الميزان في تفسير القرآن

سورة التوبة

38 - 48

تابع
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)

في الدر المنثور،: في قوله تعالى: «إلا تنصروه فقد نصره الله» الآية: أخرج ابن مردويه و أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال: لما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الليل لحق بغار ثور قال: و تبعه أبو بكر فلما سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حسه خلفه خاف أن يكون الطلب فلما رأى ذلك أبو بكر تنحنح فلما سمع ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عرفه فقام له حتى تبعه فأتيا الغار. فأصبحت قريش في طلبه فبعثوا إلى رجل من قافة بني مدلج فتبع الأثر حتى انتهى إلى الغار و على بابه شجرة فبال في أصلها القائف ثم قال: ما جاز صاحبكم الذي تطلبون هذا المكان قال فعند ذلك حزن أبو بكر فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تحزن إن الله معنا. قال: فمكث هو و أبو بكر في الغار ثلاثة أيام يختلف إليهم بالطعام عامر بن فهيرة و علي يجهزهم فاشتروا ثلاثة أباعر من إبل البحرين و استأجر لهم دليلا فلما كان بعض الليل من الليلة الثالثة أتاهم علي بالإبل و الدليل فركب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) راحلته و ركب أبو بكر أخرى فتوجهوا نحو المدينة، و قد بعثت قريش في طلبه. و فيه، أخرج ابن سعد عن ابن عباس و علي و عائشة بنت أبي بكر و عائشة بنت قدامة و سراقة بن جعشم دخل حديث بعضهم في بعض قالوا: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و القوم جلوس على بابه فأخذ حفنة من البطحاء فجعل يذرها على رءوسهم و يتلو: «يس و القرآن الحكيم» الآيات و مضى. فقال لهم قائل ما تنتظرون؟ قالوا: محمدا. قال: قد و الله مر بكم قالوا: و الله ما أبصرناه و قاموا ينفضون التراب من رءوسهم، و خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أبو بكر إلى غار ثور فدخلاه و ضربت العنكبوت على بابه بعشاش بعضها على بعض. و طلبته قريش أشد الطلب حتى انتهوا إلى باب الغار فقال بعضهم: إن عليه لعنكبوتا قبل ميلاد محمد. و في إعلام الورى،: في حديث سراقة بن جعشم مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: الذي اشتهر في العرب يتقاولون فيه الأشعار و يتفاوضونه في الديار أنه تبعه و هو متوجه إلى المدينة طالبا لغرته (صلى الله عليه وآله وسلم) ليحظى بذلك عند قريش، حتى إذا أمكنته الفرصة في نفسه و أيقن أن قد ظفر ببغيته ساخت قوائم فرسه حتى تغيبت بأجمعها في الأرض و هو بموضع جدب و قاع صفصف فعلم أن الذي أصابه أمر سماوي فنادى يا محمد: ادع ربك يطلق لي فرسي و ذمة الله أن لا أدل عليك أحدا، فدعا له فوثب جواده كأنه أفلت من أنشوطة و كان رجلا داهية، و علم بما رأى أنه سيكون له نبأ فقال: اكتب لي أمانا فكتب له و انصرف. قال محمد بن إسحاق: إن أبا جهل قال في أمر سراقة أبياتا فأجابه سراقة نظما: أبا حكم و اللات لو كنت شاهدا. لأمر جوادي إذ تسيخ قوائمه. عجبت و لم تشكك بأن محمدا. نبي ببرهان فمن ذا يكاتمه؟. عليك بكف الناس عنه فإنني. أرى أمره يوما ستبدو معالمه: أقول: و رواه في الكافي، بإسناده عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام)، و في الدر المنثور، بعدة طرق، و أورده الزمخشري في ربيع الأبرار. و في الدر المنثور، أخرج ابن سعد و ابن مردويه عن ابن مصعب قال: أدركت أنس بن مالك و زيد بن أرقم و المغيرة بن شعبة فسمعتهم يتحدثون: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة الغار أمر الله شجرة فنبتت في وجه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فسترته، و أمر الله العنكبوت فنسجت في وجه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فسترته و أمر الله حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار. و أقبل فتيان قريش من كل بطن رجل بعصيهم و أسيافهم و هراويهم حتى إذا كانوا من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قدر أربعين ذراعا فعجل بعضهم فنظر في الغار فرجع إلى أصحابه فقالوا: ما لك لم تنظر في الغار؟ فقال: رأيت حمامتين بفم الغار فعرفت أن ليس فيه أحد. الحديث.

و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و ابن المنذر عن الزهري: في قوله: «إذ هما في الغار» قال: الغار الذي في الجبل الذي يسمى ثورا.

أقول: و قد استفاضت الروايات بكون الغار المذكور في القرآن الكريم هو غار جبل ثور، و هو على أربعة فراسخ من مكة تقريبا.

و في إعلام الورى، و قصص الأنبياء،: و بقي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الغار ثلاثة أيام ثم أذن الله تعالى له بالهجرة، و قال: اخرج من مكة يا محمد فليس لك بها ناصر بعد أبي طالب فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). و أقبل راع لبعض قريش يقال له: ابن أريقط فدعاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له: يا ابن أريقط آتمنك على دمي؟ فقال: إذن و الله أحرسك و أحفظك و لا أدل عليك، فأين تريد يا محمد؟ قال: يثرب. قال: لأسلكن بك مسلكا لا يهتدي فيها أحد فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ائت عليا و بشره بأن الله قد أذن لي في الهجرة فهيىء لي زادا و راحلة. و قال له أبو بكر: ائت أسماء ابنتي و قل لها: تهيئي لي زادا و راحلتين، و أعلم عامر بن فهيرة أمرنا، و كان من موالي أبي بكر و كان قد أسلم، و قل له: ائتنا بالزاد و الراحلتين. فجاء ابن أريقط إلى علي (عليه السلام) فأخبره بذلك فبعث علي بن أبي طالب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بزاد و راحلة، و بعث ابن فهيرة بزاد و راحلتين، و خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الغار و أخذ به ابن أريقط على طريق نخلة بين الجبال فلم يرجعوا إلى الطريق إلا بقديد فنزلوا على أم معبد هناك. قال: و قد كانت الأنصار بلغهم خروج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إليهم و كانوا يتوقعون قدومه إلى أن وافى مسجد قبا و نزل فخرج الرجال و النساء يستبشرون بقدومه.

أقول: و الأخبار في تفاصيل قصص الهجرة بالغة في الكثرة رواها أصحاب النقل و أرباب السير من الشيعة و أهل السنة، و هي على كثرتها متدافعة مضطربة لا يسع نقدها و استخراج الصافي منها مجال هذا الكتاب، و للدلالة على إجمال القصة فيما أوردناه كفاية و هو كالمتفق عليه بين أخبار الفريقين.

و في الدر المنثور، أخرج خيثمة بن سليمان الطرابلسي في فضائل الصحابة و ابن عساكر عن علي بن أبي طالب قال: إن الله ذم الناس كلهم و مدح أبا بكر فقال: إلا تنصروه فقد نصره الله - إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار - إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا.

أقول: نقد البحث في مضامين الآيات الحافة بالقصة و ما ينضم إليها من النقل الصحيح يوجب سوء الظن بهذه الرواية فإن الآيات التي تذم المؤمنين - أو الناس كلهم كما في الرواية - و إليها تشير آية الغار بما فيها من قوله: «إلا تنصروه» هي قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض» الآية، و النقل القطعي يدل على أن التثاقل المذكور لم يكن من عامة المؤمنين و جميعهم، و إن كثيرا منهم سارع إلى إجابة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما أمر به من النفر، و إنما تثاقل جماعة من الناس من مؤمن و منافق.

فخطاب «يا أيها الذين آمنوا» الشامل لجميع المؤمنين، و الذم المتعقب له إنما هو من خطاب الجماعة بشأن بعضهم كخطاب اليهود بقوله: «فلم تقتلون أنبياء الله:» البقرة: - 91 و غيره، و هو كثير في القرآن غير أن ديدن القرآن في مثل هذه الموارد أن لا يضيع حق الصالحين و لا أجر المحسنين أعني الأقلين الذين تعمهم أمثال هذه الخطابات العامة بالذم و التوبيخ فيتدارك أمرهم و يستثنيهم و يذكرهم بالجميل كما فعل ذلك فيما سيأتي في هذه السورة من الآيات المادحة للمؤمنين الشاكرة لجميل مساعيهم بقوله: «و المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض» الآية، و غيره.

و إذا كانت الآيات - و قد نزلت في غزوة تبوك - تعم المؤمنين جميعا المسارعين في الخروج و المتثاقلين فيه من غير استثناء فهي تشمل عامة الصحابة و المؤمنين و فيهم أبو بكر نفسه غير أنه تعالى تدارك ما لحق بالمسارعين في الطاعة و الإجابة منهم في آيات تالية و شكر سعيهم.

فلو كان قوله في الآية: «إلا تنصروه» و هو يشير إلى ما تقدم من حديث التثاقل و يومىء إليه ذما للناس كلهم كان ذما لأبي بكر كما هو ذم لغيره بعدم نصرتهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو تثاقلهم في نصره، و مع ذلك لا تسمح الآية بالدلالة على نصر أبي بكر له (صلى الله عليه وآله وسلم) بما فيها من قوله: «فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا» بل لو دل لدل على نصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي بكر حيث طيب قلبه و سلاه بقوله: «لا تحزن إن الله معنا».

على أنك قد عرفت في البيان السابق أن الآية بمقتضى المقام لا تتعرض إلا لنصر الله سبحانه وحده نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعينه و شخصه، قبال ما يفرض من عدم نصر كافة المؤمنين له و خذلانهم إياه فدلالة الآية على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الغار لم ينصره إلا الله سبحانه وحده دلالة قطعية.

و هذا المعنى في نفسه أدل شاهد على أن الضمائر في تتمة جمل الآية: «فأنزل الله سكينته عليه و أيده بجنود لم تروها و جعل كلمة الذين كفروا السفلى و كلمة الله هي العليا» للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و الجمل مسوقة لبيان قيامه تعالى وحده بنصره نصرا عزيزا غيبيا لا صنع فيه لأحد من الناس، و هو إنزال السكينة عليه و تأييده بجنود غائبة عن الأبصار، و جعل كلمة الذين كفروا السفلى و إعلاء كلمة الحق و الله عزيز حكيم.

و أما غير نصره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المناقب التي يمدح الإنسان عليها فلو كان هناك شيء من ذلك لكان هو ما في قوله: «ثاني اثنين» و ما في قوله: «لصاحبه» فلنسلم أن كون الإنسان ثانيا لاثنين أحدهما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و كونه صاحبا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مذكورا في القرآن بالصحبة من المفاخر التي يتنفس لها لكنها من المناقب الاجتماعية التي تقدر لها في المجتمعات قيمة و نفاسة، و أما القرآن الكريم فللقيمة فيه ملاك آخر، و للفضل و الشرف في منطقه معنى آخر متكىء على حقيقة هي أعلى من المقاصد الوضعية الاجتماعية، و هي كرامة العبودية و درجات القرب و الزلفى.

و مجرد الصحابة الجسمانية و الدخول في العدد لا يدل على شيء من ذلك، و قد تكرر في كلامه تعالى أن التسمي بمختلف الأسماء و التلبس بما يتنفس فيه عامة الناس و يستعظمه النظر الاجتماعي لا قيمة له عند الله سبحانه، و أن الحساب على ما في القلوب دون ما يتراءى من ظواهر الأعمال و تقدمة الأحساب و الأنساب.

و قد أفصح عنه في مورد أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و ملازميه خاصة بأبلغ الإفصاح قوله تعالى: «محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا - إلى أن قال - وعد الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات منهم مغفرة و أجرا عظيما:» الفتح: - 29 فانظر إلى ما في صدر الآية من المدح و ما في ذيله من القيد و تدبر.

هذه نبذة مما يتعلق بالآية و الرواية من البحث، و الزائد على هذا المقدار يخرجنا من البحث التفسيري إلى البحث الكلامي الذي هو خارج عن غرضنا.

و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل و ابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس: في قوله: «فأنزل الله سكينته عليه» قال: على أبي بكر لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يزل السكينة معه. و فيه، أخرج الخطيب في تاريخه عن حبيب بن أبي ثابت: «فأنزل الله سكينته عليه» قال: على أبي بكر فأما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد كانت عليه السكينة.

أقول: قد حقق فيما تقدم أن الضمير راجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما يهدي إليه السياق، و الروايتان على ما بهما من الوقف ضعيفتان، و لا حجية لقول ابن عباس و لا حبيب لغيرهما.

و أما الحجة التي أورداهما فيهما و هي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم تزل السكينة معه فمدخولة يدفعها قوله تعالى في قصة حنين: «ثم أنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين» الآية: التوبة: - 26 و نظيرته آية سورة الفتح المشيرة إلى قصة الحديبية و هما تصرحان بنزول السكينة عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) في خصوص المورد فليكن الأمر على تلك الوتيرة في الغار.

و كان بعضهم أحس بالإشكال فحمل قولهما في الروايتين: أن السكينة لم تزل مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على معنى آخر و هو كون السكينة ملازمة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الغار فيكون قرينة على كون التي نزلت فيه إنما نزلت على صاحبه دونه، و لعل رواية حبيب أقرب دلالة على ما ذكره.

قال بعد إيراد رواية ابن عباس ثم رواية حبيب: و قد أخذ بهذه الرواية بعض مفسري اللغة و المعقول و وضحوا ما فيها من التعليل بأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يحدث له وقتئذ اضطراب و لا خوف و لا حزن، و قواها بعضهم بأن الأصل في الضمير أن يعود إلى أقرب مذكور.

و ليس هذا بشيء.

و ذهب آخرون إلى أن الضمير يعود إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أن إنزال السكينة عليه لا يقتضي أن يكون خائفا أو مضطربا أو منزعجا.

و هذا ضعيف لعطف إنزال السكينة على ما قبلها الدال على وقوعه بعده و ترتبه عليه، و أن نزولها وقع بعد قوله لصاحبه: لا تحزن.

انتهى.

أما ما ذكروه من عدم طرو خوف و اضطراب عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقتئذ فإن كانوا استفادوه من عدم ذكر شيء من ذلك في الآية أو في رواية معتمد عليها فكلامه تعالى في قصة حنين و الحديبية أيضا خال عن ذكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بخوف أو حزن أو اضطراب، و لم ترد رواية معتمد عليها تدل على ذلك فكيف استقام ذكر نزول السكينة عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهما؟.

و إن قالوا باستلزام إنزال السكينة الاضطراب و الخوف و الحزن فهو ممنوع كما تقدم كيف؟ و نزول نعمة من النعم الإلهية لا يتوقف على سبق الاتصاف بحالة مضادة لها و نقمة مقابلة لها كنزول الرحمة بعد الرحمة و النعمة بعد النعمة و الإيمان و الهداية بعد الإيمان و الهداية و غير ذلك، و قد نص القرآن الكريم بأمور كثيرة من هذا القبيل.

و أما قوله: إن رجوع الضمير إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ضعيف لعطف إنزال السكينة على ما قبلها الدال على وقوعه بعده و ترتبه عليه و أن نزولها وقع بعد قوله لصاحبه: لا تحزن.

انتهى.

ففيه: أنه لا ريب أن فاء التفريع تدل على ترتب ما بعدها على ما قبلها و وقوعه بعده لكن بعدية رتبية لا بعدية زمانية و لم يقل أحد بوجوب كونها زمانية دائما.

فمن الواجب فيما نحن فيه أن يترتب قوله: «فأنزل الله سكينته عليه و أيده» على ما تقدم عليه من الكلام لا على ما هو أقرب إليه من غيره إلا على القول بأن الأصل في الضمير أن يعود إلى أقرب مذكور، و قد ضعفه في سابق كلامه.

و الذي يصلح من سابق ليتعلق به التفريع المذكور هو قوله: فقد نصره الله في كذا و كذا وقتا و تفرع هذه الفروع عليه من قبيل تفرع التفصيل على الإجمال و السياق على استقامته: «فقد نصره الله في وقت كذا فأنزل سكينته عليه و أيده بجنود لم تروها و جعل كلمة الذين كفروا السفلى.

فظهر أن ما أجاب به أخيرا هو عين ما ضعفه أولا من حديث أصل قرب المرجع من الضمير - ذاك الأصل الذي لا أصل له - كرره ثانيا بتغيير ما في اللفظ.

و من هنا يظهر جهة المناقشة في رواية أخرى رواها في الدر المنثور، عن ابن مردويه عن أنس بن مالك «قال: دخل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أبو بكر غار حراء فقال أبو بكر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لو أن أحدهم يبصر موضع قدمه لأبصرني و إياك فقال: ما ظنك باثنين الله ثالثهما إن الله أنزل سكينته عليك و أيدني بجنود لم تروها.

على أن الرواية تذكر غار حراء و قد ثبت بالمستفيض المتكاثر من الأخبار أن الغار كان غار ثور لا غار حراء.

على أن الرواية مشتملة على تفكيك السياق صريحا بما فيها من قوله: أنزل سكينته عليك و أيدني بجنود، إلخ.

و قد أورد الآلوسي في روح المعاني، الرواية هكذا: «إن الله أنزل سكينته عليك و أيدك بجنود لم تروها، فأرجع الضميرين إلى أبي بكر دون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و لا ندري أي اللفظين هو الأصل و أيهما المحرف غير أنه يضاف على رواية «و أيدك بجنود لم تروها» إلى ما ذكر من الإشكال آنفا إشكالات أخرى تقدمت في البيان السابق مضافا إلى إشكال آخر جديد من جهة قوله: «لم تروها» بخطاب الجمع و لا مخاطب يومئذ جمعا.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «لو كان عرضا قريبا و سفرا قاصدا»: في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: «لو كان عرضا قريبا و سفرا قاصدا» يقول: غنيمة قريبة «لاتبعوك». و في تفسير العياشي، عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم، عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله: «لو كان عرضا قريبا و سفرا قاصدا لاتبعوك» الآية إنهم يستطيعون و قد كان في علم الله أنه لو كان عرضا قريبا و سفرا قاصدا لفعلوا: أقول: و رواه الصدوق في المعاني، بإسناده عن عبد الأعلى بن أعين عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي