مجمع البيان

سورة المدثر

32 - 56

كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ (36) لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَل لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَن شَاء ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)

القراءة

قرأ نافع و حمزة و يعقوب و خلف «إذ» بغير ألف «أدبر» بالألف و الباقون إذا بالألف دبر بغير الألف و قرأ أهل المدينة و ابن عامر مستنفرة بفتح الفاء و الباقون بكسر الفاء و في الشواذ قراءة بعضهم يرويه عن ابن كثير أنها لحد الكبر بلا همزة و قراءة سعيد بن جبير صحفا منشرة بسكون الحاء و النون.

الحجة

أبو علي قال يونس دبر انقضى و أدبر تولى قال قتادة الليل إذ أدبر إذا ولى و يقال دبر و أدبر و قال و التخفيف في «لإحدى الكبر» أن يجعل فيها الهمزة بين بين نحو سيم فأما حذف الهمزة فليس بقياس و وجه ذلك أن الهمزة حذفت حذفا كما حذفت في قوله:

و يلمها في هواء الجو طالبها      و لا كهذا الذي في الأرض مطلوب

و قد جاء ذلك في مواضع من الشعر قال أبو الأسود لزياد:

يا با المغيرة رب أمر معضل      فرجته بالنكر مني و الدهاء

و قال آخر:

إن لم أقاتل فألبسوني برقعا      و فتخات في اليدين أربعا

و أنشد أحمد بن يحيى:

إن كان حزن لك با فقيمة      باعك عبدا بأخس قيمة

و قال الفرزدق:

و عليك إثم عطية بن الخطفي      و إثم التي زجرتك إن لم تجهد

قال و الكسر في «مستنفرة» أولى لقوله «فرت من قسورة» فهذا يدل على أنها هي استنفرت و يقال نفر و استنفر مثل سخر و استسخر و عجب و استعجب و من قال مستنفرة فكان القسورة استنفرتها و الرامي قال أبو عبيدة مستنفرة مذعورة و أنشد الزجاج:

أمسك حمارك إنه مستنفر      في إثر أحمرة عمدن لغرب

و رويت بالكسر أيضا قال ابن سلام سألت أبا سوار العرني و كان أعرابيا فصيحا قارئا للقرآن فقلت «كأنهم حمر» ما ذا قال حمر مستنفرة طردها قسورة قلت إنما هو فرت من قسورة فقال أ فرت قلت نعم فقال «مستنفرة» قال ابن جني أما سكون الحاء من صحف فلغة تميمية و أما منشرة بسكون النون فإن العرف في الاستعمال نشرت الثوب و غيره و أنشر الله الموتى فنشروا هم قال و قد جاء عنهم أيضا نشر الله الميت قال المتنبي:

ردت صنائعه إليه حياته      فكأنه من نشرها منشور

و لم نعلمهم قالوا أنشرت الثوب و نحوه إلا أنه يجوز أن يشبه بشيء و كما جاز أن يشبه

الميت بالشيء المطوي حتى قال المتنبي منشور فكذلك يجوز أن يشبه المطوي بالميت فيقال صحف منشرة أي كأنها بطيها ميتة فلما نشرت قيل منشرة.

اللغة

اليقين العلم الذي يوجد برد الثقة به في الصدر و يقال وجد فلان برد اليقين و ثلج اليقين في صدره و لذلك لا يوصف سبحانه بأنه متيقن و القسورة الأسد و قيل هم الرماة من قسره يقسره قسرا إذا قهره و أصل الفرار الانكشاف عن الشيء و منه يقال فر الفرس يفر فرا إذا كشف عن سنة و الصحف جمع الصحيفة و هي الورقة التي من شأنها أن تقلب من جهة إلى جهة لما فيها من الكتابة و منه المصحف و جمعه مصاحف.

الإعراب

«نذيرا للبشر» اختلف في وجه انتصابه فقيل نصب على الحال و هو اسم فاعل بمعنى منذر و ذو الحال الضمير في إحدى الكبر العائد إلى الهاء في أنها و هي كناية عن النار فالمعنى أنها لكبيرة في حال الإنذار و أنا ذكره لأن معناه معنى العذاب و يجوز أن يكون التذكير على قولهم امرأة طالق أي ذات طلاق و كذلك نذير بمعنى ذات إنذار و قيل هو حال يتعلق بأول السورة فكأنه قال يا أيها المدثر قم نذيرا للبشر فأنذر و قيل إن النذير هنا بمعنى الإنذار و تقديره إنذارا للبشر فيكون نصبا على المصدر لأنه لما قال «إنها لإحدى الكبر» دل على أنه أنذرهم بها إنذارا و قوله «معرضين» منصوب على الحال مما في اللام من قوله «فما لهم» من معنى الفعل و التقدير أي شيء ثبت لهم معرضين عن التذكرة «و كأنهم حمر مستنفرة» جملة في موضع الحال من معرضين و هي حال من حال أو حال بعد حال أي مشابهين حمرا.

المعنى

ثم أقسم سبحانه على عظيم ما ذكره من الوعيد فقال «كلا» أي حقا و قيل معناه ليس الأمر على ما يتوهمونه من أنهم يمكنهم دفع خزنة النار و غلبتهم «و القمر» أقسم بالظهر لما فيه من الآيات العجيبة في طلوعه و غروبه و مسيره و زيادته و نقصانه «و الليل إذ أدبر» و أقسم بالليل إذا ولى و ذهب عن قتادة و قيل أدبر إذا جاء بعد غيره و أدبر إذا ولى مدبرا فعلى هذا يكون المعنى في إذ أدبر إذا جاء الليل في أثر النهار و في إذا أدبر إذا ولى الليل فجاء الصبح عقيبة و على القول الأول فهما لغتان معناهما ولى و انقضى «و الصبح إذا أسفر» أي إذا أضاء و أنار عن قتادة و هم قسم آخر و قيل معناه إذا كشف الظلام و أضاء الأشخاص و قال قوم التقدير في هذه الأقسام و رب هذه الأشياء لأن اليمين لا يكون إلا بالله تعالى «إنها لإحدى الكبر» هذا جواب القسم يعني أن سقر التي هي النار لإحدى العظائم و الكبر جمع الكبرى و هي العظمى عن ابن عباس و مجاهد و قتادة و قيل معناه أن آيات القرآن لإحدى الكبر في الوعيد «نذيرا للبشر» أي منذرا و مخوفا معلما مواضع المخافة

و النذير الحكيم بالتحذير عما ينبغي أن يحذر منه فكل نبي نذير لأنه حكيم بتحذيره عقاب الله تعالى على معاصيه و اختلف فيه فقيل إنه من صفة النار عن الحسن و قيل من صفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكأنه قال قم نذيرا عن ابن زيد و قيل من صفة الله تعالى عن ابن رزين و على هذا يكون حالا من فعل القسم المحذوف «لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر» أي يتقدم في طاعة الله أو يتأخر عنها بالمعصية عن قتادة و المشيئة هي الإرادة فيكون المعنى أن هذا الإنذار متوجه إلى من يمكنه أن يتقي عذاب النار بأن يتجنب المعاصي و يفعل الطاعات فيقدر على التقدم و التأخر في أمره بخلاف قول أهل الجبر القائلين ما لا يطاق و قيل إنه سبحانه عبر عن الإيمان و الطاعة بالتقدم لأن صاحبه متقدم في العقول و الدرجات و عن الكفر و المعصية بالتاخير لأنه متأخر في العقول و الدرجات و روى محمد بن الفضيل عن أبي الفضل عن أبي الحسن (عليه السلام) أنه قال كل من تقدم إلى ولايتنا تأخر عن سقر و كل من تأخر عن ولايتنا تقدم إلى سقر «كل نفس بما كسبت رهينة» أي مرهونة بعملها محبوسة به مطالبة بما كسبته من طاعة أو من معصية فالرهن أخذ الشيء بأمر على أن لا يرد إلا بالخروج منه قال زهير:

و فارقتك برهن لا فكاك له      يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا

فكذلك هؤلاء الضلال قد أخذوا برهن لا فكاك له و الكسب هو كل ما يجتلب به نفع أو يدفع به ضرر و يدخل فيه الفعل و أن لا يفعل ثم استثنى سبحانه أصحاب اليمين فقال «إلا أصحاب اليمين» و هم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم و قيل هم الذين يسلك بهم ذات اليمين قال قتادة غلق الناس كلهم إلا أصحاب اليمين و هم الذين لا ذنب لهم فهم ميامين على أنفسهم و قيل هم المؤمنون المستحقون للثواب عن الحسن و قيل هم الملائكة عن ابن عباس و قال الباقر (عليه السلام) نحن و شيعتنا أصحاب اليمين «في جنات يتساءلون» أي يسأل بعضهم بعضا و قيل يسائلون «عن المجرمين» أي عن حالهم و عن ذنوبهم التي استحقوا بها النار «ما سلككم في سقر» هذا سؤال توبيخ أي تطلع أهل الجنة على أهل النار فيقولون لهم ما أوقعكم في النار «قالوا لم نك من المصلين» أي كنا لا نصلي الصلاة المكتوبة على ما قررها الشرع و في هذا دلالة على أن الإخلال بالجواب يستحق به الذم و العقاب لأنهم علقوا استحقاقهم العقاب بالإخلال في الصلاة و فيه دلالة أيضا على أن الكفار مخاطبون بالعبادات الشرعية لأنه حكاية عن الكفار بدلالة قوله «و كنا نكذب بيوم الدين» و قوله «و لم نك

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي