مجمع البيان

سورة الأنبياء

104 - 112

يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (108) فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)

القراءة

قرأ أبو جعفر تطوى بالتاء و الضم السماء بالرفع و الباقون «نطوي» بالنون «السماء» بالنصب و قرأ أهل الكوفة غير أبي بكر «للكتب» على الجمع و الباقون للكتاب و قرأ حفص «قال رب» و الباقون قل ربي و قرأ أبو جعفر رب احكم بضم الباء و قرأ زيد عن يعقوب ربي احكم و هو قراءة ابن عباس و عكرمة الجحدري و ابن محيصن و الباقون «رب احكم» و في الشواذ قراءة الحسن كطي السجل بسكون الجيم و قراءة أبي زرعة بن عمر و السجل بضم السين و الجيم و تشديد اللام و قراءة أبي السماك السجل بفتح السين و سكون الجيم.

الحجة

من قرأ يوم تطوى السماء فبنى الفعل للمفعول به و من «قرأ يوم نطوي السماء» فالفاعل هو الله سبحانه و المعنى واحد و في إن انتصاب يوم وجهان عند أبي علي (أحدهما) أن يكون بدلا من الهاء المحذوفة من الصلة أ لا ترى إن المعنى هذا يومكم الذي توعدونه و الآخر أن يكون منتصبا بنعيده و المعنى نعيد الخلق إعادة كابتدائه أي كابتداء الخلق و مثله في المعنى كما بدأكم تعودون و تقديره كما بدأ خلقكم يعود خلقكم فحذف المضاف في الموضعين و أقام المضاف إليه مقامه و المعنى يعود خلقكم عودا كبدئه و مثله في المعنى «كما بدأنا أول خلق نعيده» و من أفرد الكتاب و لم يجمع فإنه واحد يراد به الكثرة و من قرأ «للكتب» فإن المراد به الجمع و من قرأ «قال رب» أراد قال الرسول و من قرأ قل فهو على قل أنت يا محمد و قراءة أبي جعفر رب احكم معناه يا رب احكم و هي ضعيفة عند النحويين البصريين و قد جاء مثله في المثل و هو قولهم: أصبح ليل و أطرق كرا و افتد مخنوق أي يا ليل و يا كروان و يا مخنوق و قد جاء في الشعر و هو:

عجبت لعطار أتانا يسومنا      بدسكرة المران دهن البنفسج
فقلت له عطار هلا أتيتنا      بنور الخزامي أو بخوصة عرفج

أراد يا عطار و من قرأ «رب احكم» فالمعنى ظاهر.

الإعراب

الكاف في قوله «كطي السجل» في محل النصب لأنه صفة مصدر محذوف تقديره نطوي السماء طيا مثل طي السجل فإن كان السجل اسما للصحيفة فالمصدر الذي هو طي مضاف إلى المفعول في المعنى و إن كان اسم ملك أو كاتب فهو مضاف إلى الفاعل في المعنى فإن كان مفعولا كان اللام بمعنى من أجل و إن كان فاعلا كان اللام للاختصاص «وعدا علينا» منصوب على المصدر قال الزجاج لأن قوله «نعيده» بمعنى قد وعدنا ذلك و الأجود أن يقدر عاملا محذوفا لأن القراء يقفون على قوله «نعيده» قال جامع العلوم الكاف في «كما بدأنا» من صلة نعيده و إن كان متقدما و مثله كما علمه الله فليكتب «رحمة للعالمين» نصب على الحال أو على أنه مفعول له و «إنما إلهكم إله واحد» في محل رفع بإسناد «يوحى إليه» و قيامه مقام الفاعل و «على سواء» في موضع نصب على الحال من الفاعلين و المفعولين و التقدير أذنتكم و استوينا نحن و أنتم فيكون الحال من الفريقين «ما توعدون» في موضع رفع بأنه فاعل قريب لأنه اعتمد على همزة الاستفهام فهو كقولهم أ قائم أخوك و يجوز أن يكون مبتدأ و قريب خبره و على الوجهين فهما مفعولا أدري أي أعلم علقتهما همزة الاستفهام و التقدير أ قريب ما توعدون أم بعيد فبعيد عطف على قريب و النية فيه التأخير.

«و أن أدري لعله فتنة لكم» مفعول أدري محذوف و التقدير ما أدري كيف يكون الحال.

المعنى

«يوم نطوي السماء» المراد بالطي هنا هو الطي المعروف و أن الله سبحانه يطوي السماء بقدرته و قيل إن طي السماء ذهابها عن الحس «كطي السجل للكتب» و السجل صحيفة فيها الكتب عن ابن عباس و مجاهد و قتادة و الكلبي و على هذا فمعناه نطويها كما تطوى الصحيفة المجعولة للكتاب و يجوز أن يكون المراد بالكتاب المكتوب و قيل أن السجل ملك يكتب أعمال العباد عن أبي عمرو و السدي و قيل هو ملك يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه عن عطا و قيل هو اسم كاتب كان للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ابن عباس في رواية «كما بدأنا أول خلق نعيده» أي كما بدأناهم في بطون أمهاتهم حفاة عراة غرلا كذلك نعيدهم روي ذلك مرفوعا و قيل معناه نبعث الخلق كما ابتدأناه أي قدرتنا إلى الإعادة كقدرتنا على الابتداء عن الحسن و الزجاج و قيل معناه نهلك كل شيء كما كان أول مرة عن ابن عباس «وعدا علينا» أي وعدناكم ذلك وعدا «إنا كنا فاعلين» ما وعدناكم من ذلك «و لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر» قيل فيه أقوال (أحدها) أن الزبور كتب الأنبياء و معناه كتبنا

في الكتب التي أنزلناها على الأنبياء من بعد كتابته في الذكر أي أم الكتاب الذي في السماء و هو اللوح المحفوظ عن سعيد بن جبير و مجاهد و ابن زيد و هو اختيار الزجاج قال لأن الزبور و الكتاب بمعنى واحد و زبرت كتبت (و ثانيها) أن الزبور الكتب المنزلة بعد التوراة و الذكر هو التوراة عن ابن عباس و الضحاك (و ثالثها) أن الزبور زبور داود و الذكر توراة موسى عن الشعبي و روي عنه أيضا أن الذكر القرآن و بعد بمعنى قبل «أن الأرض يرثها عبادي الصالحون» قيل يعني أرض الجنة يرثها عبادي المطيعون عن ابن عباس و سعيد بن جبير و ابن زيد فهو مثل قوله و أورثنا الأرض و قوله الذين يرثون الفردوس و قيل هي الأرض المعروفة يرثها أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بالفتوح بعد إجلاء الكفار كما قال (صلى الله عليه وآله وسلم) زويت لي الأرض فأريت مشارقها و مغاربها و سيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها عن ابن عباس في رواية أخرى و قال أبو جعفر (عليه السلام) هم أصحاب المهدي (عليه السلام) في آخر الزمان و يدل على ذلك ما رواه الخاص و العام عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث رجلا صالحا من أهل بيتي يملأ الأرض عدلا و قسطا كما قد ملئت ظلما و جورا و قد أورد الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي في كتاب البعث و النشور أخبارا كثيرة في هذا المعنى حدثنا بجميعها عنه حافده أبو الحسن عبيد الله بن محمد بن أحمد في شهور سنة ثماني عشرة و خمسمائة ثم قال في آخر الباب فأما الحديث الذي أخبرنا أبو عبد الله الحافظ بالإسناد عن محمد بن خالد الجندي عن أبان بن صالح عن الحسن عن أنس بن مالك أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لا يزداد الأمر إلا شدة و لا الناس إلا شحا و لا الدنيا إلا إدبارا و لا تقوم الساعة إلا على أشرار الناس و لا مهدي إلا عيسى بن مريم فهذا حديث تفرد به محمد بن خالد الجندي قال أبو عبد الله الحافظ و محمد بن خالد رجل مجهول و اختلف عليه في إسناده فرواه مرة عن أبان بن صالح عن الحسن عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و مرة عن أبان بن أبي عياش و هو متروك عن الحسن عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو منقطع و الأحاديث في التنصيص على خروج المهدي (عليه السلام) أصح إسنادا و فيها بيان كونه من عترة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا لفظه و من جملتها ما حدثنا أبو الحسن حافده عنه قال أخبرنا أبو علي الروذباري قال أخبرنا أبو بكر بن داسة قال حدثنا أبو داود السجستاني في كتاب السنن عن طرق كثيرة ذكرها ثم قال كلهم عن عاصم المقري عن زيد عن عبد الله عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلا مني أو من أهل بيتي و في بعضها يواطىء اسمه اسمي يملأ الأرض قسطا و عدلا كما

ملئت ظلما و جورا و بالإسناد قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن إبراهيم قال حدثني عبد الله بن جعفر الرقي قال حدثني أبو المليح الحسن بن عمر عن زياد بن بيان عن علي بن نفيل عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة قالت سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول المهدي من عترتي من ولد فاطمة (عليها السلام) «إن في هذا» يعني إن في الذي أخبرناكم به مما توعدنا به الكفار من النار و الخلود فيها و ما وعدنا به المؤمنين من الجنة و الكون فيها و قيل معناه إن في هذا القرآن و دلائله «لبلاغا» أي كفاية و وصلة إلى البغية و البلاغ سبب الوصول إلى الحق «لقوم عابدين» لله مخلصين له قال كعب هم أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الذين يصلون الصلوات الخمس و يصومون شهر رمضان سماهم عابدين «و ما أرسلناك» يا محمد «إلا رحمة للعالمين» أي نعمة عليهم قال ابن عباس رحمة للبر و الفاجر و المؤمن و الكافر فهو رحمة للمؤمن في الدنيا و الآخرة و رحمة للكافر بأن عوفي مما أصاب الأمم من الخسف و المسخ و روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لجبرائيل لما نزلت هذه الآية هل أصابك من هذه الرحمة شيء قال نعم إني كنت أخشى عاقبة الأمر فآمنت بك لما أثنى الله علي بقوله ذي قوة عند ذي العرش مكين و قد قال إنما أنا رحمة مهداة و قيل إن الوجه في أنه نعمة على الكافر أنه عرضه للإيمان و الثواب الدائم و هداه و إن لم يهتد كمن قدم الطعام إلى جائع فلم يأكل فإنه منعم عليه و إن لم يقبل و في الآية دلالة على بطلان قول أهل الجبر في أنه ليس لله على الكافر نعمة لأنه سبحانه بين أن في إرسال محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) نعمة على العالمين و على كل من أرسل إليهم ثم قال له (عليه السلام) «قل إنما يوحى إلي إنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون» أي مستسلمون منقادون لذلك بأن تتركوا عبادة غير الله و قيل معناه الأمر أي أسلموا كقوله «فهل أنتم منتهون» أي انتهوا «فإن تولوا» أي أعرضوا و لم يسلموا «فقل آذنتكم» أي أعلمتكم بالحرب «على سواء» أي إيذانا على سواء إعلاما نستوي نحن و أنتم في علمه لا استيذانا به دونكم لتتأهبوا لما يراد بكم و مثله قوله فانبذ إليهم على سواء و قيل معناه أعلمتكم بما يجب الإعلام به على سواء في الإيذان لم أبين الحق لقوم دون قوم و لم أكتمه لقوم دون قوم و في هذا دلالة على بطلان قول أصحاب الرموز و إن للقرآن بواطن خص بالعلم بها أقوام «و أن أدري» أي و ما أدري «أ قريب أم بعيد ما توعدون» يعني أجل يوم القيامة فإن الله تعالى هو العالم بذلك و قيل معناه أذنتكم بالحرب و لا أدري متى أوذن فيه «إنه يعلم الجهر من القول و يعلم ما تكتمون» أي إن الله يعلم السر و العلانية «و إن أدري» أي و ما أدري «لعله» كناية عن غير مذكور «فتنة لكم» أي لعل ما أذنتكم به اختيار لكم و شدة تكليف ليظهر صنيعكم عن الزجاج و قيل لعل

هذه الدنيا فتنة لكم عن الحسن و قيل لعل تأخير العذاب محنة و اختبار لكم لترجعوا عما أنتم عليه «و متاع إلى حين» أي تتمتعون به إلى وقت انقضاء آجالكم «قل رب احكم بالحق» أي فوض أمورك يا محمد إلى الله و قل يا رب احكم بيني و بين من كذبني بالحق قال قتادة كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا شهد قتالا قال رب احكم بالحق أي افصل بيني و بين المشركين بما يظهر به الحق للجميع و قيل معناه أحكم بحكمك الحق و هو إظهار الحق على الباطل «و ربنا الرحمن» الذي يرحم عباده «المستعان» الذي يعينهم في أمورهم فجمع بين الرحمة و المعونة اللتين تضمنتا أصول النعم «على ما تصفون» من كذبكم و باطلكم في قولكم هل هذا إلا بشر مثلكم و قولكم اتخذ الرحمن ولدا و قيل معناه و ربنا الرحمن المستعان على دفع ما تصفون.

العودة إلى القائمة

النهاية