الميزان في تفسير القرآن

سورة القيامة

16 - 40

لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)

بيان

تتمة صفة يوم القيامة باعتبار حال الناس فيه و انقسامهم إلى طائفة ناضرة الوجوه مبتهجين و أخرى باسرة الوجوه عابسين آيسين من النجاة، و الإشارة إلى أن هذا المساق تبتدىء من حين نزول الموت ثم الإشارة إلى أن الإنسان لا يترك سدى فالذي خلقه أولا قادر على أن يحييه ثانيا و به تختتم السورة.

قوله تعالى: «لا تحرك به لسانك لتعجل به - إلى قوله - ثم إن علينا بيانه» الذي يعطيه سياق الآيات الأربع بما يحفها من الآيات المتقدمة و المتأخرة الواصفة ليوم القيامة أنها معترضة متضمن أدبا إلهيا كلف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتأدب به حينما يتلقى ما يوحى إليه من القرآن الكريم فلا يبادر إلى قراءة ما لم يقرأ بعد و لا يحرك به لسانه و ينصت حتى يتم الوحي.

فالآيات الأربع في معنى قوله تعالى: «و لا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه»: طه: 114.

فالكلام في هذه الآيات يجري مجرى قول المتكلم منا أثناء حديثه لمخاطبه إذا بادر إلى تتميم بعض كلام المتكلم باللفظة و اللفظتين قبل أن يلفظ بها المتكلم و ذلك يشغله عن التجرد للإنصات فيقطع المتكلم حديثه و يعترض و يقول لا تعجل بكلامي و أنصت لتفقه ما أقول لك ثم يمضي في حديثه.

فقوله: «لا تحرك به لسانك لتعجل به» الخطاب فيه للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و الضميران للقرآن الذي يوحى إليه أو للوحي، و المعنى لا تحرك بالوحي لسانك لتأخذه عاجلا فتسبقنا إلى قراءة ما لم نقرأ بعد فهو كما مر في معنى قوله: «و لا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه»: طه: 114.

و قوله: «إن علينا جمعه و قرآنه» القرآن هاهنا مصدر كالفرقان و الرجحان، و الضميران للوحي، و المعنى لا تعجل به إذ علينا أن نجمع ما نوحيه إليك بضم بعض أجزائه إلى بعض و قراءته عليك فلا يفوتنا شيء منه حتى يحتاج إلى أن تسبقنا إلى قراءة ما لم نوحه بعد.

و قيل: المعنى إن علينا أن نجمعه في صدرك بحيث لا يذهب عليك شيء من معانيه و أن نثبت قراءته في لسانك بحيث تقرأه متى شئت و لا يخلو من بعد.

و قوله: «فإذا قرأناه فاتبع قرآنه» أي فإذا أتممنا قراءته عليك وحيا فاتبع قراءتنا له و اقرأ بعد تمامها.

و قيل: المراد باتباع قرآنه اتباعه ذهنا بالإنصات و التوجه التام إليه و هو معنى لا بأس به.

و قيل: المراد فاتبع في الأوامر و النواهي قرآنه، و قيل: المراد اتباع قراءته بالتكرار حتى يرسخ في الذهن و هما معنيان بعيدان.

و قوله: «ثم إن علينا بيانه» أي علينا إيضاحه عليك بعد ما كان علينا جمعه و قرآنه فثم للتأخير الرتبي لأن البيان مترتب على الجمع و القراءة رتبة.

و قيل، المعنى ثم إن علينا بيانه للناس بلسانك نحفظه في ذهنك عن التغير و الزوال حتى تقرأه على الناس.

و قال بعضهم في معنى هذه الآيات إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يحرك لسانه عند الوحي بما ألقي إليه من القرآن مخافة أن ينساه فنهي عن ذلك بالآيات و أمر بالإنصات حتى يتم الوحي فضمير «لا تحرك به» للقرآن أو الوحي باعتبار ما قرأ عليه منه لا باعتبار ما لم يقرأ بعد.

و فيه أنه لا يلائم سياق الآيات، تلك الملاءمة نظرا إلى ما فيها من النهي عن العجل و الأمر باتباع قرآنه تعالى بعد ما قرأ، و كذا قوله، «إن علينا جمعه و قرآنه» فذلك كله أظهر فيما تقدم منها في هذا المعنى.

و عن بعضهم في معنى هذه الآيات، الذي اختاره أنه لم يرد القرآن، و إنما أراد قراءة العباد لكتبهم يوم القيامة يدل على ذلك ما قبله و ما بعده، و ليس فيه شيء يدل على أنه القرآن و لا شيء من أحكام الدنيا.

و في ذلك تقريع و توبيخ له حين لا تنفعه العجلة يقول: لا تحرك لسانك بما تقرأه من صحيفتك التي فيها أعمالك يعني اقرأ كتابك و لا تعجل فإن هذا الذي هو على نفسه بصيرة إذا رأى سيئاته ضجر و استعجل فيقال له توبيخا: لا تعجل و تثبت لتعلم الحجة عليك فإنا نجمعها لك فإذا جمعناه فاتبع ما جمع عليك بالانقياد لحكمه و الاستسلام للتبعة فيه فإنه لا يمكنك إنكاره ثم إن علينا بيانه لو أنكرت.

انتهى.

و يدفعه أن المعترضة لا تحتاج في تمام معناها إلى دلالة مما قبلها و ما بعدها عليه على أن مشاكلة قوله: «و لا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه» في سياقه لهذه الآيات تؤيد مشاكلتها له في المعنى.

و عن بعضهم أن الآيات الأربع متصلة بما تقدم من حديث يوم القيامة، و خطاب «لا تحرك» للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و ضمير «به» ليوم القيامة، و المعنى لا تتفوه بالسؤال عن وقت القيامة أصلا و لو كنت غير مكذب و لا مستهزىء «لتعجل به» أي بالعلم به «إن علينا جمعه و قرآنه» أي من الواجب في الحكمة أن نجمع من نجمعه فيه و نوحي شرح وصفه إليك في القرآن «فإذا قرأناه فاتبع قرآنه» أي إذا قرأنا ما يتعلق به فاتبع ذلك بالعمل بما يقتضيه من الاستعداد له «ثم إن علينا بيانه» أي إظهار ذلك بالنفخ في الصور انتهى ملخصا و هو كما ترى.

و قد تقدم في تفسير قوله: «و لا تعجل بالقرآن» إن هذا النهي عن العجل بالقرآن يؤيد ما ورد في الروايات أن للقرآن نزولا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دفعة غير نزوله تدريجا.

قوله تعالى: «كلا بل تحبون العاجلة و تذرون الآخرة» خطاب للناس و ليس من تعميم الخطاب السابق في شيء لأن خطاب «لا تحرك» اعتراضي غير مرتبط بشيء من طرفيه.

و قوله: «كلا» ردع عن قوله السابق: «يحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه» و قوله: «بل تحبون العاجلة» - أي الحياة العاجلة و هي الحياة الدنيا - «و تذرون الآخرة» أي تتركون الحياة الآخرة، و ما في الكلام من الإضراب إضراب عن حسبان عدم الإحياء بعد الموت نظير الإضراب في قوله: «بل يريد الإنسان ليفجر أمامه».

قوله تعالى: «وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة» وصف ليوم القيامة بانقسام الوجوه فيه إلى قسمين: ناضرة و باسرة، و نضرة الوجه و اللون و الشجر و نحوها و نضارتها حسنها و بهجتها.

و المعنى: نظرا إلى ما يقابله من قوله: «و وجوه يومئذ باسرة» إلخ وجوه يوم إذ تقوم القيامة حسنة متهللة ظاهرة المسرة و البشاشة قال تعالى: «تعرف في وجوههم نضرة النعيم»: المطففين: 24، و قال: «و لقاهم نضرة و سرورا»: الدهر: 11.

و قوله: «إلى ربها ناظرة» خبر بعد خبر لوجوه، و «إلى ربها» متعلق بناظرة قدم عليها لإفادة الحصر أو الأهمية.

و المراد بالنظر إليه تعالى ليس هو النظر الحسي المتعلق بالعين الجسمانية المادية التي قامت البراهين القاطعة على استحالته في حقه تعالى بل المراد النظر القلبي و رؤية القلب بحقيقة الإيمان على ما يسوق إليه البرهان و يدل عليه الأخبار المأثورة عن أهل العصمة (عليهم السلام) و قد أوردنا شطرا منها في ذيل تفسير قوله تعالى: «قال رب أرني أنظر إليك»: الأعراف: 143، و قوله تعالى: «ما كذب الفؤاد ما رأى»: النجم: 11.

فهؤلاء قلوبهم متوجهة إلى ربهم لا يشغلهم عنه سبحانه شاغل من الأسباب لتقطع الأسباب يومئذ، و لا يقفون موقفا من مواقف اليوم و لا يقطعون مرحلة من مراحله إلا و الرحمة الإلهية شاملة لهم «و هم من فزع يومئذ آمنون»: النمل: 89 و لا يشهدون مشهدا من مشاهد الجنة و لا يتنعمون بشيء من نعيمها إلا و هم يشاهدون ربهم به لأنهم لا ينظرون إلى شيء و لا يرون شيئا إلا من حيث إنه آية لله سبحانه و النظر إلى الآية من حيث إنها آية و رؤيتها نظر إلى ذي الآية و رؤية له.

و من هنا يظهر الجواب عما أورد على القول بأن تقديم «إلى ربها» على «ناظرة» يفيد الحصر و الاختصاص، إن من الضروري أنهم ينظرون إلى غيره تعالى كنعم الجنة.

و الجواب أ لما لم يحجبوا عن ربهم كان نظرهم إلى كل ما ينظرون إليه إنما هو بما أنه آية، و الآية بما أنها آية لا تحجب ذا الآية و لا تحول بينه و بين الناظر إليه فالنظر إلى الآية نظر إلى ذي الآية فهؤلاء لا ينظرون في الحقيقة إلا إلى ربهم.

و أما ما أجيب به عنه أن تقديم «إلى ربها» لرعاية الفواصل و لو سلم أنه للاختصاص فالنظر إلى غيره في جنب النظر إليه لا يعد نظرا، و لو سلم فالنظر إليه تعالى في بعض الأحوال لا في جميعها.

فلا يخلو من تكلف التقييد من غير مقيد على أنه أسند النظر إلى الوجوه لا إلى العيون أو الأبصار و وجوه أهل الجنة إلى ربهم دائما من غير أن يواجهوا بها غيره.

قوله تعالى: «و وجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة» فسر البسور بشدة العبوس و الظن بالعلم و «فاقرة» صفة محذوفة الموصوف أي فعله فاقرة، و الفاقرة من فقره إذا أصاب فقار ظهره، و قيل: من فقرت البعير إذا وسمت أنفه بالنار.

و المعنى: و وجوه يومئذ شديدة العبوس تعلم أنه يفعل بها فعلة تقصم ظهورها أو تسم أنوفها بالنار، و احتمل أن يكون تظن خطابا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما أنه سامع و الظن بمعناه المعروف.

قوله تعالى: «كلا إذا بلغت التراقي» ردع عن حبهم العاجلة و إيثارها على الآخرة كأنه قيل: ارتدعوا عن ذلك فليس يدوم عليكم و سينزل عليكم الموت فتساقون إلى ربكم و فاعل «بلغت» محذوف يدل عليه السياق كما في قوله تعالى: «فلو لا إذا بلغت الحلقوم»: الواقعة: 83 و التقدير إذا بلغت النفس التراقي.

و التراقي العظام المكتنفة للنحر عن يمين و شمال جمع ترقوة، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: «و قيل من راق» اسم فاعل من الرقى أي قال من حضره من أهله و أصدقائه من يرقيه و يشفيه؟ كلمة يأس، و قيل: المعنى قال بعض الملائكة لبعض: من يرقى بروحه من الملائكة أ ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟.

قوله تعالى: «و ظن أنه الفراق» أي و علم الإنسان المحتضر من مشاهدة هذه الأحوال أنه مفارقته للعاجلة التي كان يحبها و يؤثرها على الآخرة.

قوله تعالى: «و التفت الساق بالساق» ظاهره أن المراد به التفاف ساق المحتضر بساقه ببطلان الحياة السارية في أطراف البدن عند بلوغ الروح التراقي.

و قيل: المراد به التفاف شدة أمر الآخرة بأمر الدنيا، و قيل: التفاف حال الموت بحال الحياة، و قيل: التفاف ساق الدنيا و هي شدة كرب الموت بساق الآخرة و هي شدة هول المطلع.

و لا دليل من جهة اللفظ على شيء من هذه المعاني نعم من الممكن أن يقال: إن المراد بالتفاف الساق بالساق غشيان الشدائد و تعاقبها عليه واحدة بعد أخرى من حينه ذلك إلى يوم القيامة فينطبق على كل من المعاني.

قوله تعالى: «إلى ربك يومئذ المساق» المساق مصدر ميمي بمعنى السوق، و المراد بكون السوق يومئذ إليه تعالى أنه الرجوع إليه، و عبر بالمساق للإشارة إلى أن لا خيرة للإنسان في هذا المسير و لا مناص له عنه فهو مسوق مسير من يوم موته و هو قوله، «إلى ربك يومئذ المساق» حتى يرد على ربه يوم القيامة و هو قوله: «إلى ربك يومئذ المستقر» و لو كان تقديم «إلى ربك» لإفادة الحصر أفاد انحصار الغاية في الرجوع إليه تعالى.

و قيل: الكلام على تقدير مضاف و تقديم «إلى ربك» لإفادة الحصر و التقدير إلى حكم ربك يومئذ المساق أي يساق ليحكم الله و يقضي فيه بحكمه، أو التقدير إلى موعد ربك و هو الجنة و النار، و قيل: المراد برجوع المساق إليه تعالى أنه تعالى هو السائق لا غير، و الوجه ما تقدم.

قوله تعالى: «فلا صدق و لا صلى و لكن كذب و تولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى» الضمائر راجعة إلى الإنسان المذكور في قوله: «أ يحسب الإنسان» إلخ، و المراد بالتصديق المنفي تصديق الدعوة الحقة التي يتضمنها القرآن الكريم، و بالتصلية المنفية التوجه العبادي إليه تعالى بالصلاة التي هي عمود الدين.

و التمطي - على ما في المجمع، - تمدد البدن من الكسل و أصله أن يلوي مطاه أي ظهره، و المراد بتمطيه في ذهابه التبختر و الاختيال استعارة.

و المعنى: فلم يصدق هذا الإنسان الدعوة فيما فيها من الاعتقاد و لم يصل لربه أي لم يتبعها فيما فيها من الفروع و ركنها الصلاة و لكن كذب بها و تولى عنها ثم ذهب إلى أهله يتبختر و يختال مستكبرا.

قوله تعالى: «أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى» لا ريب أنه كلمة تهديد كررت لتأكيد التهديد، و لا يبعد - و الله أعلم - أن يكون قوله: «أولى لك» خبرا لمبتدإ محذوف هو ضمير عائد إلى ما ذكر من حال هذا الإنسان و هو أنه لم يصدق و لم يصل و لكن كذب و تولى ثم ذهب إلى أهله متبخترا مختالا، و إثبات ما هو فيه من الحال له كناية عن إثبات ما هو لازمه من التبعة و العقاب.

فيكون الكلام و هي كلمة ملقاة من الله تعالى إلى هذا الإنسان كلمة طبع طبع الله بها على قلبه حرم بها الإيمان و التقوى و كتب عليه أنه من أصحاب النار، و الآيتان تشبهان بوجه قوله تعالى: «فإذا أنزلت سورة محكمة و ذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم»: سورة محمد 20.

و المعنى: ما أنت عليه من الحال أولى و أرجح لك فأولى ثم أولى لك فأولى لتذوق وبال أمرك و يأخذك ما أعد لك من العذاب.

و قيل: أولى لك اسم فعل مبني و معناه وليك شر بعد شر.

و قيل: أولى فعل ماض دعائي من الولي بمعنى القرب و فاعل الفعل ضمير مستتر عائد إلى الهلاك و اللام مزيدة و المعنى أولاك الهلاك.

و قيل: الفاعل ضمير مستتر راجع إليه تعالى و اللام مزيدة، و المعنى أولاك الله ما تكرهه، أو غير مزيدة و المعنى أدناك الله مما تكرهه.

و قيل: معناه الذم أولى لك من تركه إلا أنه حذف و كثر في الكلام حتى صار بمنزلة الويل لك و صار من المحذوف الذي لا يجوز إظهاره.

و قيل: المعنى أهلكك الله هلاكا أقرب لك من كل شر و هلاك.

و قيل: أولى أفعل تفضيل بمعنى الأحرى، و خبر لمبتدإ محذوف يقدر كما يليق بمقامه فالتقدير هنا النار أولى لك أي أنت أحق بها و أهل لها فأولى.

و هي وجوه ضعيفة لا تخلو من تكلف و الوجه الأخير قريب مما قدمنا و ليس به.

قوله تعالى: «أ يحسب الإنسان أن يترك سدى» مختتم فيه رجوع إلى ما في مفتتح السورة من قوله: «أ يحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه».

و الاستفهام للتوبيخ، و السدي المهمل، و المعنى أ يظن الإنسان أن يترك مهملا لا يعتنى به فلا يبعث بإحيائه بعد الموت و لازمه أن لا يكلف و لا يجزى.

قوله تعالى: «أ لم يك نطفة من مني يمنى» اسم كان ضمير راجع إلى الإنسان، و إمناء المني صبه في الرحم.

قوله تعالى: «ثم كان علقة فخلق فسوى» أي ثم كان الإنسان - أو المني - قطعة من دم منعقد فقدره فصوره بالتعديل و التكميل.

قوله تعالى: «فجعل منه الزوجين الذكر و الأنثى» أي فجعل من الإنسان الصنفين: الذكر و الأنثى.

قوله تعالى: «أ ليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى» احتجاج على البعث الذي ينكرونه استبعادا له بعموم القدرة و ثبوتها على الخلق الابتدائي و الإعادة لا تزيد على الابتداء مئونة بل هي أهون، و قد تقدم الكلام في تقريب هذه الحجة في تفسير الآيات المتعرضة لها مرارا.

بحث روائي

في الدر المنثور، أخرج الطيالسي و أحمد و عبد بن حميد و البخاري و مسلم و الترمذي و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن الأنباري في المصاحف و الطبراني و ابن مردويه و أبو نعيم و البيهقي معا في الدلائل عن ابن عباس قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعالج من التنزيل شدة، و كان يحرك به لسانه و شفتيه مخافة أن ينفلت منه يريد أن يحفظه فأنزل الله «لا تحرك به لسانك لتعجل به - إن علينا جمعه و قرآنه» قال: إن علينا أن نجمعه في صدرك ثم نقرأه «فإذا قرأناه» يقول: إذا أنزلناه عليك «فاتبع قرآنه» فاستمع له و أنصت «ثم إن علينا بيانه» بينه بلسانك، و في لفظ علينا أن نقرأه فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ذلك إذا أتاه جبريل أطرق و في لفظ استمع فإذا ذهب قرأ كما وعده الله.

و فيه، أخرج ابن المنذر و ابن مردويه عن ابن عباس قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أنزل عليه القرآن تعجل بقراءته ليحفظه فنزلت هذه الآية «لا تحرك به لسانك». و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يعلم ختم سورة حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم.

أقول: و روي ما في معنى صدر الحديث في المجمع، عن ابن جبير و في معناه غير واحد من الروايات، و قد تقدم أن في انطباق هذا المعنى على الآيات خفاء.

و في تفسير القمي،: قوله تعالى: «كلا بل تحبون العاجلة» قال: الدنيا الحاضرة «و تذرون الآخرة» قال: تدعون «وجوه يومئذ ناضرة» أي مشرقة «إلى ربها ناظرة» قال: ينظرون إلى وجه الله أي رحمة الله و نعمته.

و في العيون، في باب ما جاء عن الرضا (عليه السلام) من أخبار التوحيد بإسناده إلى إبراهيم بن أبي محمود قال: قال علي بن موسى الرضا (عليهما السلام): في قوله تعالى: «وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة» يعني مشرقة تنتظر ثواب ربها:. أقول: و رواه في التوحيد، و الاحتجاج، و المجمع، عن علي (عليه السلام)، و قد اعترض على أخذ ناظرة بمعنى منتظرة بأن الانتظار لا يتعدى بإلى بل هو متعد بنفسه، و رد عليه في مجمع البيان بالاستشهاد بقول جميل بن معمر: و إذا نظرت إليك من ملك.

و البحر دونك جدتني نعما.

و قول الآخر: إني إليك لما وعدت لناظر.

نظر الفقير إلى الغني الموسر.

و عد في الكشاف إطلاق النظر في الآية بمعنى الانتظار استعمالا كنائيا و هو معنى حسن.

و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و الترمذي و ابن جرير و ابن المنذر و الآجري في الشريعة و الدارقطني في الرؤية و الحاكم و ابن مردويه و اللالكائي في السنة و البيهقي عن ابن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن أدنى أهل الجنة منزلا لمن ينظر إلى جنانه و أزواجه و نعيمه و خدمه و سرره مسيرة ألف سنة و أكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة و عشية. ثم قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «وجوه يومئذ ناضرة» قال: البياض و الصفاه «إلى ربها ناظرة» قال: ينظر كل يوم في وجهه.

أقول: الرواية تقبل الانطباق على المعنى الذي أوردناه في تفسير الآية، و مع الغض عنه تقبل الحمل على رحمته و فضله و كرمه تعالى و سائر صفاته الفعلية فإن وجه الشيء ما يستقبل به الشيء غيره و ما يستقبل به الله سبحانه خلقه هو صفاته الكريمة فالنظر إلى رحمة الله و فضله و كرمه و صفاته الكريمة نظر إلى وجه الله الكريم.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): في قول الله. «وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة» قال: ينظرون إلى ربهم بلا كيفية و لا حد محدود و لا صفة معلومة.

أقول: و الرواية تؤيد ما قدمنا في تفسير الآية أن المراد به النظر القلبي و رؤية القلب دون العين الحسية، و هي تفسر ما ورد في عدة روايات من طرق أهل السنة مما ظاهره التشبيه و أن الرؤية بالعين الحسية التي لا تفارق المحدودية.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «كلا إذا بلغت التراقي» قال: يعني النفس إذا بلغت الترقوة «و قيل من راق» قال: يقال له: من يرقيك «و ظن أنه الفراق» علم أنه الفراق و في الكافي، بإسناده إلى جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز و جل «و قيل من راق و ظن أنه الفراق» قال: فإن ذلك ابن آدم إذا حل به الموت قال: هل من طبيب «و ظن أنه الفراق» أيقن بمفارقة الأحبة «و التفت الساق بالساق» قال: التفت الدنيا بالآخرة «إلى ربك يومئذ المساق» قال: المسير إلى رب العالمين.

و في تفسير القمي،: «و التفت الساق بالساق» قال: التفت الدنيا بالآخرة «إلى ربك يومئذ المساق» قال: يساقون إلى الله.

و في العيون، بإسناده عن عبد العظيم الحسني قال، سألت محمد بن علي الرضا (عليه السلام) عن قول الله عز و جل، «أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى» قال: يقول الله عز و جل بعدا لك من خير الدنيا و بعدا لك من خير الآخرة.

أقول: يمكن إرجاعه إلى ما قدمناه من معنى الآيتين، و كذا إلى بعض ما قيل فيه.

و في المجمع، و جاءت الرواية: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أخذ بيد أبي جهل ثم قال له: أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى. فقال أبو جهل: بأي شيء تهددني لا تستطيع أنت و ربك أن تفعلا بي شيئا، و إني لأعز أهل هذا الوادي، فأنزل الله سبحانه كما قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

أقول: و روي ما في معناه في الدر المنثور، عن عدة عن قتادة قال: ذكر لنا و ساق الحديث.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «أ يحسب الإنسان أن يترك سدى» قال: لا يحاسب و لا يعذب و لا يسأل عن شيء.

و في العلل، بإسناده إلى مسعدة بن زياد قال: قال رجل لجعفر بن محمد (عليهما السلام)، يا أبا عبد الله إنا خلقنا للعجب قال: و ما ذلك لله أنت؟ قال: خلقنا للفناء فقال يا ابن أخ خلقنا للبقاء، و كيف يفنى جنة لا تبيد و نار لا تخمد؟ و لكن قل: إنما نتحول من دار إلى دار.

و في المجمع، و جاء في الحديث عن البراء عن عازب قال: لما نزلت هذه الآية «أ ليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى» قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): سبحانك اللهم و بلى: و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).

أقول: و روي في الدر المنثور، عن أبي هريرة و غيره: أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا قرأ الآية قال: سبحانك اللهم و بلى، و كذا في العيون، عن الرضا (عليه السلام): أنه كان إذا قرأ السورة قال عند الفراغ سبحانك اللهم بلى.

العودة إلى القائمة

النهاية