الميزان في تفسير القرآن

سورة الإسراء

23 - 39

تابع
وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا (28) وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا (31) وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً (32) وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (36) وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا (39)

و قد جهز بحسب الأعضاء و القوى بما يدعوه إلى هذا الاقتراب و التمايل و التأمل في نوع تجهيز الصنفين لا يدع ريبا في أن هذه الشهوة الطبيعية وسيلة تكوينية إلى التوالد و التناسل الذي هو ذريعة إلى بقاء النوع، و قد جهز بأمور أخرى متممة لهذه البغية الطبيعية كحب الولد و تجهيز الأنثى من الحيوان ذي الثدي باللبن لتغذي طفلها حتى يستطيع التقام الغذاء الخشن و مضغه و هضمه فكل ذلك تسخير إلهي يتوسل به إلى بقاء النوع.

و لذلك نرى أن الحيوان مع عدم افتقاره إلى الاجتماع و المدنية لسذاجة حياته و قلة حاجته يهتدي حينا بعد حين بحسب غريزته إلى الاجتماع الزوجي - السفاد - ثم يلتزم الزوجان أو الأنثى منهما الطفل أو الفرخ و يتكفلان أو تتكفل الأنثى تغذيته و تربيته حتى يدرك و يستقل بإدارة رحى حياته.

و لذلك أيضا لم يزل الناس منذ ضبط التاريخ سيرهم و سننهم تجري فيهم سنة الازدواج التي فيها نوع من الاختصاص و الملازمة بين الرجل و المرأة لتجاب به داعية الغريزة و يتوسل به إلى إنسال الذرية، و هو أصل طبيعي لانعقاد المجتمع الإنساني فإن من الضروري أن الشعوب المختلفة البشرية على ما لها من السعة و الكثرة تنتهي إلى مجتمعات صغيرة منزلية انعقدت في سالف الدهور.

و ما مر من أن في سنة الازدواج شيء من معنى الاختصاص هو المنشأ لما كان الرجال يعدون أهلهم إعراضا لأنفسهم و يرون الذب عن الأهل و صونها من تعرض غيرهم فريضة على أنفسهم كالذب عن أنفسهم أو أشد، و الغريزة الهائجة إذ ذاك هي المسماة بالغيرة و ليست بالحسد و الشح.

و لذلك أيضا لم يزالوا على مر القرون و الأجيال يمدحون النكاح و يعدونه سنة حسنة ممدوحة، و يستقبحون الزنا و هو المواقعة من غير علقة النكاح و يستشنعونه في الجملة و يعدونه إثما اجتماعيا و فاحشة أي فعلا شنيعا لا يجهر به و إن كان ربما وجد بين بعض الأقوام الهمجية في بعض الأحيان و على شرائط خاصة بين الحرائر و الشبان أو بين الفتيات من الجواري على ما ذكر في تواريخ الأمم و الأقوام.

و إنما استفحشوه و أنكروه لما يستتبعه من فساد الأنساب و قطع النسل و ظهور الأمراض التناسلية و دعوته إلى كثير من الجنايات الاجتماعية من قتل و جرح و سرقة و خيانة و غير ذلك و ذهاب العفة و الحياء و الغيرة و المودة و الرحمة.

غير أن المدنية الغربية الحديثة لابتنائها على التمتع التام من مزايا الحياة المادية و حرية الأفراد في غير ما تعتني به القوانين المدنية سواء فيه السنن القومية و الشرائع الدينية و الأخلاق الإنسانية أباحته إذا وقع من غير كره كيفما كان، و ربما أضيف إلى ذلك بعض شرائط جزئية أخرى في موارد خاصة، و لم تبال بما يستتبعه من وجوه الفساد عناية بحرية الأفراد فيما يهوونه و يرتضونه و القوانين الاجتماعية تراعي رأي الأكثرين.

فشاعت الفاحشة بين الرجال و النساء حتى عمت المحصنين و المحصنات و المحارم حتى كاد أن لا يوجد من لم يبتل به و كثر مواليدها كثرة كاد أن تثقل كفة الميزان و أخذت تضعف الأخلاق الكريمة التي كانت تتصف بها الإنسانية الطبيعية و ترتضيها لنفسه بتسنين سنة الازدواج من العفة و الغيرة و الحياء يوما فيوما حتى صار بعض هذه الفضائل أضحوكة و سخرية، و لو لا أن في ذكر الشنائع بعض الشناعة ثم في خلال الأبحاث القرآنية خاصة لأوردنا بعض ما نشرته المنشورات من الإحصاءات في هذا الباب.

و الشرائع السماوية على ما يذكره القرآن الكريم - و قد مرت الإشارة إلى ذلك في تفسير الآيات 151 - 153 من سورة الأنعام - تنهى عن الزنا أشد النهي و قد كان محرما في ملة اليهود و يستفاد من الأناجيل حرمته.

و قد نهي عنه في الإسلام و عد من المعاصي الكبيرة و أغلظ في التحريم في المحارم كالأم و البنت و الأخت و العمة و الخالة، و في التحريم في الزنا، مع الإحصان و هو زنا الرجل و له زوجة و المرأة ذات البعل، و قد أغلظ فيما شرع له من الحد و هو الجلد مائة جلدة و القتل في المرة الثالثة أو الرابعة لو أقيم الحد مرتين أو ثلاثا و الرجم في الزنا مع الإحصان.

و قد أشار سبحانه إلى حكمة التحريم فيما نهى عنه بقوله: «و لا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة و ساء سبيلا» حيث عده أولا فاحشة ثم وصفه ثانيا بقوله: «و ساء سبيلا» و المراد - و الله أعلم - سبيل البقاء كما يستفاد من قوله: «ء إنكم لتأتون الرجال و تقطعون السبيل»: العنكبوت: 29، أي و تتركون إتيان النساء الذي هو السبيل فتنقطع بذلك و ليس إلا سبيلا للبقاء من جهة تسببه إلى تولد المواليد و بقاء النسل بذلك، و من جهة أن الازدواج و عقد المجتمع المنزلي هو أقوى وسيلة يضمن بقاء المجتمع المدني بعد انعقاده.

فمع انفتاح باب الزنا لا تزال الرغبات تنقطع عن النكاح و الازدواج إذ لا يبقى له إلا محنة النفقة و مشقة حمل الأولاد و تربيتها و مقاساة الشدائد في حفظها و القيام بواجب حياتها و الغريزة تقنع من سبيل آخر من غير كد و تعب، و هو مشهود من حال الشبان و الفتيات في هذه البلاد، و قد قيل لبعضهم: لم لا تتزوج؟ فقال: و ما أصنع بالازدواج و كل نساء البلد نسائي، و لا يبقى حينئذ للازدواج و النكاح إلا شركة الزوجين في مساعي الحياة الجزئية غير التناسل كالشركة في تجارة أو عمل و يسرع إليهما الافتراق لأدنى عذر، و هذا كله مشهود اليوم في المجتمعات الغربية.

و من هنا أنهم يعدون الازدواج شركة في الحياة منعقدة بين الزوجين الرجل و المرأة و جعلوها هي الغاية المطلوبة بالذات من الازدواج دون الإنسال و تهيئة الأولاد و لا إجابة غريزة الميل الطبيعي بل عدوا ذلك من الآثار المترتبة عليه إن توافقا على ذلك و هذا انحراف عن سبيل الفطرة و التأمل في حال الحيوان على اختلاف أنواعه يهدي إلى أن الغاية المطلوبة منه عندها هو إرضاء الغريزة الهائجة و إنسال الذرية و كذا الإمعان في حال الإنسان أول ما يميل إلى ذلك يعطي أن الغاية القريبة الداعية إليه عنده هو إرضاء الغريزة و يعقبه طلب الولد.

و لو كانت الغريزة الإنسانية التي تدفعه إلى هذه السنة الطبيعية إنما تطلب الشركة في الحياة و التعاون على واجب المأكل و المشرب و الملبس و المسكن و ما هذا شأنه يمكن أن يتحقق بين رجلين أو بين امرأتين لظهر أثره في المجتمع البشري و استن عليه و لا أقل في بعض المجتمعات في طول تاريخ الإنسان و تزوج رجل برجل أحيانا أو امرأة بامرأة و لم تجر سنة الازدواج على وتيرة واحدة دائما و لم تقم هذه الرابطة بين طرفين أحدهما من الرجال و الآخر من النساء أبدا.

و من جهة أخرى أخذ مواليد الزنا في الإزدياد يوما فيوما يقطع منابت المودة و الرحمة و تعلق قلوب الأولاد بالآباء و يستوجب ذلك انقطاع المودة و الرحمة من ناحية الآباء بالنسبة إلى الأولاد و هجر المودة و الرحمة بين الطبقتين الآباء و الأولاد يقضي بهجر سنة الازدواج للمجتمع و فيه انقراضهم و هذا كله أيضا مما يلوح من المجتمعات الغربية.

و من التصور الباطل أن يتصور أن البشر سيوفق يوما أن يدير رحى مجتمعه بأصول فنية و طرق علمية من غير حاجة إلى الاستعانة بالغرائز الطبيعية فيهيأ يومئذ طبقة المواليد مع الاستغناء عن غريزة حب الأولاد بوضع جوائز تسوقهم إلى التوليد و الإنسال أو بغير ذلك كما هو معمول بعض الممالك اليوم فإن السنن القومية و القوانين المدنية تستمد في حياتها بما جهز به الإنسان من القوى و الغرائز الطبيعية فلو بطلت أو أبطلت انفصم بذلك عقد مجتمعه، و هيئة المجتمع قائمة بأفراده و سننه مبنية على إجابتهم لها و رضاهم بها و كيف تجري في مجتمع سنة لا ترتضيها قرائحهم و لا تستجيبها نفوسهم ثم يدوم الأمر عليه.

فهجر الغرائز الطبيعية و ذهول المجتمع البشري عن غاياته الأصلية يهدد الإنسانية بهلاك سيغشاها و يهتف بأن أمامهم يوما سيتسع فيه الخرق على الراقع و إن كان اليوم لا يحس به كل الإحساس لعدم تمام نمائه بعد.

ثم إن لهذه الفاحشة أثرا آخر سيئا في نظر التشريع الإسلامي و هو إفساده للأنساب و قد بني المناكح و المواريث في الإسلام عليها.

قوله تعالى: «و لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق» إلى آخر الآية نهي عن قتل النفس المحترمة إلا بالحق أي إلا أن يكون قتلا بالحق بأن يستحق ذلك لقود أو ردة أو لغير ذلك من الأسباب الشرعية، و لعل في توصيف النفس بقوله: «حرم الله» من غير تقييد إشارة إلى حرمة قتل النفس في جميع الشرائع السماوية فيكون من الشرائع العامة كما تقدمت الإشارة إليه في ذيل الآيات 151 - 153 من سورة الأنعام.

و قوله: «و من قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا» المراد بجعل السلطان لوليه تسليطه شرعا على قتل قاتل وليه قصاصا و الضميران في «فلا يسرف» و «إنه» للولي، و المراد بكونه منصورا هو التسليط الشرعي المذكور.

و المعنى و من قتل مظلوما فقد جعلنا بحسب التشريع لوليه و هو ولي دمه سلطنة على القصاص و أخذ الدية و العفو فلا يسرف الولي في القتل بأن يقتل غير القاتل أو يقتل أكثر من الواحد إنه كان منصورا أي فلا يسرف فيه لأنه كان منصورا فلا يفوته القاتل بسبب أنا نصرناه أو فلا يسرف اعتمادا على أنا نصرناه.

و ربما احتمل بعضهم رجوع الضمير في قوله: «فلا يسرف» إلى القاتل المدلول عليه بالسياق، و في قوله: «إنه» إلى «من» و المعنى قد جعلنا لولي المقتول ظلما سلطنة فلا يسرف القاتل الأول بإقدامه على القتل ظلما فإن المقتول ظلما منصور من ناحيتنا لما جعلنا لوليه من السلطنة، و هو معنى بعيد من السياق و دونه إرجاع ضمير «إنه» فقط إلى المقتول.

و قد تقدم كلام في معنى القصاص في ذيل قوله تعالى: «و لكم في القصاص حياة»: البقرة: 179 في الجزء الأول من الكتاب.

قوله تعالى: «و لا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده» نهي عن أكل مال اليتيم و هو من الكبائر التي أوعد الله عليها النار قال تعالى: «إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا و سيصلون سعيرا»: النساء: 10.

و في النهي عن الاقتراب مبالغة لإفادة اشتداد الحرمة.

و قوله: «إلا بالتي هي أحسن» أي بالطريقة التي هي أحسن و فيه مصلحة إنماء ماله، و قوله: «حتى يبلغ أشده» هو أوان البلوغ و الرشد و عند ذلك يرتفع عنه اليتم فالتحديد بهذه الجملة لكون النهي عن القرب في معنى الأمر بالصيانة و الحفظ كأنه قيل: احتفظوا على ماله حتى يبلغ أشده فتردوه إليه، و بعبارة أخرى الكلام في معنى قولنا: لا تقربوا مال اليتيم ما دام يتيما، و قد تقدم بعض ما يناسب المقام في سورة الأنعام آية 152.

قوله تعالى: «و أوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤلا» أي مسئول عنه و هو من الحذف و الإيصال السائغ في الكلام، و قيل: المراد السؤال عن نفس العهد فإن من الجائز أن تتمثل الأعمال يوم القيامة فتشهد للإنسان أو عليه و تشفع له أو تخاصمه.

قوله تعالى: «و أوفوا الكيل إذا كلتم و زنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير و أحسن تأويلا» القسطاس بكسر القاف و ضمها هو الميزان قيل: رومي معرب و قيل: عربي، و قيل مركب في الأصل من القسط و هو العدل و طاس و هو كفة الميزان و القسطاس المستقيم هو الميزان العادل لا يخسر في وزنه.

و قوله: «ذلك خير و أحسن تأويلا» الخير هو الذي يجب أن يختاره الإنسان إذا تردد الأمر بينه و بين غيره، و التأويل هو الحقيقة التي ينتهي إليها الأمر، و كون إيفاء الكيل و الوزن بالقسطاس المستقيم خيرا لما فيه من الاتقاء من استراق أموال الناس و اختلاسها من حيث لا يشعرون و جلب وثوقهم.

و كونهما أحسن تأويلا لما فيهما من رعاية الرشد و الاستقامة في تقدير الناس معيشتهم فإن معايشهم تقوم في التمتع بأمتعة الحياة على أصلين اكتساب الأمتعة الصالحة للتمتع و المبادلة على الزائد على قدر حاجتهم فهم يقدرون معيشتهم على قدر ما يسعهم أن يبذلوه من المال عينا أو قيمة، و على قدر ما يحتاجون إليه من الأمتعة المشتراة فإذا خسروا بالتطفيف و نقص الكيل و الوزن فقد اختلت عليهم الحياة من الجهتين جميعا، و ارتفع الأمن العام من بينهم.

و أما إذا أقيم الوزن بالقسط فقد أطل عليهم الرشد و استقامت أوضاعهم الاقتصادية بإصابة الصواب فيما قدروا عليه معيشتهم و اجتلب وثوقهم إلى أهل السوق و استقر بينهم الأمن العام.

قوله تعالى: «و لا تقف ما ليس لك به علم إن السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا» القراءة المشهورة «لا تقف» بسكون القاف و ضم الفاء من قفا يقفو قفوا إذا اتبعه و منه قافية الشعر لكونها في آخر المصراع تابعة لما تقدمها، و قرىء «لا تقف» بضم القاف و سكون الفاء من قاف بمعنى قفا، و لذلك نقل عن بعض أهل اللغة أن قاف مقلوب قفا مثل جبذ مقلوب جذب، و منه القيافة بمعنى اتباع أثر الأقدام.

و الآية تنهى عن اتباع ما لا علم به، و هي لإطلاقها تشمل الاتباع اعتقادا و عملا، و تتحصل في مثل قولنا: لا تعتقد ما لا علم لك به و لا تقل ما لا علم لك به و لا تفعل ما لا علم لك به لأن في ذلك كله اتباعا.

و في ذلك إمضاء لما تقضي به الفطرة الإنسانية و هو وجوب اتباع العلم و المنع عن اتباع غيره فإن الإنسان بفطرته الموهوبة لا يريد في مسير حياته باعتقاده أو عمله إلا أصابة الواقع و الحصول على ما في متن الخارج و المعلوم هو الذي يصح له أن يقول: إنه هو، و أما المظنون و المشكوك و الموهوم فلا يصح فيها إطلاق القول بأنه هو فافهم ذلك.

و الإنسان بفطرته السليمة يتبع في اعتقاده ما يراه حقا و يجده واقعا في الخارج، و يتبع في عمله ما يرى نفسه مصيبا في تشخيصه، و ذلك فيما تيسر له أن يحصل العلم به، و أما فيما لا يتيسر له العلم به كالفروع الاعتقادية بالنسبة إلى بعض الناس و غالب الأعمال بالنسبة إلى غالب الناس فإن الفطرة السليمة تدفعه إلى اتباع علم من له علم بذلك و خبرة باعتبار علمه و خبرته علما لنفسه فيئول اتباعه في ذلك بالحقيقة اتباعا لعلمه بأن له علما و خبرة كما يرجع السالك و هو لا يعرف الطريق إلى الدليل لكن مع علمه بخبرته و معرفته، و يرجع المريض إلى الطبيب و مثله أرباب الحوائج إلى مختلف الصناعات المتعلقة بحوائجهم إلى أصحاب تلك الصناعات.

و يتحصل من ذلك أنه لا يتخطى العلم في مسير حياته بحسب ما تهدي إليه فطرته غير أنه يعد ما يثق به نفسه و يطمئن إليه قلبه علما و إن لم يكن ذاك اليقين الذي يسمى علما في صناعة البرهان من المنطق.

فله في كل مسألة ترد عليه إما علم بنفس المسألة و إما دليل علمي بوجوب العمل بما يؤديه و يدل عليه، و على هذا ينبغي أن ينزل قوله سبحانه «و لا تقف ما ليس لك به علم» فاتباع الظن عن دليل علمي بوجوب اتباعه اتباع للعلم كاتباع العلم في مورد العلم.

فيئول المعنى إلى أنه يحرم الاقتحام على اعتقاد أو عمل يمكن تحصيل العلم به إلا بعد تحصيل العلم، و الاقتحام على ما لا يمكن فيه ذلك إلا بعد الاعتماد على دليل علمي يجوز الاقتحام و الورود و ذلك كأخذ الأحكام عن النبي و اتباعه و إطاعته فيما يأمر به و ينهى عنه عن قبل ربه و تناول المريض ما يأمر به الطبيب و الرجوع إلى أصحاب الصنائع فيما يرجع إلى صناعتهم فإن الدليل العلمي على عصمة النبي دليل علمي على مطابقة ما يخبر به أو ما يأمر به و ينهى عنه الواقع و أصابة من اتبعه الصواب، و الحجة العلمية على خبرة الطبيب في طبه و أصحاب الصناعات في صناعاتهم حجة علمية على أصابة من يرجع إليهم فيما يعمل به.

و لو لا كون الاقتحام على العمل عن حجة علمية على وجوب الاقتحام اقتحاما علميا لكانت الآية قاصرة عن الدلالة على مدلولها من رأس فإن الطريق إلى فهم مدلول الآية هو ظهورها اللفظي فيه، و الظهور اللفظي من الأدلة الظنية غير أنه حجة عن دليل علمي و هو بناء العقلاء على حجيته فلو كان غير ما تعلق العلم به بعينه مما لا علم به مطلقا لكان اتباع الظهور و منه ظهور نفس الآية منهيا عنه بالآية و كانت الآية ناهية عن اتباع نفسه فكانت ناقضة لنفسها.

و من هنا يظهر اندفاع ما أورده بعضهم في المقام كما عن الرازي في تفسيره أن العمل بالظن كثير في الفروع فالتمسك بالآية تمسك بعام مخصوص و هو لا يفيد إلا الظن فلو دلت على أن التمسك بالظن غير جائز لدلت على أن التمسك بها غير جائز فالقول بحجيتها يقضي إلى نفيه و هو غير جائز.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي