الميزان في تفسير القرآن

سورة التوبة

29 - 35

تابع
قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35)

فالآية ناظرة إلى الكنز الذي يصاحبه الامتناع عن الإنفاق في الحقوق المالية الواجبة لا بمعنى الزكاة الواجبة فقط بل بمعنى يعمها و غيرها من كل ما يقوم عليه ضرورة المجتمع الديني من الجهاد و حفظ النفوس من الهلكة و نحو ذلك.

و أما الإنفاق المستحب كالتوسعة على العيال، و إعطاء المال و بذله على الفقراء في الزائد على ضرورة حياتهم فهو و إن أمكن أن يطلق عليه فيما عندنا الإنفاق في سبيل الله إلا أن نفس أدلته المبينة لاستحبابه تكشف عن أنه ليس من هذا الإنفاق في سبيل الله المذكور في هذه الآية فكنز المال و عدم إنفاقه إنفاقا مندوبا مع عدم سبيل ضروري ينفق فيه ليس من الكنز المنهي عنه في هذه الآية فهذا ما تدل عليه الآية الكريمة، و قد طال فيها - لما يتعلق بها من بعض الأبحاث الكلامية - المشاجرة بين المفسرين، و سنورد فيه كلاما بعد الفراغ عن البحث الروائي المتعلق بالآيات إن شاء الله تعالى.

و قوله في ذيل الآية: «فبشرهم بعذاب أليم» إيعاد بالعذاب يدل على تحريمه الشديد.

قوله تعالى: «يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم و جنوبهم و ظهورهم» إلى آخر الآية.

إحماء الشيء جعله حارا في الإحساس، و الإحماء عليه الإيقاد ليتسخن و الإحماء فوق التسخين، و الكي إلصاق الشيء الحار بالبدن.

و المعنى: أن ذلك العذاب المبشر به في يوم يوقد على تلك الكنوز في نار جهنم فتكون محماة بالنار فتلصق بجباههم و جنوبهم و ظهورهم و يقال لهم عند ذلك: «هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون»: فقد عاد عذابا عليكم تعذبون به.

و لعل تخصيص الجباه و الجنوب و الظهور لأنهم خضعوا لها و هو السجدة التي تكون بالجباه و لاذوا إليها و اللواذ بالجنوب، و اتكئوا عليها و الاتكاء بالظهور، و قيل غير ذلك و الله أعلم.

بحث روائي

في الكافي، بإسناده عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله (عليه السلام): في حديث الأسياف الذي ذكره عن أبيه قال: و أما السيوف الثلاثة المشهورة فسيف على مشركي العرب، قال الله عز و جل: «اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم». قال: و السيف الثاني على أهل الذمة قال الله عز و جل: «و قولوا للناس حسنا» نزلت هذه الآية في أهل الذمة ثم نسخها قوله عز و جل: «قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر - و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله - و لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب - حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون» فمن كان منهم في دار الإسلام فلن يقبل منه إلا الجزية أو القتل و مالهم فيء و ذراريهم سبي، و إذا قبلوا الجزية على أنفسهم حرم علينا سبيهم، و حرمت أموالهم، و حلت لنا مناكحتهم، و من كان منهم في دار الحرب حل لنا سبيهم و أموالهم و لم يحل مناكحتهم، و لم يقبل إلا الدخول في دار الإسلام أو الجزية أو القتل. و فيه، بإسناده عن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جرت السنة أن لا تؤخذ الجزية من المعتوه و لا من المغلوب على عقله. و فيه، بإسناده عن أبي يحيى الواسطي عن بعض أصحابنا قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن المجوس أ كان لهم شيء؟ فقال: نعم أ ما بلغك كتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أهل مكة: أن أسلموا و إلا نابذتكم بحرب فكتبوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أن خذ منا الجزية و دعنا على عبادة الأوثان. فكتب إليهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إني لست آخذ الجزية إلا من أهل الكتاب. فكتبوا إليه يريدون بذلك تكذيبه: زعمت أنك لا تأخذ الجزية إلا من أهل الكتاب ثم أخذت الجزية من مجوس هجر. فكتب إليهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن المجوس كان لهم نبي فقتلوه و كتاب أحرقوه. أتاهم نبيهم بكتابهم في اثني عشر ألف جلد ثور.

أقول: و في هذه المعاني روايات أخرى مودعة في جوامع الحديث و استيفاء الكلام في مسائل الجزية و الخراج و غيرهما في الفقه.

و في الدر المنثور، أخرج ابن عساكر عن أبي أمامة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: القتال قتالان: قتال المشركين حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون، و قتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله فإذا فاءت أعطيت العدل. و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و البيهقي في سننه عن مجاهد: في قوله: «قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله» الآية قال: نزلت هذه حين أمر محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و أصحابه بغزوة تبوك.

أقول: و قد تقدمت الروايات في ذيل آية المباهلة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أقر الجزية على نصارى نجران، و كان ذلك على ما دل عليه أمثل الروايات سنة ست من الهجرة قبل غزوة تبوك بسنين، و كذا دعوته (صلى الله عليه وآله وسلم) ملوك الروم و مصر و العجم و هم من أهل الكتاب كانت سنة ست.

و فيه، أخرج ابن أبي شيبة عن الزهري قال: أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الجزية من مجوس أهل هجر و من يهود اليمن و نصاراهم من كل حالم دينار. و فيه، أخرج مالك و الشافعي و أبو عبيد في كتاب الأموال و ابن أبي شيبة عن جعفر عن أبيه أن عمر بن الخطاب استشار الناس في المجوس في الجزية فقال عبد الرحمن بن عوف سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: سنوا بهم سنة أهل الكتاب. و فيه، أخرج عبد الرزاق في المصنف عن علي بن أبي طالب: أنه سئل عن أخذ الجزية من المجوس فقال: و الله ما على الأرض اليوم أحد أعلم بذلك مني إن المجوس كانوا أهل كتاب يعرفونه، و علم يدرسونه فشرب أميرهم الخمر فسكر فوقع على أخته فرآه نفر من المسلمين فلما أصبح قالت أخته: إنك قد صنعت بها كذا و كذا، و قد رآك نفر لا يسترون عليك فدعا أهل الطمع ثم قال لهم قد علمتم أن آدم (عليه السلام) قد أنكح بنيه بناته. فجاء أولئك الذين رأوه فقالوا: ويل للأبعد إن في ظهرك حد الله فقتلهم أولئك الذين كانوا عنده ثم جاءت امرأة فقالت له: بلى قد رأيتك فقال لها: ويحا لبغي بني فلان قالت: أجل و الله قد كانت بغية ثم تابت فقتلها، ثم أسري على ما في قلوبهم و على كتبهم فلم يصبح عندهم شيء. و في تفسير العياشي،: في قوله تعالى: «و قالت اليهود عزير ابن الله» الآية: عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اشتد غضب الله على اليهود حين قالوا: عزير ابن الله، و اشتد غضب الله على النصارى حين قالوا: المسيح ابن الله، و اشتد غضب الله على من أراق دمي و آذاني في عترتي. و في الدر المنثور، أخرج البخاري في تاريخه عن أبي سعيد الخدري قال: لما كان يوم أحد شج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في وجهه و كسرت رباعيته فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يومئذ رافعا يديه يقول: إن الله عز و جل اشتد غضبه على اليهود أن قالوا: عزير ابن الله و اشتد غضبه على النصارى أن قالوا المسيح ابن الله و إن الله اشتد غضبه على من أراق دمي و آذاني في عترتي.

أقول: و قد روي في الدر المنثور، و غيره عن ابن عباس و كعب الأحبار و السدي و غيرهم روايات في قصة عزير هي أشبه بالإسرائيليات، و الظاهر أن الجميع تنتهي إلى كعب.

و في الإحتجاج، للطبرسي عن علي (عليه السلام) قال: «قاتلهم الله أنى يؤفكون» أي لعنهم الله أنى يؤفكون فسمى اللعنة قتالا، و كذلك: «قتل الإنسان ما أكفره» أي لعن الإنسان: أقول: و روي ذلك من طرق أهل السنة عن ابن عباس و هو على أي حال تفسير يلازم المعنى لا بالمراد اللفظي.

و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: «اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله» فقال: أما و الله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، و لو دعوهم إلى عبادة أنفسهم ما أجابوهم، و لكن أحلوا لهم حراما و حرموا عليهم حلالا فعبدوهم من حيث لا يشعرون.

أقول: و روى هذا المعنى البرقي في المحاسن، و رواه العياشي في تفسيره عن أبي بصير و عن جابر جميعا عن أبي عبد الله (عليه السلام) و عن حذيفة، و رواه في الدر المنثور، عن عدة من أصحاب الطرق عن حذيفة.

و في تفسير القمي، قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: «اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله» قال: أما المسيح فبعض عظموه في أنفسهم حتى زعموا أنه إله و أنه ابن الله، و طائفة منهم قالوا: ثالث ثلاثة، و طائفة منهم قالوا: هو الله. و أما قوله: «أحبارهم و رهبانهم» فإنهم أطاعوا و أخذوا بقولهم، و اتبعوا ما أمروهم به، و دانوا بما دعوهم إليه فاتخذوهم أربابا بطاعتهم لهم و تركهم أمر الله و كتبه و رسله فنبذوه وراء ظهورهم، و ما أمرهم به الأحبار و الرهبان اتبعوهم و أطاعوهم و عصوا الله. الحديث.

و في تفسير البرهان، عن المجمع قال: و روى الثعلبي بإسناده عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و في عنقي صليب من ذهب فقال لي: يا عدي اطرح هذا الربق. و في تفسير البرهان، عن الصدوق بإسناده عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): في قوله عز و جل: «هو الذي أرسل رسوله بالهدى و دين الحق» الآية و الله ما نزل تأويلها بعد و لا ينزل تأويلها حتى يخرج القائم فإذا خرج القائم لم يبق كافر بالله و لا مشرك بالإمام إلا كره خروجه حتى لو كان الكافر في بطن صخرة قالت: يا مؤمن في بطني كافر فاكسرني و اقتله.

أقول: و روى ما في معناه العياشي عن أبي المقدام عن أبي جعفر (عليه السلام) و عن سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام)، و كذا الطبرسي مثله عن أبي جعفر (عليه السلام)، و في تفسير القمي، أنها نزلت في القائم من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و معنى نزولها فيه كونه تأويلها كما يدل عليه رواية الصدوق.

و في الدر المنثور، أخرج سعيد بن منصور و ابن المنذر و البيهقي في سننه عن جابر: في قوله: «ليظهره على الدين كله» قال: لا يكون ذلك حتى لا يبقى يهودي و لا نصراني صاحب ملة إلا الإسلام حتى تأمن الشاة الذئب، و البقرة الأسد، و الإنسان الحية، و حتى لا تقرض فأرة جرابا، و حتى يوضع الجزية و يكسر الصليب و يقتل الخنزير، و ذلك إذا نزل عيسى بن مريم (عليهما السلام).

أقول: و المراد بوضع الجزية أن تصير متروكة لا حاجة إليها لعدم الموضوع بقرينة صدر الحديث، و ما دلت عليه هذه الروايات من عدم بقاء كفر و لا شرك يومئذ يؤيدها روايات أخرى، و هناك روايات أخرى تدل على وضع المهدي (عليه السلام) الجزية على أهل الكتاب بعد ظهوره.

و ربما أيده قوله تعالى في أهل الكتاب: «و ألقينا بينهم العداوة و البغضاء إلى يوم القيامة:» المائدة: - 64، «فأغرينا بينهم العداوة و البغضاء إلى يوم القيامة»: المائدة: - 14، و ما في معناه من الآيات فإنها لا تخلو من ظهور ما في بقائهم إلى يوم القيامة إن لم تكن كناية عن ارتفاع المودة بينهم ارتفاعا أبديا، و قد تقدم في ذيل الآيات بعض الكلام في هذا المعنى.

و في الدر المنثور، أيضا أخرج ابن الضريس عن علباء بن أحمر: أن عثمان بن عفان لما أراد أن يكتب المصاحف أرادوا أن يلقوا الواو التي في براءة: «و الذين يكنزون الذهب و الفضة» قال أبي: لتلحقنها أو لأضعن سيفي على عاتقي فألحقوها. و في أمالي الشيخ، قال: أخبرنا جماعة عن أبي المفضل و ساق إسناده قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لما نزلت هذه الآية: «و الذين يكنزون الذهب و الفضة - و لا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم» كل ما يؤدى زكاته فليس بكنز و إن كان تحت سبع أرضين، و كل مال لا يؤدى زكاته فهو كنز و إن كان فوق الأرض.

أقول: و روي ما في معناه في الدر المنثور، عن ابن عدي و الخطيب عن جابر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و كذا بطرق أخرى عن ابن عباس و غيره.

و فيه، أيضا بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن أبيه أبي جعفر (عليه السلام): أنه سئل عن الدنانير و الدراهم و ما على الناس. فقال أبو جعفر (عليه السلام): هي خواتيم الله في أرضه جعلها الله مصلحة لخلقه، و بها يستقيم شئونهم و مطالبهم فمن أكثر له منها فقال بحق الله تعالى فيها أدى زكاتها فذاك الذي طلبه، و خلص له، و من أكثر له منها فبخل بها و لم يؤد حق الله فيها و اتخذ منها الأبنية فذاك الذي حق عليه وعيد الله عز و جل في كتابه يقول الله تعالى: «يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم و جنوبهم و ظهورهم - هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون».

أقول: و الرواية تؤيد ما استفدناه سابقا من الآية.

و في تفسير القمي، قال: كان أبو ذر الغفاري يغدو كل يوم و هو في الشام فينادي بأعلى صوته: بشر أهل الكنوز بكي في الجباه، و كي في الجنوب و كي في الظهور حتى يتردد الحر في أجوافهم.

أقول: و قد استفاد الطبرسي في المجمع، من الرواية الوجه في تخصيص الجباه و الجنوب و الظهور من بين أعضاء الإنسان بالذكر في الآية، و أن الغرض من تعذيبهم بهذا الوجه إيراد حر النار في أجوافهم و هي داخل الرءوس فتكوى جباههم و داخل الصدور و البطون فتكوى جنوبهم و ظهورهم.

و يمكن تتميم ما ذكره بأنهم يكبون على وجوههم و رءوسهم منكوسة على ما يشعر به الأخبار و بعض الآيات ثم تكوى أعضاؤهم من فوق فينتج ذلك كي الجباه و الجنوب و الظهور.

و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق في المصنف عن أبي ذر قال: بشر أصحاب الكنوز بكي في الجباه و في الجنوب و في الظهور. و فيه، أخرج ابن سعد و ابن أبي شيبة و البخاري و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه عن زيد بن وهب قال: مررت على أبي ذر بالربذة فقلت: ما أنزلك بهذه الأرض؟ قال: كنا بالشام فقرأت: «و الذين يكنزون الذهب و الفضة - و لا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم» فقال معاوية: ما هذه فينا هذه في أهل الكتاب. قلت أنا: إنها لفينا و فيهم. و فيه، أخرج مسلم و ابن مردويه عن الأحنف بن قيس قال: جاء أبو ذر فقال: بشر الكانزين بكي من قبل ظهورهم يخرج من جنوبهم، و كي من جباههم يخرج من أقفائهم، فقلت: ما ذا؟ قال: ما قلت إلا ما سمعت من نبيهم (صلى الله عليه وآله وسلم). و فيه، أخرج أحمد في الزهد عن أبي بكر المنكدر قال: بعث حبيب بن سلمة إلى أبي ذر و هو أمير الشام بثلاثمائة دينار، و قال: استعن بها على حاجتك فقال أبو ذر: أرجع بها إليه أ ما وجد أحدا أغر بالله منا ما لنا إلا الظل نتوارى به، و ثلاثة من غنم تروح علينا، و مولاة لنا تصدق علينا بخدمتها ثم إني لأنا أتخوف الفضل.

و فيه، أخرج البخاري و مسلم عن الأحنف بن قيس قال: جلست إلى ملإ من قريش فجاء رجل خشن الشعر و الثياب و الهيئة حتى قام عليهم فسلم ثم قال: بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم ثم يوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه، و يوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه فيتدلدل. ثم ولى و جلس إلى سارية فتبعته و جلست إليه و أنا لا أدري من هو؟ فقلت: لا أرى القوم إلا قد كرهوا ما قلت، قال: إنهم لا يعقلون شيئا قال لي خليلي. قلت: من خليلك؟ قال: النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أ تبصر أحدا؟ قلت: نعم. قال: ما أحب أن يكون لي مثل أحد ذهبا أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير و إن هؤلاء لا يعقلون إنما يجمعون للدنيا و الله لا أسألهم دنيا، و لا أستفتيهم عن دين حتى ألقى الله عز و جل. و في تاريخ الطبري، عن شعيب عن سيف عن محمد بن عوف عن عكرمة عن ابن عباس: أن أبا ذر دخل على عثمان و عنده كعب الأحبار فقال لعثمان: لا ترضوا من الناس بكف الأذى حتى يبذلوا المعروف، و قد ينبغي لمؤدي الزكاة أن لا يقتصر عليها حتى يحسن إلى الجيران و الإخوان و يصل القرابات. فقال: كعب من أدى الفريضة فقد قضى ما عليه، فرفع أبو ذر محجنه فضربه فشجه فاستوهبه عثمان فوهبه له و قال: يا أبا ذر اتق الله و اكفف يدك و لسانك، و قد كان قال له: يا ابن اليهودية ما أنت و ما هاهنا.

أقول: و قصص أبي ذر و اختلافه مع عثمان و معاوية معروفة مضبوطة في كتب التاريخ و التدبر فيما مر من أحاديثه و ما قاله لمعاوية إن الآية لا تختص بأهل الكتاب و ما خاطب به عثمان و واجه به كعبا يدل على أنه إنما فهم من الآية ما قدمناه أنها توعد على الكف عن الإنفاق في السبيل الواجب.

و يؤيده تحليل الحال الحاضر يومئذ فقد كان الناس يومئذ انقسموا قسمين و تبعضوا شطرين عامة لا يقدرون على قوت اليوم، و لا يجدون ما يستر عوراتهم و ما لهم إلى أوجب حوائجهم سبيل، و خاصة أسكرتهم الدنيا بجماع ما فيها من مال و منال يكنزون مئات الألوف و ألوف الألوف من عطايا الخلافة و غنائم الحروب و مال الخراج.

و يكفيك في التبصر فيه أن تراجع ما ضبطته التواريخ من أموال الصحابة من نقد و رقيق و ضيعة و شامخات القصور و ناجمات الدور، و ما أحدثه معاوية و سائر بني أمية بالشام و غيره من أزياء قيصرانية و كسروانية.

و الإسلام لا يرتضي شيئا من ذلك و لا ينفذ هذا الاختلاف الفاحش دون أن تتقارب الطبقات بالإنفاق، و تصلح عامة الأوضاع بانعطاف الأغنياء على الفقراء، و الأقوياء على الضعفاء.

و ربما قيل: إن أبا ذر كان يرى باجتهاد منه أن الزائد على القدر الواجب من المال الذي ينفق لسد الجوع و ستر العورة كنز يجب إنفاقه في سبيل الله أو أنه كان يدعو إلى الزهد في الدنيا.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي