذي القرنين أيام مسيره في البلاد نهر الحياة فشرب من مائه و هو لا يعلم به ذو القرنين و لا من معه فخلد و هو حي عندهم إلى الآن، و قال آخرون إن ذا القرنين الذي كان على عهد إبراهيم الخليل (عليه السلام) هو أفريدون بن الضحاك و على مقدمته كان الخضر.

و قال أبو محمد عبد الملك بن هشام في كتاب التيجان، في معرفة ملوك الزمان بعد ما ذكر نسب ذي القرنين الذي ذكرناه: و كان تبعا متوجا لما ولي الملك تجبر ثم تواضع و اجتمع بالخضر ببيت المقدس، و سار معه مشارق الأرض و مغاربها و أوتي من كل شيء سببا كما أخبر الله تعالى، و بنى السد على يأجوج و مأجوج و مات بالعراق.

و أما الإسكندر فإنه يوناني، و يعرف بالإسكندر المجدوني و يقال المقدوني : سئل ابن عباس عن ذي القرنين: ممن كان؟ فقال: من حمير و هو الصعب بن ذي مرائد الذي مكنه الله في الأرض و آتاه من كل شيء سببا فبلغ قرني الشمس و رأس الأرض و بنى السد على يأجوج و مأجوج. قيل له: فالإسكندر؟ قال: كان رجلا صالحا روميا حكيما بنى على البحر في إفريقية منارا، و أخذ أرض رومة، و أتى بحر العرب، و أكثر عمل الآثار في العرب من المصانع و المدن.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي