تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان

سورة البقرة

260

((وَ)) اذكر يارسول الله ((إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى)) فإنه (عليه السلام) رأى جيفة تمزّقها السباع فيأكل منها سباع البر وسباع الهواء ودواب البحر فسأل الله إبراهيم فقال: يارب قد علمت أنك تجمعها من بطون السباع والطير ودواب البر فأرني كيف تحييها لأُعاين ذلك ((قَالَ)) الله سبحانه ((أَوَلَمْ تُؤْمِن)) على نحو إستفهام التقرير، ليقول آمنت، كقوله: "ألستم خير من ركب المطايا" ((قَالَ)) إبراهيم (عليه السلام) ((بَلَى)) أنا مؤمن ((وَلَكِن)) أسأل ذلك ((لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)) ويكون يقيني عين اليقين فإن الإنسان الذي يعلم أن النار -مثلاً- حارة، يسمى ذلك علم اليقين، فإذا رآها سمّي حق اليقين، فإذا أدخل يده فيها فاحترقت سمّي عين اليقين، وورد أنه (عليه السلام) علم أنّ الله يتخذ عبداً له خليلاً إذا سأله إحياء الموتى أحياها فأراد أن يطمئن أنه هو ((قَالَ)) الله سبحانه ((فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ)) الطاووس والحمام والغراب والديك فاذبحهنّ وقطّعهنّ واخلطهنّ بعضاّ ببعض ((فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ)) من صرته بمعنى قطعته و(إليك) إنما هو من مستلزمات القطع، فإنّ الإنسان إذا أراد أن يقطع شيئاً قطعاً جيداً ويخلطه لابد وأن يجذبه إليه ولعله كناية عن القطع الجيد والتخليط البالغ ((ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ)) من عشرة جبال ((مِّنْهُنَّ جُزْءًا)) وإنما ذلك يدل على أن الأجزاء الميتة تجتمع من محلات متباعدة وقت الحشر ((ثُمَّ ادْعُهُنَّ)) بأن تأخذ بمنقار كل واحد من الطيور الأربعة في يدك وتدعوه باسمك ((يَأْتِينَكَ)) يجتمع الأجزاء من الجبال ((سَعْيًا)) مسرعات ((وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ)) لا يمتنع عليه شيء ((حَكِيمٌ)) فيما يفعل فلا يفعل شيئاً إعتباطاً وعبثاً، ففعل إبراهيم (عليه السلام) ذلك فتطايرت الأجزاء بعضها الى بعض حتى استوت الأبدان وجاء كل بدن حتى نظم الى رقبته ورأسه فأطلقها إبراهيم (عليه السلام) فطرن فالتقطن الحب وشربن الماء ثم دعون لإبراهيم (عليه السلام).

تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان

سورة البقرة

261

تقدّم الكلام في الآيات السابقة عن من يقرض الله قرضاً حسناً، ثم تخلّل الكلام دليل التوحيد والرسالة والمعاد والآن يرجع السياق الى الإنفاق ((مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ)) لا رياءً أو سمعة وشهرة ونحوها ((كَمَثَلِ حَبَّةٍ)) من الحنطة أو الشعير أو نحوهما ((أَنبَتَتْ))، أي أخرجت ((سَبْعَ سَنَابِلَ)) جمع سنبلة وهي مجمع الحبّات ((فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ)) فتكون النفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف ((وَاللّهُ يُضَاعِفُ))، أي يزيد كل سبعمائة ((لِمَن يَشَاء)) من عباده من المنفقين ((وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)) يسع علمه وقدرته يعلم المنفق والإنفاق، وقد مثّل الإنفاق بهذا ليكون أوقع في النفس وأكثر في التأثير والتشويق.

تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان

سورة البقرة

262

ثم ذكر شرطاً آخر للإنفاق المثمر الموجب للأجر بقوله تعالى ((الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ))، أي لا يعقبون ((مَا أَنفَقُواُ مَنًّا)) على المعطى له بأن يمنّ عليه في إنفاقه كأن يقول له أني أعطيتك فكُن شاكراً ((وَلاَ أَذًى)) بأن يؤذي المعطى له كأن يقول: إبتليت بفلان الفقير ((لَّهُمْ أَجْرُهُمْ)) وجزاء إنفاقهم ((عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ)) من العذاب لأن من ينفق هكذا يكون مخلصاً في جميع أعماله أو لا خوف عليهم من فوت الأجر ((وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)) وهو يحتمل الأمرين مثل "لا خوف".

تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان

سورة البقرة

263

((قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ)) بأن يرد به السائل نحو: "الله يعطيك" ((وَمَغْفِرَةٌ))، أي تجاوز عن السائل فيما إذا أساء ((خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى)) لأن الصدقة كذلك تجرح قلب السائل دونهما، ولأنها تتبع العقاب، لأن هكذا صدقة محرمة، بخلافهما ((وَاللّهُ غَنِيٌّ)) فلا يحتاج الى صدقاتكم أيها المعطون، وإنما أنتم تحتاجون إليها، فحثّ الله بالإنفاق لكم لا له ((حَلِيمٌ)) عن عقابكم بسبب صدقاتكم التي تتبع الأذى.

تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان

سورة البقرة

264

((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ)) على السائل ((وَالأذَى)) له فإنّ فيها إبطالاً للصدقة من حيث الثواب فلا ثواب لها إبطالاً لها عن العُرف لأن مثل هذه الصدقة لا تُحسب جميلاً وإنما قبيحاً بشعاً، فإنّ من يُبطل صدقته بالمنّ والأذى فهو ((كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ)) لأجل أن يراه الناس فيمدحوه ((وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)) بأن يكون الداعي له الى التصدّق أمر الله سبحانه أو ثواب الآخرة ((فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا)) الصفوان: الحجر الأملس، والوابل: المطر الشديد الوقع، والصلد من الأرض ما لا ينبت شيئاً لصلابته، فإنّ الإنسان الكافر كالحجر الصلب الذي لا يُرجى منه خير، وما يتحفّظ به ظواهره بمنزلة تراب على الحجر يظن الناس أنه محل قابل للنبت والصدقة التي يرائي بها كالمطر الشديد، فإنه إذا نزل بأرض صالحة كان مبعث الخير والنبات لكنه إذا نزل على الحجر المغطّى بالتراب إزال ترابه وأظهر صلادته وعدم قبوله لأي إنبات وعشب، وكذلك الكافر الذي يظن به الناس بعض الخير إذا أنفق رياءً ظهر على الناس حقيقته المنحرفة فتكون الصدقة -التي هي بذاتها سبب الخير والرحمة- مُعرّية لحقيقة الكافر البشعة، ومن ناحية أخرى أنها توجب سخط الله عليه أكثر من ذي بل فتكون مذهبة لما يظن أنها حسنة له من بعض أعماله الخيرية السابقة ((لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ)) من مكاسبهم السابقة لأن الصدقة برياء ذهب بها كما أن المطر يذهب بالتراب فلا يمكن إرجاعه وجمعه ((وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)) فلا يلطف بهم اللطف الخاص لأنهم أسقطوا أنفسهم عن القابلية لجحودهم بعد أن عرفوا الحق.

تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان

سورة البقرة

265

((وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ))، أي لأجل طلب رضى الله سبحانه ((وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ))، أي الأجل تثبيت أعمالهم الحسنة وتركيزها، تثبيتاً ناشئاً من أنفسهم فأنفسهم هي التي توصي بذلك، لا كالمرائي الذي يحمله على الصدقة رؤية الناس، فهذه الجملة "من أنفسهم" مقابل جملة (رئاء الناس) في الآية السابقة ((كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ))، أي بستان في مرتفع ((أَصَابَهَا وَابِلٌ)) مطر غزير ((فَآتَتْ))، أي أعطت ((أُكُلَهَا)) وثمرها ((ضِعْفَيْنِ)) فإنّ الإنسان المؤمن كالبستان الواقع في مرتفع حيث أنه يزهو للناس ويكون أقرب الى الإستفادة من الهواء والشمس والمطر، فإنّ المؤمن أقرب الى الخير فإذا تصدّق تكون صدقته كالمطر الذي إذا نزل بالبستان يوجب نمو ثمارها وإزدهار أشجارها ((فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ)) مطر غزير ((فَــ‏)) يكفي لأمارها وأنضارها ((طَلٌّ)) رذاذ من المطر قليل ((وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) فيجازيكم على أعمالكم إن رياءً وإن قُربة.

العودة إلى القائمة

التالي