تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان

سورة البقرة

144

وبعد ما بين الحكم وأن القبلة تحولت بيّن الله سبحانه قصة التحويل، فإنها كالعلة للحكم المتقدم، والعلة دائما تأتي متأخرة في الكلام وإن كانت سابقة في التحقيق، كما يقال أنه إنسان طيب لأن تربية <تربيته؟؟> حسنة، ((قَدْ نَرَى))، "قد" هنا للتحقيق نحو "قد يعمل الله" وإن كان الغالب في "قد" الداخلة على المضارع أن تكون بمعنى التقليل، ولعل سر دخولها إشراب الفعل معنى التقليل، حيث لا يريد المتكلم إظهار العمل بالبت مثله: (وإنا أو إياكم لعلى هدى)، ((تَقَلُّبَ وَجْهِكَ)) يا رسول الله ((فِي السَّمَاء))، أي في ناحية السماء، فإن الرسول كان يقلب وجهه في أطراف السماء، فينتظر الوحي حول القبلة، فإن اليهود عيروه (صلى الله عليه وآله وسلم) قائلين له إنك تابع لقبلتنا، فلما كان في بعض الليل خرج (صلى الله عليه وآله وسلم) يقلب وجهه في آفاق السماء، فلما أصبح صلى الغداة، فلما صلى من الظهر ركعتين جاء جبرائيل (عليه السلام) بهذه الآية، ثم أخذ بيده فحول وجهه إلى الكعبة، وحول من خلفه وجوههم، حتى قام الرجال مقام النساء، والنساء مقام الرجال. ((فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا))، إذ الرسول كان يحب الكعبة التي هي بناء جده إبراهيم (عليه السلام)، وعندها موطنه، ((فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ))، "الشطر": الجزء، أي حول وجهك نحو جزء من المسجد الحرام، و"المسجد" لكونه محيطا بالكعبة يكون المتوجه إليه متوجها إليها إذا كان من بعيد، ((وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ)) أيها المسلمون ((فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ))، وذكر "الوجه" في المقامين، لأنه الشيء الذي يتوجه به في جسد الإنسان، ((وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ)) من اليهود والنصارى الذي يستشكلون عليكم قائلين: "إن كانت القبلة السابقة حقا فهذه باطلة، وإن كانت هذه حقاً فتوجهكم في السابق إلى بيت المقدس باطل" ((لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ))، أي أن تحويل القبلة، أو هذه القبلة حق من قبل الله، فإن الله سبحانه يعبده عباده كيف يشاء، فمن الجائز أن يعبد الأمة بتشريع إلى مدة ثم يعبدهم بتشريع آخر، ((وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ))، أي يعمل أهل الكتاب من الإرجاف وبث الأباطيل حول تحويل القبلة وسائر الأمور المرتبطة بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان

سورة البقرة

145

((وَلَئِنْ أَتَيْتَ)) يا رسول الله ((الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ)) من اليهود والنصارى ((بِكُلِّ آيَةٍ)) من الآيات الدالة على أن قبلتك حق ((مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ))، لأنهم معاندون، والمعاند لا ينفع معه الدليل، ((وَمَا أَنتَ)) يا رسول الله ((بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ)) بعد ما تعلم أن قبلتهم منسوخة، كقوله تعالى (لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد)، ((وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ))، اليهود لا يتبعون قبلة النصارى، والنصارى لا يتبعون قبلة اليهود، ((وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ)) يا رسول الله ((أَهْوَاءهُم)) في باب القبلة وسائر التشريعات ((مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ)) بأن طريقتهم باطلة ((إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ))، وهذه الجملة - وإن كانت موجهة إلى الرسول لكن - المقصود منها العموم، ولا تنافي العصمة، فإن الاشتراط يلائم المحال، كقوله تعالى (إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين)، وقد تقرر في المنطق أن صدق الشرطية إنما هو بوجود العلية ونحوها لا بصدق الطرفين.

تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان

سورة البقرة

146

و((الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ)) من اليهود والنصارى ((يَعْرِفُونَهُ))، أي الرسول أو هذا الحكم، أعني تغيير القبلة بأمر الله سبحانه، وإن كان الأول أقرب إلى سياق التشبيه ((كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ)) ممن لم يؤمن بالرسول ((لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ))، فليس عذر هؤلاء جهلهم حتى يرجى زواله، وإنما العناء الذي لا علاج له.

تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان

سورة البقرة

147

((الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ)) يا رسول الله، أي هذا الحق من عند الله، ((فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ))، أي الشاكين فيه، فإن المحق إذا كثرت عليه التهجمات ورمي بأنه على غير الحق يكاد يشك فيه، ولذا يثبت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما قال تعالى (لولا ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا).

تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان

سورة البقرة

148

((وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ))، أي لكل أمة من الأمم طريقة ((هُوَ)) أي الله سبحانه ((مُوَلِّيهَا))، أي أمرهم بالتوجه إليها، فلا غرابة في أن يكون للمسلمين وجهة خاصة في قبلتهم، ((فَاسْتَبِقُواْ))، أي سارعوا إلى ((الْخَيْرَاتِ))، تنافسوا فيها، فإن الله موليكم هذه الطرائق، ولا تبقوا جامدين على طريقة منسوخة، فإن ذلك انصراف عن الخير إلى الشر، من المحتمل أن يكون "هو" راجعاً إلى "كل"، أي لكل فرد أو أمة طريقة في العمل والتفكير، ذلك الشخص مولي وموجه نفسه إياها، فليكن هم كل فريق وفرد أن يسابق غيره في الخيرات، ((أَيْنَ مَا تَكُونُواْ)) من بقاع الأرض ((يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا)) يوم القيامة، حتى يجازيكم على أعمالكم، ((إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))، فيتمكن من جمعكم، ولا يفوته شيء.

تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان

سورة البقرة

149

كان لتحويل القبلة نحو الكعبة أسباب وعلل، العلة الأولى رغبة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في أن تحول القبلة لما عيرته اليهود، العلة الثانية أن التحويل كان للحق، وإن يكون للمسلمين ميزة خاصة يمتازون بها عن سائر الأمم، حتى في اتجاه الصلاة، العلة الثالثة أن التحويل كان لقطع حجة الناس الذين كانوا يتعجبون من كون المسلمين يدعون دينا جديدا ومع ذلك يتوجهون إلى قبلة بني إسرائيل، وتبعا لهذه العلل تكرر الأمر بالتوجه إلى المسجد الحرام، وقال الله سبحانه: ((وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ)) للسفر من البلاد ((فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ))، فإنه قبلة في السفر كما هو قبلة في الحضر، وفي هذا فائدة ثانية للتكرار، ((وَإِنَّهُ))، أي توجيه الوجه نحو المسجد الحرام ((لَلْحَقُّ)) الذي جاء ((مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ))، فمن أعرض عن هذه القبلة كان جزاءه سيئا، ومن اتبعها كان جزاءه حسنا.

العودة إلى القائمة

التالي