الميزان في تفسير القرآن

سورة التوبة

29 - 35

قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35)

بيان

الآيات تأمر بقتال أهل الكتاب ممن يمكن تبقيته بالجزية و تذكر أمورا من وجوه انحرافهم عن الحق في الاعتقاد و العمل.

قوله تعالى: «قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله و لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب» أهل الكتاب هم اليهود و النصارى على ما يستفاد من آيات كثيرة من القرآن الكريم و كذا المجوس على ما يشعر أو يدل عليه قوله تعالى: «إن الذين آمنوا و الذين هادوا و الصابئين و النصارى و المجوس و الذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد»: الحج: - 17 حيث عدوا في الآية مع سائر أرباب النحل السماوية في قبال الذين أشركوا، و الصابئون كما تقدم طائفة من المجوس صبوا إلى دين اليهود فاتخذوا طريقا بين الطريقين.

و السياق يدل على أن لفظة «من» في قوله: «من الذين أوتوا الكتاب» بيانية لا تبعيضية فإن كلا من اليهود و النصارى و المجوس أمة واحدة كالمسلمين في إسلامهم و إن تشعبوا شعبا مختلفة و تفرقوا فرقا متشتتة اختلط بعضهم ببعض و لو كان المراد قتال البعض و إثبات الجزية على الجميع أو على ذلك البعض بعينه لاحتاج المقام في إفادة ذلك إلى بيان غير هذا البيان يحصل به الغرض.

و حيث كان قوله: «من الذين أوتوا الكتاب» بيانا لما قبله من قوله: «الذين لا يؤمنون» الآية فالأوصاف المذكورة أوصاف عامة لجميعهم و هي ثلاثة أوصاف وصفهم الله سبحانه بها: عدم الإيمان بالله و اليوم الآخر، و عدم تحريم ما حرم الله و رسوله، و عدم التدين بدين الحق.

فأول ما وصفهم به قوله: «الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر» و هو تعالى ينسب إليهم في كلامه أنهم يثبتونه إلها و كيف لا؟ و هو يعدهم أهل الكتاب، و ما هو إلا الكتاب السماوي النازل من عند الله على رسول من رسله و يحكي عنهم القول أو لازم القول بالألوهية في مئات من آيات كتابه.

و كذا ينسب إليهم القول باليوم الآخر في أمثال قوله: «و قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة:» البقرة: - 80، و قوله: «و قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى:» البقرة: - 111.

غير أنه تعالى لم يفرق في كلامه بين الإيمان به و الإيمان باليوم الآخر فالكفر بأحد الأمرين كفر بالله و الكفر بالله كفر بالأمرين جميعا، و حكم فيمن فرق بين الله و رسله فآمن ببعض دون بعض أنه كافر كما قال: «إن الذين يكفرون بالله و رسله و يريدون أن يفرقوا بين الله و رسله و يقولون نؤمن ببعض و نكفر ببعض و يريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا و اعتدنا للكافرين عذابا مهينا:» النساء: - 151.

فعد أهل الكتاب ممن لم يؤمن بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كفارا حقا و إن كان عندهم إيمان بالله و اليوم الآخر، لا بلسان أنهم كفروا بآية من آيات الله و هي آية النبوة بل بلسان أنهم كفروا بالإيمان بالله فلم يؤمنوا بالله و اليوم الآخر كما أن المشركين أرباب الأصنام كافرون بالله إذ لم يوحدوه و إن أثبتوا إلها فوق الآلهة.

على أنهم يقررون أمر المبدإ و المعاد تقريرا لا يوافق الحق بوجه كقولهم بأن المسيح ابن الله و عزيرا ابن الله يضاهئون في ذلك قول الذين كفروا من أرباب الأصنام و الأوثان أن من الآلهة من هو إله أب إله و من هو إله ابن إله، و قول اليهود في المعاد بالكرامة و قول النصارى بالتفدية.

فالظاهر أن نفي الإيمان بالله و اليوم الآخر عن أهل الكتاب إنما هو لكونهم لا يرون ما هو الحق من أمر التوحيد و المعاد و إن أثبتوا أصل القول بالألوهية لا لأن منهم من ينكر القول بألوهية الله سبحانه أو ينكر المعاد فإنهم قائلون بذلك على ما يحكيه عنهم القرآن و إن كانت التوراة الحاضرة اليوم لا خبر فيها عن المعاد أصلا.

ثم وصفهم ثانيا بقوله: «و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله» و ذلك كقول اليهود بإباحة أشياء عدها و ذكرها لهم القرآن في سورتي البقرة و النساء و غيرهما و قول النصارى بإباحة الخمر و لحم الخنزير، و قد ثبت تحريمهما في شرائع موسى و عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و أكلهم أموال الناس بالباطل كما سينسبه إليهم في الآية الآتية: «إن كثيرا من الأحبار و الرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل».

و المراد بالرسول في قوله: «ما حرم الله و رسوله» أما رسول أنفسهم الذي قالوا بنبوته كموسى (عليه السلام) بالنسبة إلى اليهود، و عيسى (عليه السلام) بالنسبة إلى النصارى فالمعنى لا يحرم كل أمة منهم ما حرمه عليهم رسولهم الذي قالوا بنبوته، و اعترفوا بحقانيته و في ذلك نهاية التجري على الله و رسوله و اللعب بالحق و الحقيقة.

و أما النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل يحل لهم الطيبات و يحرم عليهم الخبائث و يضع عنهم إصرهم و الأغلال التي كانت عليهم.

و يكون حينئذ توصيفهم بعدم تحريمهم ما حرم الله و رسوله بغرض تأنيبهم و الطعن فيهم و لبعث المؤمنين و تهييجهم على قتالهم لعدم اعتنائهم بما حرمه الله و رسوله في شرعهم و استرسالهم في الوقوع في محارم الله و هتك حرماته.

و ربما أيد هذا الاحتمال أن لو كان المراد بقوله: «و رسوله» رسول كل أمة بالنسبة إليها كموسى بالنسبة إلى اليهود و عيسى بالنسبة إلى النصارى كان من حق الكلام أن يقال: «و لا يحرمون ما حرم الله و رسله» على ما هو دأب القرآن في نظائره للدلالة على كثرة الرسل كقوله: «و يريدون أن يفرقوا بين الله و رسله:» النساء: - 150، و قوله: «قالت رسلهم أ في الله شك:» إبراهيم: - 10، و قوله: «و جاءتهم رسلهم بالبينات:» يونس: - 13.

على أن النصارى رفضوا محرمات التوراة و الإنجيل فلم يحرموا ما حرم موسى و عيسى (عليهما السلام)، و ليس من حق الكلام في مورد هذا شأنه: أنهم لا يحرمون ما حرم الله و رسوله.

على أن المتدبر في المقاصد العامة الإسلامية لا يشك في أن قتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية ليس لغرض تمتع أولياء الإسلام و لا المسلمين من متاع الحياة الدنيا و استرسالهم و انهماكهم في الشهوات على حد المترفين من الملوك و الرؤساء المسرفين من أقوياء الأمم.

و إنما غرض الدين في ذلك أن يظهر دين الحق و سنة العدل و كلمة التقوى على الباطل و الظلم و الفسق فلا يعترضها في مسيرها اللعب و الهوى فتسلم التربية الصالحة المصلحة من مزاحمة التربية الفاسدة المفسدة حتى لا ينجر إلى أن تجذب هذه إلى جانب، و تلك إلى جانب، فيتشوش أمر النظام الإنساني إلا أن لا يرتضي واحد أو جماعة التربية الإسلامية لنفسه أو لأنفسهم فيكونون أحرارا فيما يرتضونه لأنفسهم من تربية دينهم الخاصة على شرط أن يكونوا على شيء من دين التوحيد، و هو اليهودية أو النصرانية أو المجوسية، و أن لا يتظاهروا بالمزاحمة، و هذا غاية العدل و النصفة من دين الحق الظاهر على غيره.

و أما الجزية فهي عطية مالية مأخوذة منهم مصروفة في حفظ ذمتهم و حسن إدارتهم و لا غنى عن مثلها لحكومة قائمة على ساقها حقة أو باطلة.

و من هذا البيان يظهر أن المراد بهذه المحرمات: المحرمات الإسلامية التي عزم الله أن لا تشيع في المجتمع الإسلامي العالمي كما أن المراد بدين الحق هو الذي يعزم أن يكون هو المتبع في المجتمع.

و لازم ذلك أن يكون المراد بالمحرمات: المحرمات التي حرمها الله و رسوله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الصادع بالدعوة الإسلامية، و أن يكون الأوصاف الثلاثة: «الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر» الآية في معنى التعليل تفيد حكمة الأمر بقتال أهل الكتاب.

و بذلك كله يظهر فساد ما أورد على هذا الوجه أنه لا يعقل أن يحرم أهل الكتاب على أنفسهم ما حرم الله و رسوله علينا إلا إذا أسلموا، و إنما الكلام في أهل الكتاب لا في المسلمين العاصين.

وجه الفساد أنه ليس من الواجب أن يكون الغرض من قتالهم أن يحرموا ما حرم الإسلام و هم أهل الكتاب بل أن لا يظهر في الناس التبرز بالمحرمات من غير مانع يمنع شيوعها و الاسترسال فيها كشرب الخمر و أكل لحم الخنزير و أكل المال بالباطل على سبيل العلن بل يقاتلون ليدخلوا في الذمة فلا يتظاهروا بالفساد، و يحتبس الشر فيما بينهم أنفسهم.

و لعله إلى ذلك الإشارة بقوله: «و هم صاغرون» على ما سيجيء في الكلام على ذيل الآية.

ثم وصفهم ثالثا بقوله: «و لا يدينون دين الحق» أي لا يأخذونه دينا و سنة حيوية لأنفسهم.

و إضافة الدين إلى الحق ليست من إضافة الموصوف إلى صفته على أن يكون المراد الدين الذي هو حق بل من الإضافة الحقيقة، و المراد به الدين الذي هو منسوب إلى الحق لكون الحق هو الذي يقتضيه للإنسان و يبعثه إليه، و كون هذا الدين يهدي إلى الحق و يصل متبعيه إليه فهو من قبيل قولنا طريق الحق و طريق الضلال بمعنى الطريق الذي هو للحق و الطريق الذي هو للضلال أي إن غايته الحق أو غايته الضلال.

و ذلك أن المستفاد من مثل قوله تعالى: «فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم:» الروم: - 30، و قوله: «إن الدين عند الله الإسلام:» آل عمران: - 19، و سائر ما يجري هذا المجرى من الآيات أن لهذا الدين أصلا في الكون و الخلقة و الواقع الحق يدعو إليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و يندب الناس إلى الإسلام و الخضوع له و يسمى اتخاذه سنة في الحياة إسلاما لله تعالى فهو يدعو إلى ما لا مناص للإنسان عن استجابته و التسليم له و هو الخضوع للسنة العملية الاعتبارية التي يهدي إليها السنة الكونية الحقيقية، و بعبارة أخرى التسليم لإرادة الله التشريعية المنبعثة عن إرادته التكوينية.

و بالجملة للحق الذي هو الواقع الثابت دين و سنة ينبعث منه كما أن للضلال و الغي دينا يدعو إليه، و الأول اتباع للحق كما أن الثاني اتباع للهوى، قال تعالى: «و لو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات و الأرض».

و الإسلام دين الحق بمعنى أنه ستة التكوين و الطريقة التي تنطبق عليها الخلقة و تدعو إليها الفطرة فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم.

فتلخص مما تقدم أولا: أن المراد بعدم إيمان أهل الكتاب بالله و اليوم الآخر عدم تلبسهم بالإيمان المقبول عند الله، و بعدم تحريمهم ما حرم الله و رسوله عدم مبالاتهم في التظاهر باقتراف المناهي التي يفسد التظاهر بها المجتمع البشري و يخيب بها سعي الحكومة الحقة الجارية فيه، و بعدم تدينهم بدين الحق عدم استنانهم بسنة الحق المنطبقة على الخلقة و المنطبقة عليها الخلقة و الكون.

و ثانيا: أن قوله: «الذين لا يؤمنون بالله» إلى آخر الأوصاف الثلاثة مسوق لبيان الحكمة في الأمر بقتالهم و يترتب عليه فائدة التحريض و التحضيض عليه.

و ثالثا: أن المراد قتال أهل الكتاب جميعا لا بعضهم بجعل «من» في قوله: «من الذين أوتوا الكتاب» للتبعيض.

قوله تعالى: «حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون» قال الراغب في المفردات:، الجزية ما يؤخذ من أهل الذمة، و تسميتها بذلك للاجتزاء بها في حقن دمهم.

انتهى.

و في المجمع:، الجزية فعلة من جزى يجزي مثل العقدة و الجلسة و هي عطية مخصوصة جزاء لهم على تمسكهم بالكفر عقوبة لهم.

عن علي بن عيسى.

انتهى.

و الاعتماد على ما ذكره الراغب فإنه المتأيد بما ذكرناه آنفا أن هذه عطية مالية مصروفة في جهة حفظ ذمتهم و حقن دمائهم و حسن إدارتهم.

و قال الراغب أيضا: الصغر و الكبر من الأسماء المتضادة التي تقال عند اعتبار بعضها ببعض فالشيء قد يكون صغيرا في جنب الشيء و كبيرا في جنب آخر - إلى أن قال - يقال: صغر صغرا - بالكسر فالفتح - في ضد الكبير و صغر صغرا و صغارا - بالفتحتين فيهما - في الذلة.

و الصاغر الراضي بالمنزلة الدنية: «حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون» انتهى.

و الاعتبار بما ذكر في صدر الآية من أوصافهم المقتضية لقتالهم ثم إعطاؤهم الجزية لحفظ ذمتهم يفيد أن يكون المراد بصغارهم خضوعهم للسنة الإسلامية و الحكومة الدينية العادلة في المجتمع الإسلامي فلا يكافئوا المسلمين و لا يبارزوهم بشخصية مستقلة حرة في بث ما تهواه أنفسهم و إشاعة ما اختلقته هوساتهم من العقائد و الأعمال المفسدة للمجتمع الإنساني مع ما في إعطاء المال بأيديهم من الهوان.

فظاهر الآية أن هذا هو المراد من صغارهم لا إهانتهم و السخرية بهم من جانب المسلمين أو أولياء الحكومة الدينية فإن هذا مما لا يحتمله السكينة و الوقار الإسلامي و إن ذكر بعض المفسرين.

و اليد: الجارحة من الإنسان و تطلق على القدرة و النعمة فإن كان المراد به في قوله: «حتى يعطوا الجزية عن يد» هو المعنى الأول فالمعنى حتى يعطوا الجزية متجاوزة عن يدهم إلى يدكم، و إن كان المراد هو المعنى الثاني فالمعنى: حتى يعطوا الجزية عن قدرة و سلطة لكم عليهم و هم صاغرون غير مستعلين عليكم و لا مستكبرين.

فمعنى الآية - و الله أعلم - قاتلوا أهل الكتاب لأنهم لا يؤمنون بالله و اليوم الآخر إيمانا مقبولا غير منحرف عن الصواب و لا يحرمون ما حرمه الإسلام مما يفسد اقترافه المجتمع الإنساني و لا يدينون دينا منطبقا على الخلقة الإلهية قاتلوهم و دوموا على قتالهم حتى يصغروا عندكم و يخضعوا لحكومتكم، و يعطوا في ذلك عطية مالية مضروبة عليهم يمثل صغارهم، و يصرف في حفظ ذمتهم و حقن دمائهم و حاجة إدارة أمورهم.

قوله تعالى: «و قالت اليهود عزير ابن الله و قالت النصارى المسيح ابن الله» إلى آخر الآية المضاهاة المشاكلة.

و الإفك على ما ذكره الراغب كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه فمعنى «يؤفكون» يصرفون في اعتقادهم عن الحق إلى الباطل.

و قوله: «و قالت اليهود عزير ابن الله» عزير هذا هو الذي يسميه اليهود عزرا غيرت اللفظة عند التعريب كما غير لفظ «يسوع» فصار بالتعريب «عيسى» و لفظ «يوحنا» فصار كما قيل «يحيى».

و عزرا هذا هو الذي جدد دين اليهود و جمع أسفار التوراة و كتبها بعد ما افتقدت في غائلة بخت نصر ملك بابل الذي فتح بلادهم و خرب هيكلهم و أحرق كتبهم و قتل رجالهم و سبى نساءهم و ذراريهم و الباقين من ضعفائهم و سيرهم معه إلى بابل فبقوا هنالك ما يقرب من قرن ثم لما فتح «كورش» ملك إيران بابل شفع لهم عنده عزرا و كان ذا وجه عنده فأجاز له أن يعيد اليهود إلى بلادهم و أن يكتب لهم التوراة ثانيا بعد ما افتقدوا نسخها و كان ذلك في حدود سنة 457 قبل المسيح على ما ذكروا فراجت بينهم ثانيا ما جمعه عزرا من التوراة و إن كانوا افتقدوا أيضا في زمن أنتيوكس صاحب سورية الذي فتح بلادهم حدود سنة 161 قم و تتبع مساكنهم فأحرق ما وجده من نسخ التوراة و قتل من وجدت عنده أو أخذت عليه على ما في كتب التاريخ.

و لما نالهم من خدمته عظموا قدره و احترموا أمره و سموه ابن الله و لا ندري أ كان دعاؤه بالبنوة بالمعنى الذي يسمي به النصارى المسيح ابن الله - و المراد أن فيه شيئا من جوهر الربوبية أو هو مشتق منه أو هو هو - أو أنها تسمية تشريفية كما قالوا: نحن أبناء الله و أحباؤه؟ و إن كان ظاهر سياق الآية التالية: «اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله و المسيح بن مريم» الآية يؤيد الثاني على ما سيأتي.

و قد ذكر بعض المفسرين: أن هذا القول منهم: «عزير ابن الله» كلمة تكلم بها بعض اليهود ممن في عصره (صلى الله عليه وآله وسلم) لا جميع اليهود فنسب إلى الجميع كما أن قولهم: «إن الله فقير و نحن أغنياء» و كذا قولهم: «يد الله مغلولة» مما قاله بعض يهود المدينة ممن عاصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فنسب في كلامه تعالى إلى جميعهم لأن البعض منهم راضون بما عمله البعض الآخر، و الجميع ذو رأي متوافق الأجزاء و روية متشابهة التأثير.

و قوله: «و قالت النصارى المسيح ابن الله» كلمة قالتها النصارى، و قد تقدم الكلام فيها و في ما يتعلق بها في قصة المسيح (عليه السلام) من سورة آل عمران في الجزء الثالث من الكتاب.

و قوله: «يضاهئون قول الذين كفروا من قبل» تنبىء الآية عن أن القول بالبنوة منهم مضاهاة و مشاكلة لقول من تقدمهم من الأمم الكافرة و هم الوثنيون عبدة الأصنام فإن من آلهتهم من هو إله أب إله و من هو إله ابن إله و، من هي إلهة أم إله أو زوجة إله، و كذا القول بالثالوث مما كان دائرا بين الوثنيين من الهند و الصين و مصر القديم و غيرهم و قد مر نبذة من ذلك فيما تقدم من الكلام في قصة المسيح في ثالث أجزاء هذا الكتاب.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي