الميزان في تفسير القرآن

سورة التوبة

38 - 48

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)

بيان

تعرض للمنافقين و فيه بيان لجمل أوصافهم و علائمهم، و شرح ما لقي الإسلام و المسلمون من كيدهم و مكرهم و ما قاسوه من المصائب من جهة نفاقهم، و في مقدمها عتاب المؤمنين في تثاقلهم عن الجهاد، و حديث خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من مكة و ذكر الغار.

قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض» الآية اثاقلتم أصله تثاقلتم على وزان اداركوا و غيره، و كأنه أشرب معنى الميل و نحوه فعدي بإلى و قيل: اثاقلتم إلى الأرض أي ملتم إلى الأرض متثاقلين أو تثاقلتم مائلين إلى الأرض و المراد بالنفر في سبيل الله الخروج إلى الجهاد.

و قوله: «أ رضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة» كان الرضا أشرب معنى القناعة فعدي بمن كما يقال: رضيت من المال بطيبه، و رضيت من القوم بخلة فلان، و على هذا ففي الكلام نوع من العناية المجازية كأن الحياة الدنيا نوع حقير من الحياة الآخرة قنعوا بها منها، و يشعر بذلك قوله بعده: «فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل».

فمعنى الآية: يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قال لكم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - لم يصرح باسمه صونا و تعظيما - اخرجوا إلى الجهاد أبطأتم كأنكم لا تريدون الخروج أقنعتم بالحياة الدنيا راضين بها من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا بالنسبة إلى الحياة الآخرة إلا قليل.

و في الآية و ما يتلوها عتاب شديد للمؤمنين و تهديد عنيف و هي تقبل الانطباق على غزوة تبوك كما ورد ذلك في أسباب النزول.

قوله تعالى: «إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما و يستبدل قوما غيركم» إلى آخر الآية العذاب الذي أنذروا به مطلق غير مقيد فلا وجه لتخصيصه بعذاب الآخرة بل هو على إبهامه، و ربما أيد السياق كون المراد به عذاب الدنيا أو عذاب الدنيا و الآخرة جميعا.

و قوله: «يستبدل قوما غيركم» أي يستبدل بكم قوما غيركم لا يتثاقلون في امتثال أوامر الله و النفر في سبيل الله إذا قيل لهم: انفروا، و الدليل على هذا المعنى قرينة المقام.

و قوله: «و لا تضروه شيئا» إشارة إلى هوان أمرهم على الله سبحانه لو أراد أن يذهب بهم و يأتي بآخرين فإن الله لا ينتفع بهم بل نفعهم لأنفسهم فضررهم على أنفسهم، و قوله: «و الله على كل شيء قدير» تعليل لقوله: «يعذبكم عذابا أليما و يستبدل قوما غيركم».

قوله تعالى: «إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار» ثاني اثنين أي أحدهما، و الغار الثقبة العظيمة في الجبل، و المراد به غار جبل ثور قرب مني و هو غير غار حراء الذي ربما كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يأوي إليه قبل البعثة للأخبار المستفيضة، و المراد بصاحبه هو أبو بكر للنقل القطعي.

و قوله: «إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا» أي لا تحزن خوفا مما تشاهده من الوحدة و الغربة و فقد الناصر و تظاهر الأعداء و تعقيبهم إياي فإن الله سبحانه معنا ينصرني عليهم.

و قوله: «فأنزل الله سكينته عليه و أيده بجنود لم تروها» أي أنزل الله سكينته على رسوله و أيد رسوله بجنود لم تروها يصرفون القوم عنهم بوجوه من الصرف بجميع العوامل التي عملت في انصراف القوم عن دخول الغار و الظفر به (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قد روي في ذلك أشياء ستأتي في البحث الروائي إن شاء الله تعالى.

و الدليل على رجوع الضمير في قوله: «فأنزل الله سكينته عليه» إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أولا: رجوع الضمائر التي قبله و بعده إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) كقوله: «إلا تنصروه» و «نصره» و «أخرجه» و «يقول» و «لصاحبه» و «أيده» فلا سبيل إلى رجوع ضمير «عليه» من بينها وحده إلى غيره من غير قرينة قاطعة تدل عليه.

و ثانيا: أن الكلام في الآية مسوق لبيان نصر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث لم يكن معه أحد ممن يتمكن من نصرته إذ يقول تعالى: «إلا تنصروه فقد نصره الله إذ» الآية و إنزال السكينة و التقوية بالجنود من النصر فذاك له (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة.

و يدل على ذلك تكرار «إذ» و ذكرها في الآية ثلاث مرات كل منها بيان لما قبله بوجه فقوله «إذ أخرجه الذين كفروا» بيان لوقت قوله: «فقد نصره الله» و قوله: «إذ هما في الغار» بيان لتشخيص الحال الذي هو قوله: «ثاني اثنين» و قوله: «إذ يقول لصاحبه» بيان لتشخيص الوقت الذي يدل عليه قوله: «إذ هما في الغار».

و ثالثا: أن الآية تجري في سياق واحد حتى يقول: «و جعل كلمة الذين كفروا السفلى و كلمة الله هي العليا» و لا ريب أنه بيان لما قبله، و أن المراد بكلمة الذين كفروا هي ما قضوا به في دار الندوة و عزموا عليه من قتله (صلى الله عليه وآله وسلم) و إطفاء نور الله، و بكلمة الله هي ما وعده من نصره و إتمام نوره، و كيف يجوز أن يفرق بين البيان و المبين و جعل البيان راجعا إلى نصره تعالى إياه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و المبين راجعا إلى نصره غيره.

فمعنى الآية: إن لم تنصروه أنتم أيها المؤمنون فقد أظهر الله نصره إياه في وقت لم يكن له أحد ينصره و يدفع عنه و قد تظاهرت عليه الأعداء و أحاطوا به من كل جهة و ذلك إذ هم المشركون به و عزموا على قتله فاضطر إلى الخروج من مكة في حال لم يكن إلا أحد رجلين اثنين، و ذلك إذ هما في الغار إذ يقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لصاحبه و هو أبو بكر: لا تحزن مما تشاهده من الحال إن الله معنا بيده النصر فنصره الله.

حيث أنزل سكينته عليه و أيده بجنود غائبة عن أبصاركم، و جعل كلمة الذين كفروا - و هي قضاؤهم بوجوب قتله و عزيمتهم عليه - كلمة مغلوبة غير نافذة و لا مؤثرة، و كلمة الله - و هي الوعد بالنصر و إظهار الدين و إتمام النور - هي العليا العالية القاهرة و الله عزيز لا يغلب حكيم لا يجهل و لا يغلط في ما شاءه و فعله.

و قد تبين مما تقدم أولا أن قوله: «فأنزل الله سكينته عليه» متفرع على قوله: «فقد نصره الله» في عين أنه متفرع على قوله: «إذ يقول لصاحبه لا تحزن» فإن الظرف ظرف للنصرة على ما تقدم، و الكلام مسوق لبيان نصره تعالى إياه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا غيره فالتفريع تفريع على الظرف بمظروفه الذي هو قوله: «فقد نصره الله» لا على قوله: «يقول لصاحبه لا تحزن».

و ربما استدل لذلك بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يزل على سكينة من ربه فإنزال السكينة في هذا الظرف خاصة يكشف عن نزوله على صاحبه.

و يدفعه أولا قوله تعالى: «ثم أنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين» في قصة حنين، و القول بأن نفسه الشريفة اضطربت بعض الاضطراب في وقعة حنين فناسب نزول السكينة بخلاف الحال في الغار.

يدفعه أنه من الافتعال بغير علم فالآية لا تذكر منه (صلى الله عليه وآله وسلم) حزنا و لا اضطرابا و لا غير ذلك إلا ما تذكر من فرار المؤمنين.

على أنه يبطل أصل الاستدلال أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يزل على سكينة من ربه لا يتجدد له شيء منها فكيف جاز له أن يضطرب في حنين فتنزل عليه سكينة جديدة اللهم إلا أن يريدوا به أنه لم يزل في الغار كذلك.

و نظيرتها الآية الناطقة بنزول السكينة عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) و على المؤمنين في سورة الفتح: «إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين:» الفتح: - 26.

و يدفعه ثانيا: لزوم تفرع قوله: «و أيده بجنود لم تروها» على أثر تفرع قوله: «فأنزل الله سكينته عليه» لأنهما في سياق واحد، و لازمه عدم رجوع التأييد بالجنود إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) أو التفكيك في السياق الواحد من غير مجوز يجوزه.

و ربما التزم بعضهم - فرارا من شناعة لزوم التفكيك - أن الضمير في قوله تعالى: «و أيده» أيضا راجع إلى صاحبه، و لازمه كون إنزال السكينة و التأييد بالجنود عائدين إلى أبي بكر دون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و ربما أيده بعض آخر بأن الوقائع التي تذكر الآيات فيها نزول جنود لم يروها كوقعة حنين و الأحزاب و كذا نزول الملائكة لوقعة بدر و إن لم تذكر نزولهم على المؤمنين و لم تصرح بتأييدهم بهم لكنهم حيث كانوا إنما نزلوا للنصر و فيه نصر المؤمنين و إمدادهم فلا مانع من القول بأن الجنود التي لم يروها إنما أيدت أبا بكر، و تأييدهم المؤمنين جميعا أو أبا بكر خاصة تأييد منهم في الحقيقة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و الأولى على هذا البيان أن يجعل الفرع الثالث الذي هو قوله: «و جعل كلمة الذين كفروا السفلى» الآية مترتبا على ما تقدمه من الفرعين لئلا يلزم التفكيك في السياق.

و لا يخفى عليك أن هذا الذي التزموا به يخرج الآية عن مستقر معناها الوحداني إلى معنى متهافت الأطراف يدفع آخره أوله، و ينقض ذيله صدره فقد بدئت الآية بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أكرم على الله و أعز من أن يستذله و يحوجه إلى نصرة هؤلاء بل هو تعالى وليه القائم بنصره حيث لم يكن أحد من هؤلاء الحافين حوله المتبعين أثره ثم إذا شرعت في بيان نصره تعالى إياه بين نصره غيره بإنزال السكينة عليه و تأييده بجنود لم يروها إلى آخر الآية.

هب أن نصره تعالى بعض المؤمنين به (صلى الله عليه وآله وسلم) أو جميعهم نصر منه له بالحقيقة لكن الآية في مساق يدفعه البتة فإن الآية السابقة يجمع المؤمنين في خطاب واحد - يا أيها الذين آمنوا - و يعاتبهم و يهددهم على التثاقل عن إجابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ما أمرهم به من النفر في سبيل الله و الخروج إلى الجهاد ثم الآية الثانية تهددهم بالعذاب و الاستبدال إن لم ينفروا و تبين لهم أن الله و رسوله في غنى عنهم و لا يضرونه شيئا، ثم الآية الثالثة توضح أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في غنى عن نصرهم لأن ربه هو وليه الناصر له، و قد نصره حيث لم يكن لأحد منهم صنع فيه و هو نصره إياه إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا.

و من البين الذي لا مرية فيه أن مقتضى هذا المقام بيان نصره (صلى الله عليه وآله وسلم) الخاص به المتعلق بشخصه من الله سبحانه خاصة من دون صنع لأحد من المؤمنين في ذلك لا بيان نصره إياه بالمؤمنين أو ببعضهم و قد جمعهم في خطاب المعاتبة، و لا بيان نصره بعض المؤمنين به ممن كان معه.

و لا أن المقام مقام يصلح لأن يشار بقوله: «إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين» إشارة إجمالية إلى نصره العزيز لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم يؤخذ في تفصيل ما خص به صاحبه من الخصيصة بإنزال السكينة و التأييد بالجنود فإن المقام على ما تبين لك يأبى ذلك.

و يدفعه ثالثا: أن فيه غفلة عن حقيقة معنى السكينة و قد تقدم الكلام فيها في ذيل قوله تعالى: «ثم أنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين:» الآية: - 26 من السورة.

و الأمر الثاني: أن المراد بتأييده (صلى الله عليه وآله وسلم) بجنود لم يروها تأييده بذلك يومئذ على ما يفيده السياق، و أما قول بعضهم: إن المراد به ما أيده بالجنود يوم الأحزاب و يوم حنين على ما نطقت به الآيات فمما لا دليل عليه من اللفظ البتة.

و الأمر الثالث: أن المراد بالكلمة في قوله: «و جعل كلمة الذين كفروا السفلى، هو ما قضوا به في دار الندوة و عزموا عليه من قتله (صلى الله عليه وآله وسلم) و إبطال دعوته الحقة بذلك، و بقوله: «و كلمة الله هي العليا» هو ما وعد الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) من النصر و إظهار دينه على الدين كله.

و ذلك أن هذه الآية بما تتضمنه من قوله: «فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا» تشير إلى ما يقصه قوله تعالى: «و إذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك و يمكرون و يمكر الله و الله خير الماكرين: «الأنفال: - 30، و الذي في ذيل الآية من إبطال كلمتهم و إحقاق الكلمة الإلهية مرتبط بما في صدر الآية من حديث الإخراج أي الاضطرار إلى الخروج لا محالة، و الذي اضطره (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الخروج هو عزمهم على قتله حسب ما اتفقوا عليه من القضاء بقتله فهذه هي الكلمة التي أبطلها الله سبحانه و جعلها السفلى و تقابلها كلمة الله و ليست إلا النصر و الإظهار.

و من هنا يظهر أن قول بعضهم إن المراد بكلمة الذين كفروا الشرك و الكفر، و بكلمة الله تعالى التوحيد و الإيمان غير سديد فإن الشرك و إن كان كلمة لهم، و التوحيد كلمة لله لكنه لا يستلزم كونهما المرادين كلما ذكرت الكلمتان حتى مع وجود القرينة على الخلاف.

قوله تعالى: «انفروا خفافا و ثقالا و جاهدوا بأموالكم و أنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون» الخفاف و الثقال جمعا خفيف و ثقيل، و الثقل بقرينة المقام كناية عن وجود الموانع الشاغلة الصارفة للإنسان عن الخروج إلى الجهاد نظير كثرة المشاغل المالية و حب الأهل و الولد و الأقرباء و الأصدقاء الذي يوجب كراهة مفارقتهم، و فقد الزاد و الراحلة و السلاح و نحو ذلك، و الخفة كناية عن خلاف ذلك.

فالأمر بالنفر خفافا و ثقالا و هما حالان متقابلان في معنى الأمر بالخروج على أي حال، و عدم اتخاذ شيء من ذلك عذرا يعتذر به لترك الخروج كما أن الجمع بين الأموال و الأنفس في الذكر في معنى الأمر بالجهاد بأي وسيلة أمكنت.

و قد ظهر بذلك أن الأمر في الآية مطلق لا يأبى التقييد بالأعذار التي يسقط معها وجوب الجهاد كالمرض و العمى و العرج و نحو ذلك فإن المراد بالخفة و الثقل أمر وراء ذلك.

قوله تعالى: «لو كان عرضا قريبا و سفرا قاصدا لاتبعوك» إلى آخر الآية.

العرض ما يسرع إليه الزوال و يطلق على المال الدنيوي و هو المراد في الآية بقرينة السياق، و المراد بقربه كونه قريبا من التناول، و القاصد من القصد و هو التوسط في الأمر، و المراد بكون السفر قاصدا كونه غير بعيد المقصد سهلا على المسافر، و الشقة: المسافة لما في قطعها من المشقة.

و الآية كما يلوح من سياقها تعيير و ذم للمنافقين المتخلفين عن الخروج مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الجهاد في غزوة تبوك إذ الغزوة التي خرج فيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تخلف عنه المنافقون و هي على بعد من المسافة هي غزوة تبوك لا غيرها.

و معنى الآية: لو كان ما أمرتهم به و دعوتهم إليه عرضا قريب التناول و غنيمة حاضرة و سفرا قاصدا قريبا هينا لاتبعوك يا محمد و خرجوا معك طمعا في الغنيمة و لكن بعدت عليهم الشقة و المسافة فاستصعبوا السير و تثاقلوا فيه.

و سيحلفون بالله إذا رجعتم إليهم و لمتموهم على تخلفهم: لو استطعنا الخروج لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم بما أخذوه من الطريقة: من الخروج إلى القتال طمعا في عرض الدنيا إذا استيسروا القبض عليه، و التخلف عنه إذا شق عليهم ثم الاعتذار بالعذر الكاذب على نبيهم و الحلف في ذلك بالله كاذبين، أو يهلكون أنفسهم بهذا الحلف الكاذب، و الله يعلم إنهم لكاذبون.

قوله تعالى: «عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا و تعلم الكاذبين» الجملة الأولى دعاء للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعفو نظير الدعاء على الإنسان بالقتل في قوله: «قتل الإنسان ما أكفره:» عبس: - 17، و قوله: «فقتل كيف قدر»: المدثر: - 19 و قوله: «قاتلهم الله أنى يؤفكون:» التوبة: - 30.

و الجملة متعلقة بقوله: «لم أذنت لهم» أي في التخلف و القعود، و لما كان الاستفهام للإنكار أو التوبيخ كان معناه: كان ينبغي أن لا تأذن لهم في التخلف و القعود، و يستقيم به تعلق الغاية التي يشتمل عليها قوله: «حتى يتبين لك الذين صدقوا» الآية.

بقوله: «لم أذنت لهم» فالتعلق إنما هو بالمستفهم عنه دون الاستفهام و إلا أفاد خلاف المقصود، و الكلام مسوق لبيان ظهور كذبهم و أن أدنى الامتحان كالكف عن إذنهم في القعود يكشف عن فصاحتهم.

و معنى الآية: عفا الله عنك لم أذنت لهم في التخلف و القعود؟ و لو شئت لم تأذن لهم - و كانوا أحق به - حتى يتبين لك الذين صدقوا و تعلم الكاذبين فيتميز عندك كذبهم و نفاقهم.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي