تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان

سورة البقرة

182

ثم إستثنى سبحانه عن حرمة تبديل الوصة، بأنه إنما يكون حراماً إذا كان تغيّراً من حق الى باطل، أما إذا كان من باطل الى حق فلا إثم في التغيير((فَمَنْ خَافَ)) وخشي ((مِن مُّوصٍ))، أي الذي يوصي ((جَنَفًا))، أي ميلاً عن الحق الى الباطل، بأن أوصى أزيد مما يحق له الإيصاء به ((أَوْ إِثْمًا)) بأن حرم ورثته بإيصائه، وفي الحديث أن الإثم الخطأ عن عمد، والجنف الخطأ لا عن عمد ((فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ))، أي بين الورثة والموصي، والموصي له، بأن ردّ الزائد الى الورثةوأبطل ما فيه من الإثم ((فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ))، أي على المبدّل للوصية ((إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)) بمن يأثم، فكيف بمن لا يأثم، وقد ثبت في الشريعة أن الوصية - بما زاد عن الثلث - لا تنفّذ إلا برضى الورثة.

تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان

سورة البقرة

183

ثم إنتقل السياق الى حكم آخر من أحكام الإسلام -لما ذكرنا من أن القرآن الحكيم، بعد بيان أصول التوحيد، ذكر جملة من الأحكام- فقال سبحانه ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ)) فإنه مفروض عليكم، فيجب عليكم أن تصوموا ((كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ)) فلستم أنتم وحدكم أُمرتم بالصيام، بل كان الصوم شريعة في الأديان السابقة أيضاً ((لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) النار بصيامكم، فإن الصائم حيث يحسّ بالجوع والعطش والضعف يتذكّر الله سبحانه فيخبت قلبه وتضعف فيه قوى الشر، وترقّ نفسه وتصفو روحه، وكل ذلك سبب للتقوى وترك المعاصي.

تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان

سورة البقرة

184

((أَيَّامًا))، أي أن الصيام في أيام ((مَّعْدُودَاتٍ))، أي محصورات، فليست أياماً كثيرة لا تعد، وإنما هي ثلاثون يوماً فقط، وفيه تسلية، وليس الصيام على كل أحد ((فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا)) مرضاً يضرّه الصوم ((أَوْ عَلَى سَفَرٍ)) فقد شبّه السفر بمركوب لغلبة الركوب فيه، وحدّ السفر معيّن في الشريعة ((فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ))، أي فليصم في أيام أُخَر غير شهر رمضان، قضاءاً لما فاته بالمرض أو السفر ((وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ))، أي يطيقون الصيام، بأن يكون آخر طاقتهم وذلك موجب للعسر- كما لا يخفى - إذا أخّر الطاقة عُسر، أو أنّ الذي يُطيق الصوم كان في أول الشريعة مخيّراً بين الصيام والإطعام، ثم وجب الصوم وحدهوذلك للتدرّج بالأمة ((فِدْيَةٌ))، أي الواجب عليهم الفداء بدل الصوم ((طَعَامُ مِسْكِينٍ)) واحد وهو مدٌّ من الطعام ((فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا)) بأن زاد على طعام المسكين ((فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ)) أيها المُطيقون، الذي يبلغ الصوم طاقتكم ((خَيْرٌ لَّكُمْ)) من الإطعام، فإن الإنسان أما أن يضرّه الصوم ضرراً بالغاً، وهو الذي تقدّم أنه يفطر ويأتي بعدّةٍ من أيام أُخر، وأما أن يشقّ عليه الى حدّ العُسر، وهو الذي يبلغ منتهى طاقته، وهذا يخيّر بين الصيام والإطعام وإن كان الصيام خير، وأما أن لا يشقّ عليه وهو الذي يجب عليه الصيام معيّناً مما بيّن في الآية التالية ((إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)) لعلمتم أن الصيام خير لما فيه من الفوائد التي ليست في الإطعام، وليس مفهومه، إن لم تكونوا تعلمون، فليس الصوم خيراً، بل المفهوم إن لم تكونوا تعلمون، لم تعلموا أن الصوم خير.

تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان

سورة البقرة

185

الأيام المعدودات المفروض فيها الصيام هي ((شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)) مما زاد في عظمته وحرمته، إذ صار زماناً لنزول أعظم دستور للبشرية الى الأبد في حال كون القرآن ((هُدًى لِّلنَّاسِ)) يهديهم الى الحق والى صراط مستقيم ((وَبَيِّنَاتٍ))، أي أمور واضحات ((مِّنَ)) جنس ((الْهُدَى)) فليس هدىً غامضاً يحتاج الى إثبات ودليل، بل واضح لائح، ومن الهدى بيان لبيّنات، إذ يمكن أن يكون شيء بيّناً من حيث الشهادة أو المعاملة أو نحوها ((وَ)) من ((الْفُرْقَانِ))، أي يفرّق بين الحق والباطل والضلال والرشاد ((فَمَن شَهِدَ))، أي حضر ولم يغب بالسفر ((مِنكُمُ الشَّهْرَ))، أي شهر رمضان ((فَلْيَصُمْهُ)) إيجاباً، ولما كان الحكم عاماً إستثنى منه بقوله ((وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)) وإنما كرّر تمهيداً لقوله ((يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)) ولذا أمركم بالإفطار في السفر والمرض ((وَ)) إنما شرع عدّة من أيام أُخر ((لِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ))، أي عدّة أشهر، فإن في صيامه فوائد لا يدركها إلا من أكملها، فإن لم يتمكن من إكمالها في نفس شهر رمضان أكملها خارجه ((وَ)) إنما شرع الصوم ((لِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ))، أي تعظّموه بسبب هدايته لكم الى دينه وشريعته، فإن الصيام سبب قرب النفس الى الله سبحانه، فيأتي منها التكبير عفواً، وفي التأويل، المراد به تكبير ليلة الفطر ((وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) فإن الصوم نعمة تستحق الشكر لما فيه من صلاح الدنيا والدين.

تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان

سورة البقرة

186

وحيث إن من عادة القرآن الحكيم أن يخلّل الأحكام نفحة موجهة نحو الله تعالى، ليربط الحكم بالخالق، وليشعّ في النفس النشاط والعزيمة، أتت آية إستجابة الدعاء هنا بعد طول من بيان الأحكام، ثم يأتي بعده آيات ترتبط بالأحكام ثانية، بالإضافة الى أن إستجابة الدعاء تناسب شهر رمضان، فإنه شهر دعاء وضراعة، وقد ورد أن سائلاً سأل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): كيف ندعوا؟، فنزلت ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ)) إليهم، قُرب العلم والإحاطة والسمع والبصر، لا قُرب الزمان والمكان والجهة، فإنه سبحانه منزّه عن كل ذلك ((أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ)) الذي يدعوني ((إِذَا دَعَانِ)) ولعل في هذا القيد إفادة أن الإجابة وقت الدعوة مباشرة فإن "إذا" ظرف، ويفيد تكرار كلمة "دعا" لتتركّز في الذهن تركيزاً ((فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي))، أي يطيعوني في أوامري ونواهي، إذ من يجيب الدعاء يستحق له الإنسان ((وَلْيُؤْمِنُواْ بِي)) إيماناً بذاتي وصفاتي ((لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ))، أي لكي يصيبوا الحق ويهتدوا إليه.

تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان

سورة البقرة

187

((أُحِلَّ لَكُمْ)) أيها الصائمون ((لَيْلَةَ الصِّيَامِ)) التي تصومون غدها ((الرَّفَثُ))، أي الجماع ((إِلَى نِسَآئِكُمْ)) وإنما عدى بـ "الى" لتعلمنه معنى الإفضاء، أي الإنتهاء الى زوجاتكم بالجماع، وقد رُوي عن الصادق (عليه السلام) في سبب نزول هذه الآية أنه قال: "كان الأكل محرّماً في شهر رمضان بالليل بعد النوم، وكان النكاح حراماً بالليلوالنهار في شهر رمضان، وكان رجل من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يُقال له مطعم بن جبير - أخو عبد الله بن جبير الذي كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكّله بفم الشِعب يوم أُحد في خمسين من الرماة وفارقه أصحابه وبقي في إثني عشر رجلاً، فقُتل على باب الشِعب- وكان أخوه هذا مطعم بن جبير شيخاً ضعيفاً وكان صائماً فأبطأت عليه أهله بالطعام فنام قبل أن يفطر، فلما إنتبه قال لأهله: قد حُرّم عليّ الأكل في هذه الليلة، فلما أصبح حضر حفر الخندق فأُغمي عليه، فرآه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فرقّ له، وكان قوم من الشباب ينكحون بالليل سراً في شهر رمضان، فأنزل الله هذه الآية، فأحلّ النكاح بالليل في شهر رمضان والأكل بعد النوم الى طلوع الفجر." ((هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ)) فكما أن اللباس يقي البدن وكما أنه ملاصق بالبدن ومحرم عليه، كذلك كل من الزوجين بالنسبة الى الآخر ((عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ)) أيها الصائمون ((كُنتُمْ تَخْتانُونَ)) من الخيانة ((أَنفُسَكُمْ))، أي كنتم تخونونها بارتكاب المعصية فكان المرتكب لها يخونها إذ يسبّب لها خساراً، وكل خائن كذلك يسبّب لمن خانه خسارا ((فَتَابَ عَلَيْكُمْ)) ما كنتم تأتون به من المحرم في جماع أهليكم ليلاً ((وَعَفَا عَنكُمْ)) بالنسبة الى هذا الحكم ((فَـ)) من ((الآنَ بَاشِرُوهُنَّ))، أي يجوز لكم جماعهنّ ليلاً والأمر في مقام نفي لا يفيد إلا الجواز ((وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ)) من الأولاد واللذّة المحلّلة الموجبة للثواب، وهذا بالنسبة الى نسخ الحكم بتحريم الجماع ((وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ))، أي يُباح لكم الأكل والشرب من أول المغرب ((حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)) بيان الخطين أي يتضح الفجر الصادق الذي هو في وسط الظلام كخيط أبيض قرب خيط أسود ((ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ)) بالكف عن المفطرات المذكورة في الشريعة من أول الفجر الصادق ((إِلَى الَّليْلِ)).

وهو المغرب الشرعي، وهذا بالنسبة الى نسخ الحكم بتحريم الأكل والشرب لمن نام قبل أن يفطر ((وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ))، أي لا تجامعوا النساء ((وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ)) ليلاً أو نهاراً والإعتكاف هو اللبث في المسجد بقصد العبادة ويُشترط فيه الصوم، وأقله ثلاثة أيام بتفصيل مذكور في الفقه ومن أحكام الإعتكاف حُرمة مباشرة النساء ليلاً ونهاراً ((تِلْكَ)) التي ذكرنا من أحكام الصيام وغيرها ((حُدُودُ اللّهِ)) التي جعلها لأفعال العباد من الفعل فلا يجوز تركه، والترك فلا يجوز إقتحامه كحدود المدينة والدار ونحوهما ((فَلاَ تَقْرَبُوهَا)) نهي عن الإقتراب، مبالغة في النهي عن الإقتحام والمخالفة كقوله تعالى (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) ((كَذَلِكَ))، أي مثل هذا البيان الواضح الذي بيّن أحكام الصيام وغيره ((يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ)) دلائله وأحكامه ((لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ))، أي لكي يتّقوا معاصيه.

العودة إلى القائمة

التالي