الميزان في تفسير القرآن

سورة الأنفال

55 - 66

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (60) وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ (65) الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)

بيان

أحكام و دستورات في الحرب و السلم و المعاهدات و نقضها و غير ذلك، و صدر الآيات يقبل الانطباق على طوائف اليهود التي كانت في المدينة و حولها و قد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عاهدهم بعد هجرته إلى المدينة أن لا يضروه و لا يغدروا به و لا يعينوا عليه عدوا و يقروا على دينهم و يأمنوا في أنفسهم فنقضوا العهد نقضا بعد نقض حتى أمر الله سبحانه بقتالهم فآل أمرهم إلى ما آل إليه، و سيجيء بعض أخبارهم في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.

و على هذا فالآيات الأربع الأول غير نازلة مع ما سبقها من الآيات و لا متصلة بها كما يعطيه سياقها و أما السبع الباقية فليست بواضحة الاتصال بما قبلها من الآيات الأربع و لا بما قبل ما قبلها.

قوله تعالى: «إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون» الكلام مسوق لبيان كون هؤلاء شر جميع الموجودات الحية من غير شك في ذلك لما في تقييد الحكم بقوله: «عند الله» من الدلالة عليه فإن معناه الحكم و ما يحكم و يقضي به الله سبحانه لا يتطرق إليه خطأ و قد قال تعالى: «لا يضل ربي و لا ينسى:» طه: - 52.

و قد افتتح هذه القطعة من الكلام المتعلق بهم بكونهم شر الدواب عنده لأن مغزى الكلام التحرز منهم و دفعهم، و من المغروز في الطباع أن الشر الذي لا يرجى معه خير يجب دفعه بأي وسيلة صحت و أمكنت فناسب ما سيأمره في حقهم بقوله: «فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم» إلخ الافتتاح ببيان كونهم شر الدواب.

و عقب قوله: «الذين كفروا» بقوله: «فهم لا يؤمنون» مبتدأ بفاء التفريع أي إن من وصفهم الذي يتفرع على كفرهم أنهم لا يؤمنون، و لا يتفرع عدم الإيمان على الكفر إلا إذا رسخ في النفس رسوخا لا يرجى معه زواله فلا مطمع حينئذ في دخول الإيمان في قلب هذا شأنه لمكان المضادة التي بين الكفر و الإيمان.

و من هنا يظهر أن المراد بقوله: «الذين كفروا» الذين ثبتوا على الكفر، و عند هذا يرجع معنى هذه الآية إلى نظيرتها السابقة: «إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون و لو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم و لو أسمعهم لتولوا و هم معرضون:» الأنفال: - 23.

على أن الآيتين لما دلتا على حصر الشر عند الله في طائفة معينة من الدواب كانت الآية الأولى مع دلالتها على كون أهلها ممن لا يؤمنون البتة دالة على أن المراد بقوله في الآية الثانية: «الذين كفروا فهم لا يؤمنون» كونهم ثابتين على كفرهم لا يزولون عنه البتة.

قوله تعالى: «الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة و هم لا يتقون» بيان للذين كفروا في الآية السابقة أو بدل منهم بدل البعض من الكل، و يتفرع عليه أن «من» في قوله «منهم» تبعيضية و المعنى: الذين عاهدتهم من بين الذين كفروا، و أما احتمال أن يكون من زائدة و المعنى: الذين عاهدتهم، أو بمعنى مع و المعنى: الذين عاهدت معهم فليس: بشيء.

و المراد بكل مرة مرات المعاهدة أن ينقضون عهدهم في كل مرة عاهدتهم و هم لا يتقون الله في نقض العهد أو لا يتقونكم و لا يخافون نقض عهدكم، و فيه دلالة على تكرر النقض منهم.

قوله تعالى: «فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون» قال في المجمع، الثقف الظفر و الإدراك بسرعة، و التشريد التفريق على اضطراب.

انتهى، و قوله: «فإما تثقفنهم» أصله إن تثقفهم دخل «ما» التأكيد على إن الشرطية ليصحح دخول نون التأكيد على الشرط و الكلام مسوق للتأكيد في ضمن الشرط.

و المراد بتشريد من خلفهم بهم أن يفعل بهم من التنكيل و التشديد ما يعتبر به من خلفهم، و يستولي الرعب و الخوف على قلوبهم فيتفرقوا و ينحل عقد عزيمتهم و اتحاد إرادتهم على قتال المؤمنين و إبطال كلمة الحق.

و على هذا فالمراد بقوله: «لعلهم يذكرون» رجاء أن يتذكروا ما لنقض العهد و الإفساد في الأرض و المحادة مع كلمة الحق من التبعة السيئة و العاقبة المشئومة فإن الله لا يهدي القوم الفاسقين و إن الله لا يهدي كيد الخائنين.

ففي الآية إيماء إلى الأمر بقتالهم ثم التشديد عليهم و التنكيل بهم عند الظفر بهم و ثقفهم، و إيماء إلى أن وراءهم من حاله حالهم في نقض العهد و تربص الدوائر على الحق و أهله.

قوله تعالى: «و إما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين» الخيانة - على ما في المجمع، - نقض العهد فيما يؤتمن عليه، و هذا معنى الخيانة في العهود و المواثيق، و أما الخيانة بمعناها العام فهي نقض ما أبرم من الحق في عهد أو أمانة، و النبذ هو الإلقاء و منه قوله: «فنبذوه وراء ظهورهم:» آل عمران: - 187 و السواء بمعنى الاستواء و العدل.

و قوله: «و إما تخافن» كقوله في الآية السابقة: «فإما تثقفنهم» و معنى الخوف ظهور أمارات تدل على وقوع ما يجب التحرز منه و الحذر عنه و قوله: «إن الله لا يحب الخائنين» تعليل لقوله: «فانبذ إليهم على سواء».

و معنى الآية: و إن خفت من قوم بينك و بينهم عهد أن يخونوك و ينقضوا عهدهم و لاحت آثار دالة على ذلك فانبذ و ألق إليهم عهدهم و أعلمهم إلغاء العهد لتكونوا أنتم و هم على استواء من نقض عهد أو تكون مستويا على عدل فإن من العدل المعاملة بالمثل و السواء لأنك إن قاتلتهم قبل إلغاء العهد كان ذلك منك خيانة و الله لا يحب الخائنين و ملخص الآيتين دستوران إلهيان في قتال الذين لا عهد لهم بالنقض أو بخوفه فإن كان أهل العهد من الكفار لا يثبتون على عهدهم بنقضه في كل مرة فعلى ولي الأمر أن يقاتلهم و يشدد عليهم، و إن كانوا بحيث يخاف من خيانتهم و لا وثوق بعهدهم فيعلمون إلغاء عهدهم ثم يقاتلون و لا يبدأ بقتالهم قبل الإعلام فإنما ذلك خيانة، و أما إن كانوا عاهدوا و لم ينقضوا و لم يخف خيانتهم فمن الواجب حفظ عهدهم و احترام عقدهم و قد قال تعالى: «فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم:» التوبة: - 4.

و قال: «أوفوا بالعقود:» المائدة: - 1.

قوله تعالى: «و لا تحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون» القراءة المشهورة «تحسبن» بتاء الخطاب، و هو خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تطييبا لنفسه و تقوية لقلبه كالخطاب الآتي بعد عدة آيات: «يا أيها النبي حسبك الله و من اتبعك من المؤمنين» و كالخطاب الملقى بعده لتحريض المؤمنين: «يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال».

و السبق تقدم الشيء على طالب اللحوق به، و الإعجاز إيجاد العجز، و قوله: «إنهم لا يعجزون» تعليل لقوله: «و لا تحسبن» إلخ، و المعنى: يا أيها النبي لا تحسبن أن الذين كفروا سبقونا فلا ندركهم، لأنهم لا يعجزون الله و له القدرة على كل شيء.

قوله تعالى: «و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة و من رباط الخيل».

إلى آخر الآية الإعداد تهيئة الشيء للظفر بشيء آخر و إيجاد ما يحتاج إليه الشيء المطلوب في تحققه كإعداد الحطب و الوقود للإيقاد و إعداد الإيقاد للطبخ، و القوة كل ما يمكن معه عمل من الأعمال، و هي في الحرب كل ما يتمشى به الحرب و الدفاع من أنواع الأسلحة، و الرجال المدربين و المعاهد الحربية التي تقوم بمصلحة ذلك كله، و الرباط مبالغة في الربط و هو أيسر من العقد يقال: ربطه يربطه ربطا و رابطه يرابطه مرابطة و رباطا فالكل بمعنى غير أن الرباط أبلغ من الربط، و الخيل هو الفرس، و الإرهاب قريب المعنى من التخويف.

و قوله: «و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة و من رباط الخيل» أمر عام بتهيئة المؤمنين مبلغ استطاعتهم من القوى الحربية ما يحتاجون إليه قبال ما لهم من الأعداء في الوجود أو في الفرض و الاعتبار فإن المجتمع الإنساني لا يخلو من التآلف من أفراد أو أقوام مختلفي الطباع و متضادي الأفكار لا ينعقد بينهم مجتمع على سنة قيمة ينافعهم إلا و هناك مجتمع آخر يضاده في منافعه، و يخالفه في سنته، و لا يعيشان معا برهة من الدهر إلا و ينشب بينهما الخلاف و يؤدي ذلك إلى التغلب و القهر.

فالحروب المبيدة و الاختلافات الداعية إليها مما لا مناص عنها في المجتمعات الإنسانية و المجتمعات هي هذه المجتمعات، و يدل على ذلك ما نشاهده من تجهز الإنسان في خلقه بقوى لا يستفاد منها إلا للدفاع كالغضب و الشدة في الأبدان، و الفكر العامل في القهر و الغلبة، فمن الواجب الفطري على المجتمع الإسلامي أن يتجهز دائما بإعداد ما استطاع من قوة و من رباط الخيل بحسب ما يفترضه من عدو لمجتمعه الصالح.

و الذي اختاره الله للمجتمع الإسلامي بما أنزل عليهم من الدين الفطري الذي هو الدين القيم هي الحكومة الإنسانية التي يحفظ فيها حقوق كل فرد من أفراد مجتمعها، و يراعى فيها مصلحة الضعيف و القوي و الغني و الفقير و الحر و العبد و الرجل و المرأة و الفرد و الجماعة و البعض و الكل على حد سواء دون الحكومة الفردية الاستبدادية التي لا تسير إلا على ما تهواه نفس الفرد المتولي لها الحاكم في دماء الناس و أعراضهم و أموالهم بما شاء و أراد، و لا الحكومة الأكثرية التي تطابق أهواء الجمهور من الناس و تبطل منافع آخرين و ترضي الأكثرين النصف واحد و تضطهد و تسخط الأقلين النصف - واحد.

و لعل هذا هو السر في قوله تعالى: «و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة» حيث وجه الخطاب إلى الناس بعد ما كان الخطاب في الآيات السابقة موجها إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كقوله: «فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم» و قوله: «فانبذ إليهم على سواء» و قوله: «و لا تحسبن الذين كفروا سبقوا» و كذا في الآيات التالية كقوله: «و إن جنحوا للسلم فاجنح لها» إلى غير ذلك.

و ذلك أن الحكومة الإسلامية حكومة إنسانية بمعنى مراعاة حقوق كل فرد و تعظيم إرادة البعض و احترام جانبه أي من كان من غير اختصاص الإرادة المؤثرة بفرد واحد أو بأكثر الأفراد.

فالمنافع التي يهددها عدوهم هي منافع كل فرد فعلى كل فرد أن يقوم بالذب عنها، و يعد ما استطاع من قوة لحفظها من الضيعة، و الإعداد و إن كان منه ما لا يقوم بأمره إلا الحكومات بما لها من الاستطاعة القوية و الإمكانات البالغة لكن منها ما يقوم بالأفراد بفرديتهم كتعلم العلوم الحربية و التدرب بفنونها فالتكليف تكليف الجميع.

و قوله تعالى: «ترهبون به عدو الله و عدوكم و آخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم» في مقام التعليل لقوله: «و أعدوا لهم» أي و أعدوا لهم ذلك لترهبوا و تخوفوا به عدو الله و عدوكم، و في عدهم عدوا لله و لهم جميعا بيان للواقع و تأكيد في التحريض.

و في قوله: «و آخرين من دونهم لا تعلمونهم» دلالة على أن المراد بالأولين هم الذين يعرفهم المؤمنون بالعداوة لله و لهم، و المراد بهؤلاء الذين لا يعلمهم المؤمنون - على ما يعطيه إطلاق اللفظ - كل من لا خبرة للمؤمنين بتهديده إياهم بالعداوة من المنافقين الذين هم في كسوة المؤمنين و صورتهم يصلون و يصومون و يحجون و يجاهدون ظاهرا، و من غير المنافقين من الكفار الذين لم يبتل بهم المؤمنون بعد.

و الإرهاب بإعداد القوة، و إن كان في نفسه من الأغراض الصحيحة التي تتفرع عليها فوائد عظيمة ظاهرة غير أنه ليس تمام الغرض المقصود من إعداد القوة، و لذلك أردفه بقوله: «و ما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم و أنتم لا تظلمون» ليدل على جماع الغرض.

و ذلك أن الغرض الحقيقي من إعداد القوى هو التمكن من الدفع مبلغ الاستطاعة، و حفظ المجتمع من العدو الذي يهدده في نفوسه و أعراضه و أمواله، و باللفظ المناسب لغرض الدين إطفاء نائرة الفساد الذي يبطل كلمة الحق و يهدم بنيان دين الفطرة الذي به يعبد الله في أرضه و يقوم ملاك العدل في عباده.

و هذا أمر ينتفع به كل فرد من أفراد المجتمع الديني فما أنفقه فرد أو جماعة في سبيل الله، و هو الجهاد لإحياء أمره فهو بعينه يرجع إلى نفسه و إن كان في صورة أخرى فإن أنفق في سبيله مالا أو جاها أو أي نعمة من هذا القبيل فهو من الإنفاق في سبيل الضروريات الذي لا يلبث دون أن يرجع إليه نفسه نفعه و ما استعقبه من نماء في الدنيا و الآخرة، و إن أنفق في سبيله نفسا فهو الشهادة في سبيل الله التي تستتبع حياة باقية خالدة حقة لمثلها فليعمل العاملون لا كما يغر به آحاد الفادين في سبيل المقاصد الدنيوية ببقاء الاسم و خلود الذكر و تمام الفخر فهؤلاء و إن تنبهوا اليوم لهذا التعليم الإسلامي، و أن المجتمع كنفس واحدة تشترك أعضاؤها فيما يعود إليها من نفع و ضرر لكنهم خبطوا في مسيرهم و اشتبه عليهم الأمر في تشخيص الكمال الإنساني الذي لأجله تندبه الفطرة و تدعوه إلى الاجتماع، و هو التمتع من الحياة الدائمة، فحسبوه الحياة الدنيا الدائرة فضاق عليهم المسلك في أمثال التفدية بالنفس لأجل تمتع الغير بلذائذ المادة.

و بالجملة فإعداد القوة إنما هو لغرض الدفاع عن حقوق المجتمع الإسلامي و منافعه الحيوية، و التظاهر بالقوة المعدة ينتج إرهاب العدو، و هو أيضا من شعب الدفع و نوع معه، فقوله تعالى: «ترهبون به عدو الله» إلخ يذكر فائدة من فوائد الإعداد الراجعة إلى أفراد المجتمع، و قوله: «و ما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم و أنتم لا تظلمون» يذكر أن ما أنفقوه في سبيله لا يبطل و لا يفوت بل يرجع إليهم من غير أن يفوت عن ذي حق حقه.

و هذا أعني قوله: «و ما تنفقوا من شيء في سبيل الله» إلخ أعم فائدة من مثل قوله: «و ما تنفقوا من خير يوف إليكم:» البقرة: - 272 فإن الخير منصرف إلى المال فلا يشمل النفس بخلاف قوله هاهنا: «و ما تنفقوا من شيء».

قوله تعالى: «و إن جنحوا للسلم فاجنح لها و توكل على الله إنه هو السميع العليم» في المجمع،: الجنوح الميل، و منه جناح الطائر لأنه يميل به في أحد شقيه، و لا جناح عليه أي لا ميل إلى مأثم.

انتهى، و السلم بفتح السين و كسرها الصلح.

و قوله: «و توكل على الله» من تتمة الأمر بالجنوح فالجميع في معنى أمر واحد، و المعنى: و إن مالوا إلى الصلح و المسالمة فمل إليها و توكل في ذلك على الله و لا تخف من أن يضطهدك أسباب خفية عنك على غفلة منك و عدم تهيؤ لها فإن الله هو السميع العليم لا يغفله سبب و لا يعجزه مكر بل ينصرك و يكفيك و هذا هو الذي يثبته قوله في الآية التالية «و إن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله».

و قد تقدم فيما أسلفناه من معنى التوكل على الله أنه ليس اعتمادا عليه سبحانه بإلغاء الأسباب الظاهرية بل سلب الاعتماد القطعي على الأسباب الظاهرية لأن الذي يبدو للإنسان منها بعض يسير منها دون جميعها، و السبب التام الذي لا يتخلف عن مسببه هو الجميع الذي يحمل إرادته سبحانه.

فالتوكل هو توجيه الثقة و الاعتماد إلى الله سبحانه الذي بمشيته يدور رحى الأسباب عامة، و لا ينافيه أن يتوسل المتوكل بما يمكنه التوسل به من الأسباب اللائحة عليه من غير أن يلغي شيئا منها فيركب مطية الجهل.

قوله تعالى: «و إن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره و بالمؤمنين» الآية متصلة بما قبلها و هي بمنزلة دفع الدخل، و ذلك أن الله سبحانه لما أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالجنوح للسلم إن جنحوا له و لم يرض بالخديعة لأنها من الخيانة في حقوق المعاشرة و المواصلة للعامة و الله لا يحب الخائنين كان أمره بالجنوح المذكور مظنة سؤال و هو أن من الجائز أن يكون جنوحهم للسلم خديعة منهم يضلون بها المؤمنين ليغيروا عليهم في شرائط و أحوال مناسبة فأجاب سبحانه بأنا أمرناك بالتوكل فإن أرادوا بذلك أن يخدعوك فإن حسبك الله و قد قال تعالى: «و من يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره.

و هذا مما يدل على أن هناك أسبابا وراء ما ينكشف لنا من الأسباب الطبيعية العادية تجري على ما يوافق صلاح العبد المتوكل إذا خانته الأسباب الطبيعية العادية و لم تساعده على مطلوبه الحق.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي