الميزان في تفسير القرآن

سورة الإسراء

23 - 39

وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا (28) وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا (31) وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً (32) وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (36) وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا (39)

بيان

عدة من كليات الدين يذكرها الله سبحانه و هي تتبع قوله قبل آيات «إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم» الآية.

قوله تعالى: «و قضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه» «لا تعبدوا» إلخ، نفي و استثناء و «أن» مصدرية و جوز أن يكون نهيا و استثناء و أن مصدرية أو مفسرة، و على أي حال ينحل مجموع المستثنى و المستثنى منه إلى جملتين كقولنا: تعبدونه و لا تعبدون غيره و ترجع الجملتان بوجه آخر إلى حكم واحد و هو الحكم بعبادته عن إخلاص.

و القول سواء كان منحلا إلى جملتين أو عائدا إلى جملة واحدة متعلق القضاء و هو القضاء التشريعي المتعلق بالأحكام و القضايا التشريعية، و يفيد معنى الفصل و الحكم القاطع المولوي، و هو كما يتعلق بالأمر يتعلق بالنهي و كما يبرم الأحكام المثبتة يبرم الأحكام المنفية، و لو كان بلفظ الأمر فقيل: و أمر ربك أن لا تعبدوا إلا إياه، لم يصح إلا بنوع من التأويل و التجوز.

و الأمر بإخلاص العبادة لله سبحانه أعظم الأوامر الدينية و الإخلاص بالعبادة أوجب الواجبات كما أن معصيته و هو الشرك بالله سبحانه أكبر الكبائر الموبقة، قال تعالى: «إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء»: النساء: 48.

و إليه يعود جميع المعاصي بحسب التحليل إذ لو لا طاعة غير الله من شياطين الجن و الإنس و هوى النفس و الجهل لم يقدم الإنسان على معصية ربه فيما أمره به أو نهاه عنه و الطاعة عبادة قال تعالى: «أ لم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان»: يس: 60، و قال: «أ فرأيت من اتخذ إلهه هواه»: الجاثية: 23، حتى أن الكافر المنكر للصانع مشرك بإلقائه زمام تدبير العالم إلى المادة أو الطبيعة أو الدهر أو غير ذلك و هو مقر بسذاجة فطرته بالصانع تعالى.

و لعظم أمر هذا الحكم قدمه على سائر ما عد من الأحكام الخطيرة شأنا كعقوق الوالدين و منع الحقوق المالية و التبذير و قتل الأولاد و الزنا و قتل النفس المحترمة و أكل مال اليتيم و نقض العهد و التطفيف في الوزن و اتباع غير العلم و الكبير ثم ختمها بالنهي ثانيا عن الشرك.

قوله تعالى: «و بالوالدين إحسانا» عطف على سابقه أي و قضى ربك بأن تحسنوا بالوالدين إحسانا أو أن أحسنوا بالوالدين إحسانا و الإحسان في الفعل يقابل الإساءة.

و هذا بعد التوحيد لله من أوجب الواجبات كما أن عقوقهما أكبر الكبائر بعد الشرك بالله، و لذلك ذكره بعد حكم التوحيد و قدمه على سائر الأحكام المذكورة المعدودة و كذلك فعل في عدة مواضع من كلامه.

و قد تقدم في نظير الآية من سورة الأنعام - الآية 151 من السورة - أن الرابطة العاطفية المتوسطة بين الأب و الأم من جانب و الولد من جانب آخر من أعظم ما يقوم به المجتمع الإنساني على ساقه، و هي الوسيلة الطبيعية التي تمسك الزوجين على حال الاجتماع فمن الواجب بالنظر إلى السنة الاجتماعية الفطرية أن يحترم الإنسان والديه بإكرامهما و الإحسان إليهما، و لو لم يجر هذا الحكم و هجر المجتمع الإنساني بطلت العاطفة و الرابطة للأولاد بالأبوين و انحل به عقد الاجتماع.

قوله تعالى: «إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف و لا تنهرهما و قل لهما قولا كريما» «إما» مركب من «إن» الشرطية و «ما» الزائدة و هي المصححة لدخول نون التأكيد على فعل الشرط، و الكبر هو الكبر في السن و أف كلمة تفيد الضجر و الانزجار، و النهر هو الزجر بالصياح و رفع الصوت و الإغلاظ في القول.

و تخصيص حالة الكبر بالذكر لكونها أشق الحالات التي تمر على الوالدين فيحسان فيها الحاجة إلى إعانة الأولاد لهما و قيامهم بواجبات حياتيهما التي يعجزان عن القيام بها، و ذلك من آمال الوالدين التي يأملانها من الأولاد حين يقومان بحضانتهم و تربيتهم في حال الصغر و في وقت لا قدرة لهم على شيء من لوازم الحياة و واجباتها.

فالآية تدل على وجوب إكرامهما و رعاية الأدب التام في معاشرتهما و محاورتهما في جميع الأوقات و خاصة في وقت يشتد حاجتهما إلى ذلك و هو وقت بلوغ الكبر من أحدهما أو كليهما عند الولد و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: «و اخفض لهما جناح الذل من الرحمة و قل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا» خفض الجناح كناية عن المبالغة في التواضع و الخضوع قولا و فعلا مأخوذ من خفض فرخ الطائر جناحه ليستعطف أمه لتغذيته، و لذا قيده بالذل فهو دأب أفراخ الطيور إذا أرادت الغذاء من أمهاتها، فالمعنى واجههما في معاشرتك و محاورتك مواجهة يلوج منها تواضعك و خضوعك لهما و تذللك قبالهما رحمة بهما.

هذا إن كان الذل بمعنى المسكنة و إن كان بمعنى المطاوعة فهو مأخوذ من خفض الطائر جناحه ليجمع تحته أفراخه رحمة بها و حفظا لها.

و قوله: «و قل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا» أي اذكر تربيتهما لك صغيرا فادع الله سبحانه أن يرحمهما كما رحماك و ربياك صغيرا.

قال في المجمع،: و في هذا دلالة على أن دعاء الولد لوالده الميت مسموع و إلا لم يكن للأمر به معنى.

انتهى.

و الذي يدل عليه كون هذا الدعاء في مظنة الإجابة و هو أدب ديني ينتفع به الولد و إن فرض عدم انتفاع والديه به على أن وجه تخصيص استجابة الدعاء بالوالد الميت غير ظاهر و الآية مطلقة.

قوله تعالى: «ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا» السياق يعطي أن تكون الآية متعلقة بما تقدمها من إيجاب إحسان الوالدين و تحريم عقوقهما، و على هذا فهي متعرضة لما إذا بدرت من الولد بادرة في حق الوالدين من قول أو فعل يتأذيان به، و إنما لم يصرح به للإشارة إلى أن ذلك مما لا ينبغي أن يذكر كما لا ينبغي أن يقع.

فقوله: «ربكم أعلم بما في نفوسكم» أي أعلم منكم به، و هو تمهيد لما يتلوه من قوله: «إن تكونوا صالحين» فيفيد تحقيق معنى الصلاح أي إن تكونوا صالحين و علم الله من نفوسكم ذلك فإنه كان إلخ، و قوله: «فإنه كان للأوابين غفورا» أي للراجعين إليه عند كل معصية و هو من وضع البيان العام موضع الخاص.

و المعنى: إن تكونوا صالحين و علم الله من نفوسكم و رجعتم و تبتم إليه في بادرة ظهرت منكم على والديكم غفر الله لكم ذلك إنه كان للأوابين غفورا.

قوله تعالى: «و آت ذا القربى حقه و المسكين و ابن السبيل» تقدم الكلام فيه في نظائره، و بالآية يظهر أن إيتاء ذي القربى و المسكين و ابن السبيل مما شرع قبل الهجرة لأنها آية مكية من سورة مكية.

قوله تعالى: «و لا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين و كان الشيطان لربه كفورا» قال في المجمع،: التبذير التفريق بالإسراف، و أصله أن يفرق كما يفرق البذر إلا أنه يختص بما يكون على سبيل الإفساد، و ما كان على وجه الإصلاح لا يسمى تبذيرا و إن كثر.

انتهى.

و قوله: «إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين» تعليل للنهي عن التبذير، و المعنى لا تبذر إنك إن تبذر كنت من المبذرين و المبذرون إخوان الشياطين، و كأن وجه المواخاة بينهم أن الواحد منهم يصير ملازما لشيطانه و بالعكس كالأخوين الذين هما شقيقان متلازمان في أصلهما الواحد كما يشير إليه قوله تعالى: «و قيضنا لهم قرناء»: حم السجدة: 25، و قوله: «احشروا الذين ظلموا و أزواجهم»: الصافات: 22 أي قرناءهم: و قوله: «و إخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون»: الأعراف: 202.

و من هنا يظهر أن تفسير من فسر الآية بأنهم قرناء الشياطين أحسن من قول من قال: المعنى أنهم اتباع الشياطين سالكون سبيلهم.

و أما قوله: «و كان الشيطان لربه كفورا» فالمراد بالشيطان فيه هو إبليس الذي هو أبو الشياطين و هم ذريته و قبيله و اللام حينئذ للعهد الذهني و يمكن أن يكون اللام للجنس و المراد به جنس الشيطان و على أي حال كونه كفورا لربه من جهة كفرانه بنعم الله حيث إنه يصرف ما آتاه من قوة و قدرة و استطاعة في سبيل إغواء الناس و حملهم على المعصية و دعوتهم إلى الخطيئة و كفران النعمة.

و قد ظهرت مما تقدم النكتة في جمع الشيطان أولا و إفراده ثانيا فإن الاعتبار أولا بأن كل مبذر أخو شيطانه الخاص فالجميع إخوان للشياطين و الاعتبار ثانيا بإبليس الذي هو أبو الشياطين أو بجنس الشيطان.

قوله تعالى: «و إما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا» أصله إن تعرض عنهم و «ما» زائدة للتأكيد و النون للتأكيد.

و السياق يشهد بأن الكلام في إنفاق الأموال فالمراد بقوله: «و إما تعرضن عنهم» الإعراض عمن سأله شيئا من المال ينفقه له و يسد به خلته و ليس المراد به كل إعراض كيف اتفق بل الإعراض عند ما ليس عنده شيء من المال يبذله له و ليس بآيس من وجدانه بدليل قوله: «ابتغاء رحمة من ربك ترجوها» أي كنت تعرض عنهم لا لكونك مليئا بالمال شحيحا به، و لا لأنك فاقد له آيس من حصوله بل لأنك فاقد له مبتغ و طالب لرحمة من ربك ترجوها يعني الرزق.

و قوله: «فقل لهم قولا ميسورا» أي سهلا لينا أي لا تغلظ في القول و لا تجف في الرد كما قال تعالى: «و أما السائل فلا تنهر»: الضحى: 10 بل رده بقول سهل لين.

قال في الكشاف،: و قوله: «ابتغاء رحمة من ربك» إما أن يتعلق بجواب الشرط مقدما عليه أي فقل لهم قولا سهلا لينا و عدهم وعدا جميلا رحمة لهم و تطييبا لقلوبهم ابتغاء رحمة من ربك أي ابتغ رحمة الله التي ترجوها برحمتك عليهم، و إما أن يتعلق بالشرط أي و إن أعرضت عنهم لفقد رزق من ربك ترجو أن يفتح لك - فسمى الرزق رحمة - فردهم ردا جميلا فوضع الابتغاء موضع الفقد لأن فاقد الرزق مبتغ له فكان الفقد سبب الابتغاء و الابتغاء مسببا عنه فوضع المسبب موضع السبب.

انتهى.

قوله تعالى: «و لا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك و لا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا» جعل اليد مغلولة إلى العنق كناية عن الإمساك كمن لا يعطي و لا يهب شيئا لبخله و شح نفسه، و بسط اليد كل البسط كناية عن إنفاق الإنسان كل ما في وجده بحيث لا يبقى شيئا كمن يبسط يده كل البسط بحيث لا يستقر عليها شيء ففي الكلام نهي بالغ عن التفريط و الإفراط في الإنفاق.

و قوله: «فتقعد ملوما محسورا» متفرع على قوله: «و لا تبسطها» إلخ و الحسر هو الانقطاع أو العرى أي و لا تبسط يدك كل البسط حتى يتعقب ذلك أن تقعد ملوما لنفسك و غيرك منقطعا عن واجبات المعاش أو عريانا لا تقدر على أن تظهر للناس و تعاشرهم و تراودهم.

و قيل: إن قوله: «فتقعد ملوما محسورا» متفرع على الجملتين لا على الجملة الأخيرة فحسب و المعنى إن أمسكت قعدت ملوما مذموما و إن أسرفت بقيت متحسرا مغموما.

و فيه أن كون قوله: «و لا تبسطها كل البسط» ظاهرا في النهي عن التبذير و الإسراف غير معلوم و كذا كون إنفاق جميع المال في سبيل الله إسرافا و تبذيرا غير ظاهر و إن كان منهيا عنه بهذه الآية كيف و من المأخوذ في مفهوم التبذير أن يكون على وجه الإفساد، و وضع المال و لو كان كثيرا أو جميعه في سبيل الله و إنفاقه على من يستحقه ليس بإفساد له، و لا وجه للتحسر و الغم على ما لم يفسد و لا أفسد.

قوله تعالى: «إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر أنه كان بعباده خبيرا بصيرا» ظاهر السياق أن الآية في مقام التعليل لما تقدم في الآية السابقة من النهي عن الإفراط و التفريط في إنفاق المال و بذله.

و المعنى: أن هذا دأب ربك و سنته الجارية يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر لمن يشاء فلا يبسطه كل البسط و لا يمسك عنه كل الإمساك رعاية لمصلحة العباد إنه كان بعباده خبيرا بصيرا و ينبغي لك أن تتخلق بخلق الله و تتخذ طريق الاعتدال و تتجنب الإفراط و التفريط.

و قيل: إنها تعليل على معنى أن ربك يبسط و يقبض، و ذلك من الشئون الإلهية المختصة به تعالى، و ليس لك أن تتصف به و الذي عليك أن تقتصد من غير أن تعدل عنه إلى إفراط أو تفريط، و قيل في معنى التعليل غير ذلك، و هي وجوه بعيدة.

قوله تعالى: «و لا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم و إياكم إن قتلهم كان خطأ كبيرا» الإملاق الفاقة و الفقر، و قال في المفردات،: الخطأ العدول عن الجهة و ذلك أضرب: أحدها أن تريد غير ما تحسن إرادته و فعله، و هذا هو الخطأ التام المأخوذ به الإنسان يقال: خطىء يخطأ و خطأة، قال تعالى: «إن قتلهم كان خطأ كبيرا» و قال: «و إن كنا لخاطئين» و الثاني أن يريد ما يحسن فعله و لكن يقع منه خلاف ما يريد فيقال: أخطأ إخطاء فهو مخطىء و هذا قد أصاب في الإرادة و أخطأ في الفعل، و هذا المعنى بقوله: «و من قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة»، و الثالث أن يريد ما لا يحسن فعله و يتفق منه خلافه فهذا مخطىء في الإرادة مصيب في الفعل فهو مذموم بقصده غير محمود على فعله.

و جملة الأمر أن من أراد شيئا فاتفق منه غيره يقال: أخطأ، و إن وقع منه كما أراده يقال: أصاب، و قد يقال لمن فعل فعلا لا يحسن أو أراد إرادة لا يجمل: أنه أخطأ، و لذا يقال: أصاب الخطأ و أخطأ الصواب و أصاب الصواب و أخطأ الخطأ و هذه اللفظة مشتركة كما ترى مترددة بين معان يجب لمن يتحرى الحقائق أن يتأملها.

انتهى بتلخيص.

و في الآية نهي شديد عن قتل الأولاد خوفا من الفقر و الحاجة و قوله «نحن نرزقهم و إياكم» تعليل للنهي و تمهيد لقوله بعده: «إن قتلهم كان خطأ كبيرا».

و المعنى و لا تقتلوا أولادكم خوفا من أن تبتلوا بالفقر و الحاجة فيؤديهم ذلك إلى ذل السؤال أو ازدواج بناتكم من غير الأكفاء أو غير ذلك مما يذهب بكرامتكم فإنكم لستم ترزقونهم حتى تفقدوا الرزق عند فقركم و إعساركم بل نحن نرزقهم و إياكم إن قتلهم كان خطأ كبيرا.

و قد تكرر في كلامه تعالى النهي عن قتل الأولاد خوفا من الفقر و خشية من الإملاق، و هو مع كونه من قتل النفس المحترمة التي يبالغ كلامه تعالى في النهي عنه إنما أفرد بالذكر و اختص بنهي خاص لكونه من أقبح الشقوة و أشد القسوة، و لأنهم - كما قيل - كانوا يعيشون في أراضي يكثر فيها السنة و يسرع إليها الجدب فكانوا إذا لاحت لوائح الفاقة و الإعسار بجدب و غيره بادروا إلى قتل الأولاد خوفا من ذهاب الكرامة و العزة.

و في الكشاف،: قتلهم أولادهم هو وأدهم بناتهم كانوا يأدونهن خشية الفاقة و هي الإملاق فنهاهم الله و ضمن لهم أرزاقهم انتهى، و الظاهر خلاف ما ذكره و أن الآيات المتعرضة لوأد البنات آيات خاصة تصرح به و بحرمته كقوله تعالى: «و إذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت»: التكوير: 9، و قوله: «و إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا فهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أ يمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون»: النحل: 59.

و أما الآية التي نحن فيها و أترابها فإنها تنهى عن قتل الأولاد خشية إملاق، و لا موجب لحمل الأولاد على البنات مع كونه أعم، و لا حمل الهون على خوف الفقر مع كونهما متغايرين فالحق أن الآية تكشف عن سنة سيئة أخرى غير وأد البنات دفعا للهون و هي قتل الأولاد من ذكر و أنثى خوفا من الفقر و الفاقة و الآيات تنهى عنه.

قوله تعالى: «و لا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة و ساء سبيلا» نهي عن الزنا و قد بالغ في تحريمه حيث نهاهم عن أن يقربوه، و علله بقوله: «إنه كان فاحشة» فأفاد أن الفحش صفة لازمة له لا يفارقه، و قوله: «و ساء سبيلا» فأفاد أنه سبيل سيء يؤدي إلى فساد المجتمع في جميع شئونه حتى ينحل عقده و يختل نظامه و فيه هلاك الإنسانية و قد بالغ سبحانه في وعيد من أتى به حيث قال في صفات المؤمنين: «و لا يزنون و من يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة و يخلد فيه مهانا إلا من تاب و آمن و عمل عملا صالحا»: الفرقان: 70.

«كلام في حرمة الزنا»

و هو بحث قرآني اجتماعي.

من المشهود أن في كل من الزوجين من الإنسان أعني الذكر و الأنثى إذا أدرك و صحت بنيته ميلا غريزيا إلى الآخر و ليس ذلك مما يختص بالإنسان بل ما نجده من عامة الحيوان أيضا على هذه الغريزة الطبيعية.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي