التالي

الذين يفهمون القرآن كتاب موت (1)

السابق

- كيف تفهم أجيالنا المعاصرة القرآن الكريم؟

قبل أن نجيب على هذا السؤال لابد من أن نطرح سؤلاً آخر هو:

- كيف فهم الطلائع المسلمون الذين عاشوا في عصور الرسالة الأولى هذا الكتاب المجيد؟

الجواب: لقد فهموا القرآن "كتابً للحياة" و"برنامجاً للتحرك" و"خريطة للسلوك". كان الواحد منهم يقرأ القرآن وكأنه هو المخاطب بآياته، وكان يستنبط من آيات القرآن بصائر واضحة يستعين بها في مسيرة الحياة الطويلة، وعندما كانت تعترض الواحد منهم مشكلة أو يجد نفسه على مفترق طريق لا يدري أين تؤدي به كان يلتجئ إلى القرآن، يقلب صفحاته، ويتأمل في آياته حتى يعثر على حل لمشكلته، ويجد الضوء الذي يكشف من أمامه الظلمات.

وجاءت من بعدهم أجيال أساءت الفهم، وضلت الطريق. هذه الأجيال تصورت القرآن "كتاب موت" بدل أن يكون "كتاب حياة"، فالقرآن لا يعني بالنسبة إلى حياة هؤلاء شيئاً، وأنه مجموعة من القضايا الميتافيزيقية والقصص التاريخية والطقوس العبادية، وأي ربط لهذه الأمور بالحياة؟

إذن، فمن الطبيعي بعدئذ أن يبحثوا عن قيم الحياة ومناهج الحياة وتعاليم الحياة في أي مكان آخر غير القرآن - بالطبع. وقد نتج هذا الفصل - الفصل بين القرآن وبين الحياة المعاشة - من عدة عوامل منها:

1. الهوى والشهوات، ذلك لأن الفهم الحيوي والواقعي للقرآن يعني:

أ) تحديد شهوات الإنسان وأهواؤه - كما سيتضح ذلك فيما بعد.

ب) التنازل عن كثير من الارتباطات والعلاقات الاجتماعية، بل ومقاومة الكثير من "مراكز القوى" التي تربط مصالح الإنسان المادية بالخضوع لها والتعاون معها، ولكن أهواء الإنسان لا ترضى بذلك. "إذن، لنفهم القرآن ككتاب ميت، وعندئذ ننطق في حياتنا كما نشتهي ونريد."

2. الفهم الخاطئ للدين، ذلك لأن الدين الذي:

أ) يأمر أتباعه بالعزلة والانزواء عن المجتمع،

ب) ويهتم بالآخرة، ولا يعير الدنيا أي اهتمام،

ج) ويرفض التدخل في السياسة حتى لو كانت نزيهة في أهدافها ووسائلها، (لأنها خبث وكذب ونفاق).

هذا الدين لا يرتبط بالحياة - بالطبع، وقرآن هذا الدين هو كذلك، إنه كتاب يدعو الإنسان إلى الزهد في الدنيا وصرف كل جهوده في الآخرة، فما هي قيمة الدنيا؟ إنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة! بل هي أساساً سميت "دنيا" لأنها دنيئة وهابطة. إذن، ما لنا ولها؟ دع الدنيا للآخرين، دعها للكافرين يتمتعوا بها، ويتقلدوا زمامها، أما أنت فاعبد الله حتى يأتيك اليقين، لتكن دنياك خربة ومتهاوية، ليس ذلك مهماً، المهم أن تكون آخرتك معمورة.

إن هذا المنطق هو بالضبط منطق عبد الله بن عمر حينما مات معاوية وقام على الأمر بالسيف يزيد، لقد رفض عبد الله بن عمر أن يأخذ أي موقف رافض، واكتفى بالقول: "أما أنا فعلي بقراءة القرآن ولزوم المحراب."

وهكذا يجني الفهم الخاطئ للدين على الفهم الحيوي أو الواقعي للقرآن.

3. اعتبار القرآن كتاباً متعالياً عن الإدراك البشري، فالذين يعتبرون القرآن مجموعة من الألغاز والأحاجي والرموز الغامضة - هؤلاء بالطبع - لا يستطيعون أن يفهموا القرآن، وحتى لو فهموه فإنهم لن يسمحوا لعقولهم أن تقوم بـ"الفهم الواقعي والحيوي"، بل إن ذلك - في نظر بعضهم - هو الانحراف الصريح.1

والسؤال الآن هو: ما هي النتائج التي ترتبت على هذا الفصل - الفصل بين القرآن وبين الواقع القائم؟

والجواب:

1. أصبح القرآن - بذلك - كتاباً ميتاً، لا يستطيع الدفع والتحريك بعد أن كان - وعلى امتداد فترة طويلة من الزمن - المحرك الأساسي للأمة المسلمة على طريق النمو والتقدم.

لقد وعت الأمة بفضل القرآن، وتحركت بفضل القرآن، وتصاعدت بفضل القرآن، واندفعت تنشر النور في أقطار الأرض، وتحطم عروش الطغاة في كل مكان بفضل القرآن، وأنجزت كل شيء بفضل القرآن. هذا ما كان في السابق، وحين كانت الأمة تنظر إلى القرآن كتاباً للحياة ومنهجاً للتحرك وخريطة للمسير.

أما اليوم - وحين انفصل القرآن من الحياة - ولم يبق منه إلا الرسوم - كما يقول الإمام علي (عليه السلام) - فقد انتهت فاعليته، وأصبح لا يحرك فرداً، ولا يبني كياناً، ولا يرهب عدواً.

2. انفصل القرآن - بذلك - عن أجيالنا الصاعدة، ذلك لأن هذه الأجيال تبحث عن القضايا المتحركة التي ترتبط بواقعها القائم، أما القضايا الجامدة والقصص الميتة فهي لا تستثيرها، ولا تستقطب اهتماماتها، ولأن هذه الأجيال فهمت القرآن كتاباً عتيقاً ميتاً لا يرتبط بالواقع القائم - لذلك - ألقت بالقرآن وراء ظهرها، وانطلقت تبحث عن أيديولوجية أخرى تعالج مشاكلها الحاضرة.

ولو كان هؤلاء قد فهموا القرآن فهماً حيوياً وواقعياً لما كانوا قد انفصلوا عنه، ونحن واثقون بأن هؤلاء سوف يعودون يوماً ما إلى القرآن وإلى الأيديولوجية الإسلامية - بعد أن يفهموها بشكلهما الواقعي الحي .

3. ظلت بالفصل بين القرآن وبين "الفهم الواقعي" له المفاهيم الخاطئة مكرسة في نفسية الأمة، بينما كان بإمكان "الفهم الحيوي" و"الواقعي" للقرآن الكريم أن يعالج الكثير من هذه المفاهيم، وسنضرب فيما بعد بعض الأمثلة على ذلك.

هذه كانت - بإيجاز - النتائج الخطيرة التي ترتبت على "الفهم الميت" لآيات القرآن الكريم وينتصب هنا سؤال ليقول: ما هي مظاهر "الفهم غير الواقعي" للقرآن؟ والجواب هنالك ثلاث مظاهر:

  1. الفهم الجريدي.

  2. الفهم التاريخي.

  3. عدم إعطاء الكلمة مدلولها الحقيقي.

دعنا نلقي قليلاً من الضوء على ذلك.

التالي

الفهرست

السابق

(1) لقد تناولنا مسألة "التفسير بالرأي" في الفصل الأول من هذا الكتاب.