التالي

وماذا نصنع بهذه الشبهات (2)

السابق

الشبهة الثانية: كيف نعرف العام والخاص

والمطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ؟

إن في القرآن عاما وخاصا ومطلقا ومقيدا وناسخا ومنسوخا، وهل يعرف ذلك إلا الراسخون في العلم؟ والجواب: إن العلم الإجمالي ينحَلُّ بالعثور على القدر المتيقن من موارد النسخ والتقييد والتخصيص، فتُحكّم في سائر الآيات "أصالة الظهور" التي تقضي بأن ظواهر الكلام حجة إذا لم تقم قرينة على الخلاف، وحيث تنتفي تلك القرينة بالفحص، يكون الظهور حجة بلا إشكال.

وينبغي هنا أن نذكر ملاحظتين:

  1. إن الآيات التي طرأ عليها التخصيص أو التقييد أو النسخ هي آيات محدودة، ولا يمكن أن نسحب الحكم المنطبق على بعض الآيات على القرآن الكريم ككل1.

  2. إن أغلب أو كل الآيات التي طرأ عليها التخصيص أو التقييد أو النسخ هي الآيات التي تتناول "الأحكام الشرعية" - كأحكام القتال والطلاق والزنا والعدة وما أشبه، ومن الطبيعي أن الاستنباط من آيات الأحكام ونحوها يختص بالفقهاء والمجتهدين، ولا يحق للرجل العادي أن يستنبط منها. وحديثنا هنا في التدبر في الآيات الأخرى - تلك الآيات التي تتناول القضايا الخلقية والاجتماعية والثقافية - وما أشبه - مما لا يترتب عليه حكم شرعي وليس في آيات الأحكام، فتأمل.

الشبهة الثالثة: الذين أخطأوا في فهم القرآن

لقد أخطأ الكثيرون في فهم الآيات القرآنية، وانحرفوا بذلك عن سواء السبيل، فمن يضمن لنا: عدم الوقوع في الخطأ كما وقعوا هم؟ أليس من الأفضل أن ندفن رؤوسنا في الرمال، ولا ندور حول مواضع الزلل؟

الجواب: لقد وضحنا - بشكل ضمني - فيما سبق أن خطأ البعض في فهم القرآن يعود إلى أحد عوامله التالية:

  1. تحكيم الأهواء الشخصية في تفسير القرآن.

  2. التعصب للمسبقات الفكرية المغروسة في أعماق الفرد، وبالتالي تطويع القرآن لهذه الآراء، بدلا من تطويع هذه الآراء للقرآن. ومما يدخل ضمن هذا الإطار: التعصب للأفكار المذهبية الخاطئة، ومحاولة تفسير الآيات القرآنية بشكل يؤيد هذه الأفكار.

  3. التسرع في اعتناق الأفكار التي تظهر للإنسان في بادئ الرأي، وهدم التدقيق في صحة هذه الأفكار أو سقمها.

  4. عدم الرجوع إلى روايات أهل البيت (عليهم السلام) في الآيات المجملة أو الآيات المتشابهة - وما شابه، وعدم توفر القاعدة العلمية اللازمة فيما يتوقف على ذلك.

أما عندما يكون الفرد تلميذ القرآن المتواضع، ويكيف أهواءه وأفكاره وفق قيم القرآن ومبادئه وليس العكس، ويتأنى في تقبل ما يخطر على باله من أفكار، ويعود إلى أهل البيت (عليهم السلام) فيما تشابه عليه، ويوفر في ذاته القاعدة العلمية الرصينة فيما يتوقف فهمه على وجود مثل تلك القاعدة، عندئذ تقل نسبة الخطأ في فهم القرآن إلى حدود كبيرة، ويمكن أن تنعدم بالتالي2.

الشبهة الرابعة: القرآن كتاب غامض، فكيف نفهمه؟

يقولون: "القرآن يكتنفه الإبهام والغموض، ففيه غموض في الكلمة، وغموض في المغزى، فكيف نستطيع بعد بذلك أن نفهمه؟ لقد نزل القرآن قبل ألف وأربعمائة عام، وخاطب جيلا قد مات منذ أمد سحيق، فهل تستطيع أجيالنا أن تفهم القرآن الآن؟"

الجواب:

  1. إن أغلب الآيات القرآنية هي آيات واضحة في الكلمات والمعاني والأهداف، كما قال سبحانه: ((وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِر))، وبإمكان أي فرد أن يتصفح القرآن الكريم ليجد هذه الحقيقة ماثلة أمام عينيه.

  2. ولكن تظل هنالك مجموعة من الآيات غامضة ومبهمة، وذلك يعود إلى ابتعاد أمتنا عن اللغة العربية الأصيلة وليس إلى القرآن ذاته3.

والسؤال الآن هو: كيف نفهم هذه الآيات الغامضة؟

والجواب: هنالك ثلاث طرق:

أ - الرجوع إلى معاجم اللغة، واستخراج معاني الألفاظ منها.

ب - التدبر في السياق العام للآية، واستنباط معنى الكلمة أو الآية من خلال ذلك. ورغم أن السياق ليس عاملا نهائيا وحاسما في فهم الآيات القرآنية، إلا أنه يعيننا كثيرا في هذا المجال (إذا كان بحيث يشكّل ظهورا عرفيا للكلمة أو الجملة)، مثلا: إذا أردنا اكتشاف معنى "حول" في قوله تعالى ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا خَالِدِين فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا))4 فما علينا إلا أن ننظر إلى سياق الآية الكريمة لكي نكشف أن معنى "حول" هو "التحول" و "الانتقال". أو إذا أردنا فهم "الإملاق" في قوله تعالى: ((وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّن إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُم))5 فما علينا إلا أن ننظر إلى الجو العام المحيط بالآية لنعرف أن معناه هو "الفقر" و "الحاجة"، وهكذا.

ج - التفسير: إن لمعرفة الإطار التاريخي الذي هبط فيه الوحي، والمورد الذي نزلت فيه الآية الكريمة الأثر الكبير في فهم معاني الآيات القرآنية والأهداف التي نزلت من أجل تكريسها هذه الآيات، وذلك لأن القرآن نزل بشكل تدريجي، وأكب في الأحداث التي واجهها المسلمون في عهد الرسالة، ولم ينزل على الناس مرة واحدة، ولذلك كان من الطبيعي أن تحمل الآيات طابع الظروف التي هبطت فيها.

وكتب التفسير هي التي تسلط الأضواء على هذه الظروف، وتعطي - بالتالي - الأبعاد الحقيقية للآية الكريمة (بالإضافة إلى الفوائد الأخرى الهامة الأخرى التي تمنحنا إياها كتب التفسير).

هذه كانت أهم الشبهات التي يُتمسك بها للتدليل على عدم جواز - وحتى عدم إمكان - التدبر في الآيات القرآنية، ولقد عرفنا من خلال هذا المبحث إمكان و مشروعية التدبر في القرآن الكريم، ويبقى أن نشرح ضرورة التدبر في القرآن، وهذا ما يتكفل به الفصل القادم - بإذن الله.

التالي

الفهرست

السابق

(1) مجموع الآيات التي ادّعوا نسخها هي 228 آية تقريبا، وقد ذكر في "التمهيد" أن 20 آية منها فقط هي المنسوخة، بينما الـ 208 الباقية ليست منسوخة، (راجع "التمهيد في علوم القرآن" - ج 2 - ص 296 - 404) وإذا قارنا هذه الكمية الضئيلة بمجموع آيات القرآن التي تبلغ عددها (6666) آية - على المعروف - لوجدناها أنها لا تشكل سوى قطرة صغيرة في بحر خضم. ويمكن أن نقول مثل ذلك القول - بشكل تقريبي طبعا - في الآيات المخصصة في الآيات المقيدة
(2) هذا مضافا إلى أن الملاك في صحة المؤاخذة قيام الحجة لا إصابة الواقع، فتدبر
(3) هذا بالغض - طبعا - عن الآيات المتشابهة ونحوها التي يفتقر فهمها إلى التفكير المنطقي السليم وإلى مراجعة روايات أهل البيت (عليهم السلام) وإلى توفر القاعدة العلمية الرصينة
(4) سورة الكهف - (107 - 108)
(5) سورة الإسراء - 32