تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان |
سورة الأنعام |
90 |
((أُوْلَئِكَ)) الأنبياء الذين سبق ذِكرهم ((الَّذِينَ هَدَى اللّهُ))، أي هداهم الله، والتكرار هنا تقدمة لقوله سبحانه ((فَبِهُدَاهُمُ)) يارسول الله ((اقْتَدِهْ)) في إسلوب الدعوة والصبر على الأذى والإهتمام بالأمر، وهذا كتسلية للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإلماع إلى أنّ الأنبياء السابقين إبتلوا بما إبتلى به، بالإضافة إلى أنّ الإقتداء بهم في هدى الله سبحانه لا فيما من عند أنفسهم، حتى يُقال: كيف يؤمن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالإقتداء بمن هو دونه في الفضيلة، إنه قيام بالوظيفة لأمر الله سبحانه ولحسابه الخاص، فالأجر منه وحده ((قُل)) يارسول الله لمن تبلغهم ((لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا))، أي لا أطلب منكم على تبليغ الرسالة وأداء الوحي ثمناً وأجرة ((إِنْ هُوَ))، أي ما تبليغ الوحي ((إِلاَّ ذِكْرَى))، أي تذكيراً ((لِلْعَالَمِينَ)) الذين هم في زماني وبعد زماني، وكونه تذكيراً باعتبار ما أودع في الإنسان من الفطرة الدالة على توحيده سبحانه، وهنا سؤال: أنه كيف يمكن الجمع بين هذه الآية وبين قوله (ما أسألكم عليه أجراً إلا المودّة في القُربى)؟، والجواب: إنّ إطلاق الأجر على المودّة مجاز، وقد كان ردّ الناس لهم لصالح الناس حيث أنهم الهداة المصلحون. |
||
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان |
سورة الأنعام |
91 |
وحيث ذَكَرَ سبحانه أنه أعطى الأنبياء الكتاب، ردّ على مَن زَعَمَ أنه سبحانه لم يُنزل كتاباً، فقد ورد أنّ حبراً من أحبار اليهود جاء إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال له النبي: "أُنشدك بالذي أنزل التوراة أنّ لله سبحانه يبغض الحبر السمين -وكان اليهودي سميناً-"، فغضب وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء، فقال له أصحابه: ويحك ولا موسى؟ ف،زل الله هذه الآية ((وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ))، أي ما عظّموه سبحانه حقّ تعظيمه الذي يليق به ((إِذْ)) نسبوا إليه الكذب فـ ((قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ))، أي لم ينزل على رسول كتاباً من السماء، كما قال ذلك اليهودي، إنّ معنى عدم إرسال الرُسُل وإنزال الكتب أنّ الله خَلَقَ الخلق عبثاً واعتباطاً، ومن المعلوم أنّ نسبة العبث إلى شخص عادي موجبة لإهانته وعدم تقديره، فكيف بالله الحكيم والعليم؟ ((قُلْ)) يارسول الله لإبطال كلامهم فـ ((مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى)) (عليه السلام)، أليست التوراة من إنزال الله تعالى؟، وإنما ذَكَرَها لكون طرف الكلام يهودياً ((نُورًا وَهُدًى))، أي في حال كون كتابه (عليه السلام) نور يهدي الناس إلى مناهج الحياة الصحيحة، وهداية ((لِّلنَّاسِ)) إلى الحق ((تَجْعَلُونَهُ))، أي تجعلون ذلك الكتاب ((قَرَاطِيسَ))، أي تكتبونه، وهذا لزيادة التأكيد، أي: فكيف تنكرون ما تلقّيتموه أنتم بالقبول وكُنتم تكتبونه في القرطاس، باعتبار أنه كتاب سماوي مُنزَل من عند الله سبحانه ((تُبْدُونَهَا))، أي تُظهرون بعضها حيث كانوا يكتبون بعض الأحكام الموجودة في التوراة في أوراق ويعطونها بيد الناس ((وَتُخْفُونَ كَثِيرًا)) من التوراة لأجل كونها خطراً على مادياتهم أو جاههم، أو فيه الدلالة على الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ((وَعُلِّمْتُم)) أيها اليهود ببركة التوراة المنزلة على موسى ((مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ)) فإنكم لولا كتاب الله المنزَل لم تكونوا تعلمون أشياء، فكيف تنكرون إنزال الله الكتاب، وتقولون (ما أنزلَ الله على بشرٍ من شيء)؟ ((قُلِ)) يارسول الله ((اللّهُ)) نزّل الكتاب على موسى ((ثُمَّ ذَرْهُمْ))، أي دعهم ((فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ)) فهم وما خاضوا فيه من الباطل والكذب أنهم يلعبون بالدين فذرهم وما هم فيه. |
||
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان |
سورة الأنعام |
92 |
((وَ)) كما أنزلنا الكتاب على موسى كذلك ((هَذَا)) القرآن ((كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ)) إليك يارسول الله ((مُبَارَكٌ)) يوجب البركة والسعادة ((مُّصَدِّقُ)) الكتاب ((الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ))، أي قبله من التوراة والإنجيل وسائر الكتب السماوية، ومن المعلوم أنّ تصديق أصل الكتاب لا يلازم تصديق التحريفات التي طرأت عليه ((وَلِتُنذِرَ)) يارسول الله ((أُمَّ الْقُرَى))، أي مكة، وإنما سمّيت بها لأنّ الأرض دُحيت من تحتها ((وَمَنْ حَوْلَهَا)) من سائر أهل الأرض ((وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ)) من أهل الكتاب وغيرهم ((يُؤْمِنُونَ بِهِ))، أي بالقرآن المنزَل عليك، فإنّ الإيمان بالآخرة يوجب خوفاً في القلب، ينبعث منه إتّباع الحق أينما وُجد، وفيه تعريض بمن لا يؤمن من أهل الكتاب، فإنه غير مؤمن بالآخرة ((وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ)) فيؤدّونها لأوقاتها، فمن يترك الصلاة ليس بمؤمن بالآخرة والقرآن وإن ادّعى الإيمان. |
||
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان |
سورة الأنعام |
93 |
وحيث كان الكلام حول الوحي، ومن قال بعدم الوحي إطلاقاً، ناسَبَ ذلك التنديد بمن قال بالوحي كذباً ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا)) نزلت في إبن أبي سرح الذي إستعمله عثمان على مصر وقد هَدَرَ رسول الله دمه وكان حسن الخط من كتّاب الوحي فإذا قال له الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "أُكتُب أنّ الله عزيز حكيم" كَتَبَ: إنّ الله عليم حكيم، وهكذا، وكان يقول للمنافقين: إني أقول من نفسي مثل ما يجيء به، ثم ارتدّ كافراً إلى مكة وصار من الطلقاء يوم فتح مكة، ثم لا يخفى أنّ قوله (ومَن أظلم) على سبيل الحصر الإضافي كقوله (ومَن أظلم ممن مَنَعَ مساجد الله)، وغيره ((أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ)) كمسيلمة الكذابة الذي إدّعى النبوة كذباً، وكغيره ممن ادّعى هذا المنصب بالإفتراء نحو ((وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ)) من الآيات أو الأحكام، في المجمع قيل المراد به عبد الله بن سعد بن أبي سرح أملى عليه رسو الله ذات يوم: "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين" إلى قوله (فنبارك الله أحسن الخالقين) فأملاه عليه وقال هكذا أُنزل فارتدّ عدو الله وقال: لئن كان محمد صادقاً فلقد أوحيَ إليّ كما أوحي إليه ولئن كان كاذباً فلقد قلتُ كما قال ((وَلَوْ تَرَى)) يارسول الله ((إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ))، أي في شدائد الموت عند النزع، كأنّ الموت بشدائده يغمرهم مرة فمرة، كما يغمر الماء الغريق ((وَالْمَلآئِكَةُ)) القابضة لأرواحهم ((بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ)) لقبض أرواحهم بأبشع الوسائل يضربون وجوههم وأدبارهم قائلين لهم ((أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ)) من أجسادكم، وهذا للإذلال والإهانة، وإلا فليس خروج أنسفهم بإمكانهم بل بقدرة الله تعالى ((الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ)) أيها الظالمون ((عَذَابَ الْهُونِ)) فإنه ليس عذاباً جسدياً فقط بل معه ذلّة وهوان ((بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ))، أي جزائكم بعذاب الهون بسبب مقالكم المكذوب على الله حيث كنتم تقولون: أوحيَ إليكم، ولم يوحَ إليكم، ومعنى (على الله) أي بالنسبة إليه سبحانه ((وَ)) بما ((كُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ)) ودلائله ((تَسْتَكْبِرُونَ)) فلا تخضعون لأحكامه وأنبيائه، وجواب (لو) محذوف للتهويل، أي لو رأيت ذلك لرأيت أمراً فظيعاً مريعاً. |
||