الميزان في تفسير القرآن

سورة النحل

112 - 128

تابع
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (115) وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ (128)

قوله تعالى: «إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه» إلى آخر الآية، قال في المفردات: أصل السبت القطع و منه سبت السير قطعه و سبت شعره حلقه، و أنفه اصطلمه، و قيل: سمي يوم السبت لأن الله تعالى ابتدأ بخلق السماوات و الأرض يوم الأحد فخلقها في ستة أيام كما ذكره فقطع عمله يوم السبت فسمي بذلك.

و سبت فلان صار في السبت، و قوله: «يوم سبتهم شرعا» قيل: يوم قطعهم للعمل «و يوم لا يسبتون» قيل: معناه لا يقطعون العمل و قيل: يوم لا يكونون في السبت و كلاهما إشارة إلى حالة واحدة، و قوله: «إنما جعل السبت» أي ترك العمل فيه «و جعلنا نومكم سباتا» أي قطعا للعمل و ذلك إشارة إلى ما قال في صفة الليل: «لتسكنوا فيه» انتهى.

فالمراد بالسبت على ما ذكره نفس اليوم لكن معنى جعله جعل ترك العمل فيه و تشريعه، و يمكن أن يكون المراد به المعنى المصدري دون اليوم المجعول فيه ذلك كما هو ظاهر قوله: «تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا و يوم لا يسبتون لا تأتيهم:» الأعراف: 163.

و كيف كان فقد كان من طبع الكلام أن يقال: إنما جعل السبت للذين حتى، يفيد نوعا من الاختصاص و الملك و أن الله شرع لهم في كل أسبوع أن يقطعوا العمل يوما يفرغون فيه لعبادة ربهم و هو يوم السبت كما جعل للمسلمين في كل أسبوع يوما يجتمعون فيه للعبادة و الصلاة و هو يوم الجمعة.

فقوله: «إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه» بتعدية جعل بعلى دون اللام من قبيل قولهم: لي عليك دين و هذا عليك لا لك فتفيد معنى التكليف و التشديد و الابتلاء أي إنما جعل للتشديد عليهم و ابتلائهم و امتحانهم فقد كان هذا الجعل عليهم لا لهم كما انجر أمرهم فيه إلى لعن طائفة منهم و مسخ آخرين و قد أشير إلى ذلك في سورة البقرة الآية 65 و سورة النساء الآية 47.

و الأنسب على هذا أن يكون المراد بقوله: «اختلفوا فيه» أي في السبت اختلافهم فيه بعد التشريع فإنهم تفرقوا فيه فرقا ممن قبله و ممن رده و ممن احتال للعمل فيه على ما أشير إلى قصصهم في سور البقرة و النساء و الأعراف لا اختلافهم فيه قبل التشريع بأن يعرض عليهم أن يسبتوا في كل أسبوع يوما للعبادة ثم يجعل ذلك اليوم هو الجمعة فيختلفوا فيه فيجعل عليهم يوم السبت كما وقع في بعض الروايات.

و المعنى إنما جعل يوم السبت أو قطع العمل للعبادة يوما في كل أسبوع تشديدا و ابتلاء و فتنة و كلفة على اليهود الذين اختلفوا فيه بعد تشريعه بين من قبله و من رده و من احتال فيه للعمل مع التظاهر بقبوله و إن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون.

و بالبناء على هذا يكون وزان الآية وزان قوله السابق: «و على الذين هادوا حرمنا» إلخ، في أنها في معنى الجواب عن سؤال مقدر عطفا على ما مر من حديث النسخ، و التقدير و أما جعل السبت لليهود فإنما جعل لا لهم بل عليهم ليبتليهم الله و يفتنهم به و يشدد عليهم كما قد تكرر نظائره فيهم لكونهم عاتين معتدين مستكبرين و بالجملة الآية ناظرة إلى الاعتراض بتشريع بعض الأحكام غير الفطرية على اليهود و نسخه في هذه الشريعة.

و إنما لم يضم إلى قوله سابقا: «و على الذين هادوا حرمنا» إلخ، لكون مسألة السبت مغايرة لسنخ مسألة تحليل الطيبات و استثناء محرمات الأكل، و قد عرفت أن الكلام على اتصاله من قوله: «و على الذين هادوا» إلى قوله: «و ما كان من المشركين» سبع آيات تامة ثم اتصلت بها هذه الآية و هي ثامنتها الملحقة بها.

و من هنا يظهر الجواب عما اعترض به أن توسيط جعل السبت بين حكاية أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باتباع ملة إبراهيم (عليه السلام) و بين أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بالدعوة إليها و بعبارة أخرى وقوع قوله: «إنما جعل السبت» إلخ، بين قوله: «ثم أوحينا إليك» إلخ، و قوله: «ادع إلى سبيل ربك» إلخ، كالفصل بين الشجر و لحائه.

و محصل الجواب أن قوله: «ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم» الآية من تمام السياق السابق، و قوله: «إنما جعل السبت» الآية، متصل بما تقدمه كما عرفت، و أما قوله: «ادع إلى سبيل ربك» الآية، فهو استئناف و أمر بالدعوة إلى سبيل الله بفنون الخطاب لا إلى ملة إبراهيم حتى يتصل بالآية السابقة نوع اتصال و إن كان سبيل الله هو ملة إبراهيم بعينها لكن للفظ حكم و للمعنى بحسب المآل حكم آخر، فافهم.

و للقوم في تفسير الاختلاف اختلاف عميق فمنهم من قال: إن المراد إنما جعل السبت على الذين اختلفوا على نبيهم فيه حيث أمرهم بتعظيم الجمعة فعدلوا عنه و أخذوا السبت فجعله الله عليهم تشديدا فالاختلاف اختلاف سابق على الجعل لا لاحق به و ربما جعل «في» للتعليل فإن الاختلاف على هذا لم يقع في السبت بل من أجل السبت.

و ربما قيل: الاختلاف بمعنى المخالفة فإنهم خالفوا نبيهم في السبت و لم يختلفوا فيه.

و ربما قيل: إنهم أمروا باتخاذ الجمعة من غير تعيين و وكل ذلك إلى اجتهادهم فاختلفت أحبارهم في تعيينه و لم يهدهم الله إليه و وقعوا في السبت.

و ربما قيل: إن المراد أنهم اختلفوا فيما بينهم في شأن السبت فطائفة منهم فضلته على الجمعة و طائفة منهم عكست الأمر و فضلت الجمعة عليه.

إلى غير ذلك مما قيل، و الأصل في ذلك ما ورد في بعض الروايات من القصة.

و أنت خبير بأن شيئا من الأقوال لا ينطبق على لفظ الآية ذاك الانطباق فالمصير إلى ما قدمناه.

قوله تعالى: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتي هي أحسن» إلى آخر الآية لا شك في أنه يستفاد من الآية أن هذه الثلاثة الحكمة و الموعظة و المجادلة من طرق التكليم و المفاوضة فقد أمر بالدعوة بأحد هذه الأمور فهي من أنحاء الدعوة و طرقها و إن كان الجدال لا يعد دعوة بمعناها الأخص.

و قد فسرت الحكمة - كما في المفردات - بإصابة الحق بالعلم و العقل، و الموعظة كما عن الخليل - بأنه التذكير بالخير فيما يرق له القلب، و الجدال - كما في المفردات - بالمفاوضة على سبيل المنازعة و المغالبة.

و التأمل في هذه المعاني يعطي أن المراد بالحكمة - و الله أعلم - الحجة التي تنتج الحق الذي لا مرية فيه و لا وهن و لا إبهام و الموعظة هو البيان الذي تلين به النفس و يرق له القلب، لما فيه من صلاح حال السامع من الغبر و العبر و جميل الثناء و محمود الأثر و نحو ذلك.

و الجدال هو الحجة التي تستعمل لفتل الخصم عما يصر عليه و ينازع فيه من غير أن يريد به ظهور الحق بالمؤاخذة عليه من طريق ما يتسلمه هو و الناس أو يتسلمه هو وحده في قوله أو حجته.

فينطبق ما ذكره تعالى من الحكمة و الموعظة و الجدال بالترتيب على ما اصطلحوا عليه في فن الميزان بالبرهان و الخطابة و الجدل.

غير أنه سبحانه قيد الموعظة بالحسنة و الجدال بالتي هي أحسن، ففيه دلالة على أن من الموعظة ما ليست بحسنة و من الجدال ما هو أحسن و ما ليس بأحسن و لا حسن و الله تعالى يأمر من الموعظة بالموعظة الحسنة و من الجدال بأحسنه.

و لعل ما في ذيل الآية من التعليل بقوله: «إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله و هو أعلم بالمهتدين» يوضح وجه التقييد، فمعناه أنه سبحانه أعلم بحال أهل الضلال في دينه الحق، و هو أعلم بحال المهتدين فيه فهو يعلم أن الذي ينفع في هذا السبيل هو الحكمة و الموعظة الحسنة و الجدال الأحسن لا غير.

و الاعتبار الصحيح يؤيد ذلك فإن سبيله تعالى هو الاعتقاد الحق و العمل الحق و من المعلوم أن الدعوة إليه بالموعظة مثلا ممن لا يتعظ بما يعظ به دعوة عملا إلى خلاف ما يدعو إليه القول، و الدعوة إليه بالمجادلة مثلا بالمسلمات الكاذبة التي يتسلمها الخصم لإظهار الحق إحياء لحق بإحياء باطل و إن شئت فقل إحياء حق بإماتة حق إلا أن يكون الجدال على سبيل المناقضة.

و من هنا يظهر أن حسن الموعظة إنما هو من حيث حسن أثره في الحق الذي يراد به بأن يكون الواعظ نفسه متعظا بما يعظ و يستعمل فيها من الخلق الحسن ما يزيد في وقوعها من قلب السامع موقع القبول فيرق له القلب و يقشعر به الجلد و يعيه السمع و يخشع له البصر.

و يتحرز المجادل مما يزيد في تهييج الخصم على الرد و العناد و سوقه إلى المكابرة و اللجاج، و استعمال المقدمات الكاذبة و إن تسلمها الخصم إلا في المناقضة و يحترز سوء التعبير و الإزراء بالخصم و بما يقدسه من الاعتقاد و السب و الشتم و أي جهالة أخرى فإن في ذلك إحياء للحق بإحياء الباطل أي إماتة الحق كما عرفت.

و الجدال أحوج إلى كمال الحسن من الموعظة و لذلك أجاز سبحانه من الموعظة حسنتها و لم يجز من المجادلة إلا التي هي أحسن.

ثم إن في قوله: «بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتي هي أحسن» أخذا بالترتيب من حيث الأفراد فالحكمة مأذون فيها بجميع أفرادها، و الموعظة منقسمة إلى حسنة و غير حسنة و المأذون فيها منهما هي الموعظة الحسنة، و المجادلة منقسمة إلى حسنة و غير حسنة ثم الحسنة إلى التي هي أحسن و غيرها و المأذون فيها منها التي هي أحسن، و الآية ساكتة عن توزيع هذه الطرق بحسب المدعوين بالدعوة فالملاك في استعمالها من حيث المورد حسن الأثر و حصول المطلوب و هو ظهور الحق.

فمن الجائز أن يستعمل في مورد جميع الطرق الثلاث و في آخر طريقان أو طريق واحد حسب ما تستدعيه الحال و يناسب المقام.

و منه يظهر أن قول بعضهم إن ظاهر الآية أن يجمع (صلى الله عليه وآله وسلم) في دعوته بين الطرق الثلاث ليس في محله إذ لا دليل على لزوم الجمع بينها بالنسبة إلى كل مدعو و أما بالنسبة إلى جميع المدعوين فهو حاصل.

و كذا ما ذكره بعضهم أن الطرق الثلاث المذكورة في الآية مترتبة حسب ترتب أفهام الناس في استعدادها لقبول الحق فمن الناس الخواص و هم أصحاب النفوس المشرقة القوية الاستعداد لإدراك الحقائق العقلية و شديدة الانجذاب إلى المبادىء العالية و كثيرة الألفة بالعلم و اليقين فهؤلاء يدعون بالحكمة و هي البرهان.

و منهم عوام و هم أصحاب نفوس كدرة و استعداد ضعيف مع شدة ألفتهم بالمحسوسات و قوة تعلقهم بالرسوم و العادات قاصرة عن تلقي البراهين من غير أن يكونوا معاندين للحق و هؤلاء يدعون بالموعظة الحسنة.

و منهم أصحاب العناد و اللجاج الذين يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق و يكابرون ليطفئوا نور الله بأفواههم رسخت في نفوسهم الآراء الباطلة، و غلب عليهم تقليد أسلافهم في مذاهبهم الخرافية لا ينفعهم المواعظ و العبر، و لا يهديهم سائق البراهين و هؤلاء هم الذين أمر بمجادلتهم بالتي هي أحسن.

و فيه أنه لا يخلو من دقة لكن لا ينتج اختصاص كل طريق بما يناسبه من مرتبة الفهم فربما انتفع الخواص بالموعظة و المجادلة و ربما انتفعت العوام و هم ألفاء العادات و الرسوم بالمجادلة بالتي هي أحسن، و لا دلالة في لفظ الآية على ما ذكر من التخصيص.

و كذا ما ذكره بعضهم أن المجادلة بالتي هي أحسن ليست من الدعوة في شيء بل الغرض منها شيء آخر مغاير لها و هو الإلزام و الإفحام.

قال: و لذلك لم يعطف الجدال في الآية على ما تقدمه بل غير السياق و قيل: «و جادلهم بالتي هي أحسن». و فيه غفلة عن حقيقة القياس الجدلي فالإفحام و إن كان غاية للقياس الجدلي لكنه ليس غاية دائمية فكثيرا ما يتألف قياس من مقدمات مقبولة أو مسلمة و خاصة في الأمور العملية و العلوم غير اليقينية كالفقه و الأصول و الأخلاق و الفنون الأدبية و لا يراد به الإلزام و الإفحام.

على أن في الإلزام و الإفحام دعوة كما أن في الموعظة دعوة و إن اختلفت صورتها باختلاف الطرق نعم تغيير السياق لما في الجدال من معنى المنازعة و المغالبة.

قوله تعالى: «و إن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به و لئن صبرتم لهو خير للصابرين» قال في المفردات، العقوبة و العقاب و المعاقبة تختص بالعذاب، انتهى.

و الأصل في معناه العقب و هو مؤخر الرجل و عقيب الشيء و عاقبة الأمر ما يليه من ورائه أو آخره، و التعقيب الإتيان بشيء عقيب شيء و معاقبتك غيرك أن تأتي بما يسوءه عقيب إتيانه بما يسوءك فينطبق على المجازاة و المكافأة بالعذاب.

فقوله: «و إن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به» الخطاب فيه للمسلمين - على ما يفيده السياق - و لازمه أن يكون المراد بالمعاقبة مجازاة المشركين و الكفار، و بقوله: «عوقبتم به» عقاب الكفار إياهم و مجازاتهم لهم بما آمنوا بالله و رفضوا آلهتهم.

و المعنى: و إن أردتم مجازاة الكفار و عذابهم فجازوهم على ما فعلوا بكم بمثل ما عذبوكم به مجازاة لكم على إيمانكم و جهادكم في الله.

و قوله: «و لئن صبرتم لهو خير للصابرين» أي صبرتم على مر ما عوقبتم به و لم تعاقبوا و لم تكافئوا لهو خير لكم بما أنكم صابرون لما فيه من إيثار رضا الله و ثوابه فيما أصابكم من المحنة و المصيبة على رضا أنفسكم بالتشفي بالانتقام فيكون العمل خالصا لوجهه الكريم، و لما في الصفح و العفو من إعمال الفتوة و لها آثارها الجميلة.

قوله تعالى: «و اصبر و ما صبرك إلا بالله» إلى آخر الآية أمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر و بشرى له أن الله قواه على الصبر على مر ما يلقاه في سبيله فإنه تعالى يذكر أن صبره إنما هو بحول و قوة من ربه ثم يأمره بالصبر و لازم الأمر قدرة المأمور على المأمور به ففي قوله: «و ما صبرك إلا بالله» إشارة إلى أن الله قواك على ما أمرك به.

و قوله: «و لا تحزن عليهم» أي على الكافرين، لكفرهم و قد تقدم تفسير هذا المعنى سابقا في السورة و غيرها.

و قوله: «و لا تك في ضيق مما يمكرون» الظاهر أن المراد النهي عن التحرج من مكرهم في الحال أو على سبيل الاستمرار دون مجرد الاستقبال.

قوله تعالى: «إن الله مع الذين اتقوا و الذين هم محسنون» أي إن التقوى و الإحسان كل منهما سبب مستقل في موهبة النصرة الإلهية و إبطال مكر أعداء الدين و دفع كيدهم فالآية تعليل لقوله: «و لا تك في ضيق مما يمكرون» و وعد بالنصر.

و هذه الآيات الثلاث أشبه مضمونا بالآيات المدنية منها بالمكية و قد وردت روايات من طرق الفريقين أنها نزلت في منصرف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أحد و سيأتي في البحث الروائي و إن كان من الممكن توجيه اتصالها بما قبلها بوجه كما تصدى له بعضهم.

و مما يجب أن يتنبه له أن الآية التي قبل الثلاثة أجمع لغرض السورة من هذه الثلاث، و أن لآيات السورة مع الإغماض عن قوله: «و الذين هاجروا» الآية، و قوله: «من كفر بالله من بعد إيمانه» إلى تمام بضع آيات، و قوله: «و إن عاقبتم» إلى آخر السورة، سياقا واحدا متصلا.

بحث روائي

في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و ضرب الله مثلا» الآية، قال: قال (عليه السلام) نزلت في قوم كان لهم نهر يقال له الثرثار و كانت بلادهم خصبة كثيرة الخير، و كانوا يستنجون بالعجين و يقولون: هو ألين لنا، فكفروا بأنعم الله و استخفوا فحبس الله عنهم الثرثار فجدبوا حتى أحوجهم الله إلى أكل ما يستنجون به حتى كانوا يتقاسمون عليه: أقول و رواه في الكافي، عنه بإسناده عن عمرو بن شمر عن أبي عبد الله (عليه السلام) مفصلا، و العياشي عن حفص و زيد الشحام عنه و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما من عبد يشهد له أمة إلا قبل الله شهادتهم، و الأمة الرجل فما فوقه إن الله يقول: «إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا و لم يك من المشركين».

أقول: و قد تقدم في تفسير آيات الشهادة ما له تعلق بالحديث.

و في تفسير العياشي، عن سماعة بن مهران قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لقد كانت الدنيا و ما كان فيها إلا واحد يعبد الله و لو كان معه غيره لأضافه إليه حيث يقول: «إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا - و لم يك من المشركين» فصبر بذلك ما شاء الله ثم إن الله تبارك و تعالى آنسه بإسماعيل و إسحاق فصاروا ثلاثة: أقول: و رواه في الكافي بإسناده عن سماعة عن عبد صالح. و في الدر المنثور، أخرج الشافعي في الأم و البخاري و مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا و أوتيناه من بعدهم ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم يوم الجمعة فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا و النصارى بعد غد: أقول: و روي مثله عن أحمد و مسلم عن أبي هريرة و حذيفة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): و لم ترد الرواية في تفسير الآية.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي