الميزان في تفسير القرآن

سورة الكهف

83 - 102

تابع
وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلا (102)

: و سئل كعب الأحبار عن ذي القرنين فقال: الصحيح عندنا من أحبارنا و أسلافنا أنه من حمير و أنه الصعب بن ذي مرائد، و الإسكندر كان رجلا من يونان من ولد عيصو بن إسحاق بن إبراهيم الخليل (عليه السلام)، و رجال الإسكندر 1 أدركوا المسيح بن مريم منهم جالينوس و أرسطاطاليس.

و قال الهمداني في كتاب الأنساب،: و ولد كهلان بن سبإ زيدا، فولد زيد عريبا و مالكا و غالبا و عميكرب، و قال الهيثم: عميكرب بن سبإ أخو حمير و كهلان فولد عميكرب أبا مالك فدرحا و مهيليل ابني عميكرب، و ولد غالب جنادة بن غالب و قد ملك بعد مهيليل بن عميكرب بن سبإ، و ولد عريب عمرا، فولد عمرو زيدا و الهميسع و يكنى أبا الصعب و هو ذو القرنين الأول، و هو المساح و البناء، و فيه يقول النعمان بن بشير.

فمن ذا يعادونا من الناس معشرا.

كراما فذو القرنين منا و حاتم.

و فيه يقول الحارثي: سموا لنا واحدا منكم فنعرفه.

في الجاهلية لاسم الملك محتملا.

كالتبعين و ذي القرنين يقبله.

أهل الحجى فأحق القول ما قبلا.

و فيه يقول ابن أبي ذئب الخزائي: و منا الذي بالخافقين تغربا.

و أصعد في كل البلاد و صوبا.

فقد نال قرن الشمس شرقا و مغربا.

و في ردم يأجوج بنى ثم نصبا.

و ذلك ذو القرنين تفخر حمير.

بعسكر فيل ليس يحصى فيحسبا.

قال الهمداني: و علماء همدان تقول: ذو القرنين الصعب بن مالك بن الحارث الأعلى بن ربيعة بن الحيار بن مالك، و في ذي القرنين أقاويل كثيرة.

انتهى كلام المقريزي.

و هو كلام جامع، و يستفاد منه أولا أن لقب ذي القرنين تسمى به أكثر من واحد من ملوك حمير و أن هناك ذا القرنين الأول الكبير و غيره.

و ثانيا: أن ذا القرنين الأول و هو الذي بنى سد يأجوج و مأجوج قبل الإسكندر المقدوني بقرون كثيرة سواء كان معاصرا للخليل (عليه السلام) أو بعده كما هو مقتضى ما نقله ابن هشام من ملاقاته الخضر ببيت المقدس المبني بعد إبراهيم بعدة قرون في زمن داود و سليمان (عليهما السلام) فهو على أي حال قبله مع ما في تاريخ ملوك حمير من الإبهام.

و يبقى الكلام على ما ذكره و اختاره من جهتين: أحدهما: أنه أين موضع هذا السد الذي بناه تبع الحميري؟.

و ثانيهما: أنه من هم هذه الأمة المفسدة في الأرض التي بنى السد لصدهم فهل هذا السد أحد الأسداد المبنية في اليمن أو ما والاها كسد مأرب و غيره فهي أسداد مبنية لادخار المياه للشرب و السقي لا للصد على أنها لم يعمل فيها زبر الحديد و القطر كما ذكره الله في كتابه، أو غيره؟ و هل كان هناك أمة مفسدة مهاجمة، و ليس فيما يجاورهم إلا أمثال القبط و الآشور و كلدان و غيرهم و هم أهل حضارة و مدنية؟.

و ذكر بعض أجلة المحققين 1 من معاصرينا في تأييد هذا القول ما محصله: أن ذا القرنين المذكور في القرآن قبل الإسكندر المقدوني بمئات من السنين فليس هو هو بل هو أحد الملوك الصالحين من التبابعة الأذواء من ملوك اليمن، و كان من شيمة طائفة منهم التسمي بذي كذي همدان و ذي غمدان و ذي المنار و ذي الإذعار و ذي يزن و غيرهم.

و كان مسلما موحدا و عادلا حسن السيرة و قويا ذا هيبة و شوكة سار في جيش كثيف نحو المغرب فاستولى على مصر و ما وراءها ثم لم يزل يسير على سواحل البحر الأبيض حتى بلغ ساحل المحيط الغربي فوجد الشمس تغيب في عين حمئة أو حامية.

ثم رجع سائرا نحو المشرق و بنى في مسيره «إفريقية 1» و كان شديد الولع و ذا خبرة في البناء و العمارة، و لم يزل يسير حتى مر بشبه جزيرة و براري آسيا الوسطى و بلغ تركستان و حائط الصين و وجد هناك قوما لم يجعل الله لهم من دون الشمس سترا.

ثم مال إلى الجانب الشمالي حتى بلغ مدار السرطان، و لعله الذي شاع في الألسن أنه دخل الظلمات، فسأله أهل تلك البلاد أن يبني لهم سدا يصد عنهم يأجوج و مأجوج لما أن اليمنيين - و ذو القرنين منهم - كانوا معروفين بعمل السد و الخبرة فيه فبنى لهم السد.

فإن كان هذا السد هو الحائط الكبير الحائل بين الصين و منغوليا فقد كان ذلك ترميما منه لمواضع تهدمت من الحائط بمرور الأيام و إلا فأصل الحائط إنما بناه بعض ملوك الصين قبل ذلك، و إن كان سدا آخر غير الحائط فلا إشكال.

و مما بناه ذو القرنين و اسمه الأصلي «شمريرعش» في تلك النواحي مدينة سمرقند 2 على ما قيل.

و أيد ذلك بأن كون ذي القرنين ملكا عربيا صالحا يسأل عنه الأعراب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و يذكره القرآن الكريم للتذكر و الاعتبار أقرب للقبول من أن يذكر قصة بعض ملوك الروم أو العجم أو الصين، و هم من الأمم البعيدة التي لم يكن للأعراب هوى في أن يسمعوا أخبارهم أو يعتبروا بآثارهم، و لذا لم يتعرض القرآن لشيء من أخبارهم.

انتهى ملخصا.

و الذي يبقى عليه أن كون حائط الصين هو سد ذي القرنين لا سبيل إليه فإن ذا القرنين قبل الإسكندر بعدة قرون على ما ذكره و قد بنى حائط الصين بعد الإسكندر بما يقرب من نصف قرن و أما غير الحائط الكبير ففي ناحية الشمال الغربي من الصين بعض أسداد أخر لكنها مبنية من الحجارة على ما يذكر لا أثر فيها من زبر الحديد و القطر.

و قال في تفسير الجواهر بعد ذكر مقدمة ملخصها أن المعروف من دول اليمن بمعونة من النقوش المكشوفة في خرائب اليمن ثلاث دول:.

دولة معين و عاصمتها قرناء و قد قدر العلماء أن آثار دولة معين تبتدىء من القرن الرابع عشر قبل الميلاد إلى القرن السابع أو الثامن قبله، و قد عثروا على بعض ملوك هذه الدولة و هم ستة و عشرون ملكا مثل «أب يدع» و «أب يدع ينيع» أي المنقد.

و دولة سبإ و هم من القحطانيين كانوا أولا أذواء فأقيالا، و الذي نبغ منهم «سبأ» صاحب قصر صرواح شرقي صنعاء فاستولى على الجميع، و يبتدىء ملكهم من 850 ق م إلى 115 ق م و المعروف من ملوكهم سبعة و عشرون ملكا خمسة عشر منهم يسمى مكربا كالمكرب «يثعمر» و المكرب «ذمر على»، و اثنا عشرة منهم يسمى ملكا فقط كالملك «ذرح» و الملك «يريم أيمن».

و دولة الحميريين و هم طبقتان الأولى ملوك سبإ و ريدان من سنة 115 ق م إلى سنة 275 ق م و هؤلاء ملوك فقط، و الطبقة الثانية ملوك سبإ و ريدان و حضرموت و غيرها، و هؤلاء أربعة عشر ملكا أكثرهم تبابعة أولهم «شمريرعش» و ثانيهم «ذو القرنين» و ثالثهم «عمرو» زوج بلقيس 1 و ينتهي إلى ذي جدن و يبتدىء ملكهم من سنة 275 م إلى سنة 525.

ثم قال: فقد ظهرت صلة الاتصاف بلقب «ذي» بملوك اليمن و لا نجد في غيرهم كملوك الروم مثلا من يلقب بذي، فذو القرنين من ملوك اليمن، و قد تقدم من ملوكهم من يسمى بذي القرنين، و لكن هل هذا هو ذو القرنين المذكور في القرآن؟.

نحن نقول: كلا لأن هذا مذكور في ملوك قريبي العهد منا جدا، و لم ينقل ذلك عنهم اللهم إلا في روايات ذكرها القصاصون في التاريخ مثل أن «شمريرعش» وصل إلى بلاد العراق و فارس و خراسان و الصغد، و بنى مدينة سمرقند و أصله شمركند، و أن أسعد أبو كرب غزا أذربيجان، و بعث حسانا ابنه إلى الصغد، و ابنه يعفر إلى الروم، و ابن أخيه إلى الفرس، و أن من الحميريين من بقوا في الصين لهذا العهد بعد غزو ذلك الملك لها.

و كذب ابن خلدون و غيره هذه الأخبار، و وسموها بأنها مبالغ فيها، و نقضوها بأدلة جغرافية و أخرى تاريخية.

إذن يكون ذو القرنين من أمة العرب و لكنه في تاريخ قديم قبل التاريخ المعروف.

انتهى ملخصا.

و - و قيل: إن ذا القرنين هو كورش أحد ملوك الفرس الهخامنشيين 539 - 560 ق م و هو الذي أسس الإمبراطورية الإيرانية، و جمع بين مملكتي الفارس و ماد، و سخر بابل و أذن في رجوع اليهود من بابل إلى أورشليم و ساعد في بناء الهيكل و سخر مصر ثم اجتاز إلى يونان فغلبهم و بلغ المغرب ثم سار إلى أقاصي المعمورة في المشرق.

ذكره بعض من قارب 1 عصرنا ثم بذل الجهد في إيضاحه و تقريبه بعض محققي 2 الهند في هذه الأواخر بيان ذلك إجمالا أن الذي ذكره القرآن من وصف ذي القرنين منطبق على هذا الملك العظيم فقد كان مؤمنا بالله بدين التوحيد عادلا في رعيته سائرا بالرأفة و الرفق و الإحسان سائسا لأهل الظلم و العدوان، و قد آتاه الله من كل شيء سببا فجمع بين الدين و العقل و فضائل الأخلاق و العدة و القوة و الثروة و الشوكة و مطاوعة الأسباب.

و قد سار كما ذكره الله في كتابه مرة نحو المغرب حتى استولى على ليديا و حواليها ثم سار ثانيا نحو المشرق حتى بلغ مطلع الشمس و وجد عنده قوما بدويين همجيين يسكنون في البراري ثم بنى السد و هو على ما يدل عليه الشواهد السد المعمول في مضيق داريال بين جبال قفقاز بقرب «مدينة تفليس» هذا إجمال الكلام و دونك التفصيل.

إيمانه بالله و اليوم الآخر: يدل على ذلك ما في كتب العهد العتيق ككتاب عزرا، الإصحاح 1 و كتاب دانيال، الإصحاح 6 و كتاب أشعيا، الإصحاح 44 و 45 من تجليله و تقديسه حتى سماه في كتاب الأشعياء «راعي الرب» و قال في الإصحاح الخامس و الأربعين: «هكذا يقول الرب لمسيحه لكورش الذي أمسكت بيمينه لأدوس أمامه أمما و أحقاء ملوك أحل لأفتح أمامه المصراعين و الأبواب لا تغلق.

أنا أسير قدامك و الهضاب أمهد أكسر مصراعي النحاس و مغاليق الحديد أقصف.

و أعطيك ذخائر الظلمة و كنوز المخابي.

لكي تعرف أني أنا الرب الذي يدعوك باسمك.

لقبتك و أنت لست تعرفني».

و لو قطع النظر عن كونه وحيا فاليهود على ما بهم من العصبية المذهبية لا يعدون رجلا مشركا مجوسيا أو وثنيا - لو كان كورش كذلك - مسيحا إلهيا مهديا مؤيدا و راعيا للرب.

على أن النقوش و الكتابات المخطوطة بالخط المسماري المأثور عن داريوش الكبير و بينهما من الفصل الزماني ثماني سنين ناطقة بكونه موحدا غير مشرك، و ليس من المعقول أن يتغير ما كان عليه كورش في هذا الزمن القصير.

و أما فضائله النفسانية فيكفي في ذلك الرجوع إلى المحفوظ من أخباره و سيرته و ما قابل به الطغاة و الجبابرة الذين خرجوا عليه أو حاربهم كملوك «ماد» و «ليديا» و «بابل» و «مصر» و طغاة البدو في أطراف «بكتريا» و هو البلخ و غيرهم، و كان كلما ظهر على قوم عفا عن مجرميهم، و أكرم كريمهم و رحم ضعيفهم و ساس مفسدهم و خائنهم.

و قد أثنى عليه كتب العهد القديم، و اليهود يحترمه أعظم الاحترام لما نجاهم من إسارة بابل و أرجعهم إلى بلادهم و بذل لهم الأموال لتجديد بناء الهيكل و رد إليهم نفائس الهيكل المنهوبة المخزونة في خزائن ملوك بابل، و هذا في نفسه مؤيد آخر لكون ذي القرنين هو كورش فإن السؤال عن ذي القرنين إنما كان بتلقين من اليهود على ما في الروايات.

و قد ذكره مؤرخو يونان القدماء كهرودت و غيره فلم يسعهم إلا أن يصفوه بالمروة و الفتوة و السماحة و الكرم و الصفح و قلة الحرص و الرحمة و الرأفة و يثنوا عليه بأحسن الثناء.

و أما تسميته بذي القرنين

فالتواريخ و إن كانت خالية عما يدل على شيء في ذلك لكن اكتشاف تمثاله الحجري أخيرا في مشهد مرغاب في جنوب إيران يزيل الريب في اتصافه بذي القرنين فإنه مثل فيه ذا قرنين نابتين من أم رأسه من منبت واحد أحد القرنين مائل إلى قدام و الآخر آخذ جهة الخلف.

و هذا قريب من قول من قال من القدماء في وجه تسمية ذي القرنين أنه كان له تاج أو خوذة فيه قرنان.

و قد ورد في كتاب دانيال، ذكر رؤيا رأى كورش فيه في صورة كبش ذي قرنين قال فيه: «في السنة الثالثة من ملك «بيلشاصر» الملك ظهرت لي أنا دانيال رؤيا بعد التي ظهرت لي في الابتداء.

فرأيت في الرؤيا و كأن في رؤياي و أنا في «شوشن» القصر الذي في ولاية عيلام.

و رأيت في الرؤيا و أنا عند نهر «أولاي» فرفعت عيني و إذا بكبش واقف عند النهر و له قرنان و القرنان عاليان و الواحد أعلى من الآخر و الأعلى طالع أخيرا.

رأيت الكبش ينطح غربا و شمالا و جنوبا فلم يقف حيوان قدامه و لا منفذ من يده و فعل كمرضاته و عظم.

و بينما كنت متأملا إذا بتيس من المعز جاء من المغرب على وجه كل الأرض و لم يمس الأرض و للتيس قرن معتبر بين عينيه.

و جاء إلى الكبش صاحب القرنين الذي رأيته واقفا عند النهر و ركض إليه بشدة قوته و رأيته قد وصل جانب الكبش فاستشاط عليه و ضرب الكبش و كسر قرنيه فلم تكن للكبش قوة على الوقوف أمامه و طرحه على الأرض و داسه و لم يكن للكبش منفذ من يده.

فتعظم تيس المعز جدا».

ثم ذكر بعد تمام الرؤيا أن جبرئيل تراءى له و عبر رؤياه بما ينطبق فيه الكبش ذو القرنين على كورش، و قرناه مملكتا الفارس و ماد، و التيس ذو القرن الواحد على الإسكندر المقدوني.

و أما سيره نحو المغرب و المشرق فسيره نحو المغرب كان لدفع طاغية «ليديا» و قد سار بجيوشه نحو كورش ظلما و طغيانا من غير أي عذر يجوز له ذلك فسار إليه و حاربه و هزمه ثم عقبه حتى حاصره في عاصمة ملكه ثم فتحها و أسره ثم عفا عنه و عن سائر أعضاده و أكرمه و إياهم و أحسن إليهم و كان له أن يسوسهم و يبيدهم و انطباق القصة على قوله تعالى: «حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة - و لعلها الساحل الغربي من آسيا الصغرى - و وجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب و إما أن تتخذ فيهم حسنا» و ذلك لاستحقاقهم العذاب بطغيانهم و ظلمهم و فسادهم.

ثم إنه سار نحو الصحراء الكبير بالمشرق حوالي بكتريا لإخماد غائلة قبائل بدوية همجية انتهضوا هناك للمهاجمة و الفساد و انطباق قوله تعالى: «حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا» عليه ظاهر.

و أما بناؤه السد:

فالسد الموجود في مضيق جبال قفقاز الممتدة من بحر الخزر إلى البحر الأسود، و يسمى المضيق «داريال» و هو واقع بلدة «تفليس» و بين «ولادي كيوكز».

و هذا السد واقع في مضيق بين جبلين شاهقين يمتدان من جانبيه و هو وحدة الفتحة الرابطة بين جانبي الجبال الجنوبي و الشمالي و الجبال مع ما ينضم إليها من بحر الخزر و البحر الأسود حاجز طبيعي في طول ألوف من الكيلو مترات يحجز جنوب آسيا من شمالها.

و كان يهجم في تلك الأعصار أقوام شريرة من قاطني الشمال الشرقي من آسيا من مضيق جبال قفقاز إلى ما يواليها من الجنوب فيغيرون على ما دونها من أرمينستان ثم إيران حتى الآشور و كلدة، و هجموا في حوالي المائة السابعة قبل الميلاد فعمموا البلاد قتلا و سبيا و نهبا حتى بلغوا نينوى عاصمة الآشور و كان ذلك في القرن السابق على عهد كورش تقريبا.

و قد ذكر المؤرخون من القدماء كهرودوت اليوناني سير كورش إلى شمال إيران لإخماد نوائر فتن اشتعلت هناك، و الظاهر أنه بنى السد في مضيق داريال في مسيره هذا لاستدعاء من أهل الشمال و تظلم منهم، و قد بناه بالحجارة و الحديد و هو الردم الوحيد الذي استعمل فيه الحديد، و هو بين سدين جبلين، و انطباق قوله تعالى: «فأعينوني بقوة أجعل بينكم و بينهم ردما آتوني زبر الحديد» الآيات عليه ظاهر.

و مما أيد به هذا المدعى وجود نهر بالقرب منه يسمى «سايروس» و هو اسم كورش عند الغربيين، و نهر آخر يمر بتفليس يسمى «كر» و قد ذكر هذا السد «يوسف» اليهودي المؤرخ عند ذكر رحلته إلى شمال قفقاز و ليس هو الحائط الموجود في باب الأبواب على ساحل بحر الخزر فإن التاريخ ينسب بناءه إلى كسرى أنوشيروان و كان يوسف قبله.

على أن سد باب الأبواب غير سد ذي القرنين المذكور في القرآن قطعا إذ لم يستعمل فيه حديد قط.

و أما يأجوج و مأجوج

فالبحث عن التطورات الحاكمة على اللغات يهدينا إلى أنهم المغول فإن الكلمة بالتكلم الصيني «منكوك» أو «منجوك» و لفظتا يأجوج و مأجوج كأنهما نقل عبراني و هما في التراجم اليونانية و غيرها للعهد العتيق «كوك» و «مأكوك» و الشبه الكامل بين «مأكوك» و «منكوك» يقضي بأن الكلمة متطورة من التلفظ الصيني «منكوك» كما اشتق منه «منغول» و «مغول» و لذلك في باب تطورات الألفاظ نظائر لا تحصى.

فيأجوج و مأجوج هما المغول و كانت هذه الأمة القاطنة بالشمال الشرقي من آسيا من أقدم الأعصار أمة كبيرة مهاجمة تهجم برهة إلى الصين و برهة من طريق داريال قفقاز إلى أرمينستان و شمال إيران و غيرها و برهة و هي بعد بناء السد إلى شمال أوربة و تسمى عندهم بسيت و منهم الأمة الهاجمة على الروم و قد سقطت في هذه الكرة دولة رومان، و قد تقدم أيضا أن المستفاد من كتب العهد العتيق أن هذه الأمة المفسدة من سكنة أقاصي الشمال.

هذه جملة ما لخصناه من كلامه، و هو و إن لم يخل عن اعتراض ما في بعض أطرافه لكنه أوضح انطباقا على الآيات و أقرب إلى القبول من غيره.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي