الميزان في تفسير القرآن

سورة المدثر

49 - 56

فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَل لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَن شَاء ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)

بيان

في معنى الاستنتاج مما تقدم من الوعيد و الوعد أورد في صورة التعجب من إعراضهم عن تذكرة القرآن و تنفرهم عن الحق الصريح كأنه قيل: فإذا كان كذلك فعليهم أن يجيبوا دعوة الحق و يتذكروا بالتذكرة فمن العجب أنهم معرضون عن ذلك كلا بل لا يؤمنون بالرسالة و يريد كل امرىء منهم أن ينزل عليه كتاب من الله.

كلا بل لا يخافون الآخرة فلا يرتدعون عن وعيد.

ثم يعرض عليهم التذكرة عرضا فهم على خيرة من القبول و الرد فإن شاءوا قبلوا و إن شاءوا ردوا، لكن عليهم أن يعلموا أنهم غير مستقلين في مشيتهم و ليسوا بمعجزين لله سبحانه فليس لهم أن يذكروا إلا أن يشاء الله، و حكم القدر جار فيهم البتة.

قوله تعالى: «فما لهم عن التذكرة معرضين» تفريع على ما تقدم من التذكرة و الموعظة، و الاستفهام للتعجيب، و «لهم» متعلق بمحذوف و التقدير فما كان لهم: و «معرضين» حال من ضمير «لهم» و «عن التذكرة» متعلق بمعرضين.

و المعنى: فإذا كان كذلك فأي شيء كان - عرض - للمشركين الذين يكذبون بتذكرة القرآن حال كونهم معرضين عنها أي كان من الواجب عليهم أن يصدقوا و يؤمنوا لكنهم أعرضوا عنها و هو من العجب.

قوله تعالى: «كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة» تشبيه لهم من حيث حالهم في الإعراض عن التذكرة، و الحمر جمع حمار، و المراد الحمر الوحشية و الاستنفار بمعنى النفرة و القسورة الأسد و الصائد، و قد فسر بكل من المعنيين.

و المعنى: معرضين عن التذكرة كأنهم حمر وحشية نفرت من أسد أو من الصائد.

قوله تعالى: «بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى صحفا منشرة» المراد بالصحف المنشرة الكتاب السماوي المشتمل على الدعوة الحقة.

و في الكلام إضراب عما ذكر من إعراضهم، و المعنى ليس إعراضهم عن التذكرة لمجرد النفرة بل يريد كل امرىء منهم أن ينزل عليه كتاب من عند الله مشتمل على ما تشتمل عليه دعوة القرآن.

و هذه النسبة إليهم كناية عن استكبارهم على الله سبحانه أنهم إنما يقبلون دعوته و لا يردونها لو دعا كل واحد منهم بإنزال كتاب سماوي إليه مستقلا و أما الدعوة من طريق الرسالة فليسوا يستجيبونها و إن كانت حقة مؤيدة بالآيات البينة.

فالآية في معنى ما حكاه الله سبحانه من قولهم: «لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله»: الأنعام 124، و في معنى قول الأمم لرسلهم: «إن أنتم إلا بشر مثلنا» على ما قررنا من حجتهم على نفي رسالة الرسل.

و قيل: إن الآية في معنى قولهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي حكاه الله في قوله: «و لن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه»: إسراء 93.

و يدفعه أن مدلول الآية أن ينزل على كل واحد منهم صحف منشرة غير ما ينزل على غيره لا نزول كتاب واحد من السماء على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقرؤه الجميع كما هو مدلول آية الإسراء.

و قيل: المراد نزول كتب من السماء عليهم بأسمائهم أن آمنوا بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

و قيل: المراد أن ينزل عليهم كتب من السماء بالبراءة من العذاب و إسباغ النعمة حتى يؤمنوا و إلا بقوا على كفرهم و قيل غير ذلك.

و هي جميعا معان بعيدة من السياق و التعويل على ما تقدم.

قوله تعالى: «كلا بل لا يخافون الآخرة» ردع لهم بما يريدونه من نزول كتاب سماوي على كل واحد منهم فإن دعوة الرسالة مؤيدة بآيات بينة و حجج قاطعة لا تدع ريبا لمرتاب فالحجة تامة قائمة على الرسول و غيره على حد سواء من غير حاجة إلى أن يؤتى كل واحد من الناس المدعوين صحفا منشرة.

على أن الرسالة تحتاج من طهارة الذات و صلاحية النفس إلى ما يفقده نفوس سائر الناس كما هو مدلول جوابه تعالى في سورة الأنعام عن قولهم: «لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله» بقوله: «الله أعلم حيث يجعل رسالته».

و قوله: «بل لا يخافون الآخرة» إضراب عن قوله: «يريد كل امرىء منهم» إلخ، و المراد أن اقتراحهم نزول كتاب على كل امرىء منهم قول ظاهري منهم يريدون به صرف الدعوة عن أنفسهم، و السبب الحقيقي لكفرهم و تكذيبهم بالدعوة أنهم لا يخافون الآخرة، و لو خافوها لآمنوا و لم يقترحوا آية بعد قيام الحجة بظهور الآيات البينات.

قوله تعالى: «كلا إنه تذكرة» ردع ثان لاقتراحهم نزول كتاب سماوي لكل امرىء منهم، و المعنى لا ننزل كتابا كذلك أن القرآن تذكرة و موعظة نعظهم به لا نريد به أزيد من ذلك، و أثر ذلك ما أعد للمطيع و العاصي عندنا من الجزاء.

قوله تعالى: «فمن شاء ذكره» أي فمن شاء اتعظ به فإنما هي دعوة في ظرف الاختيار من غير إكراه.

قوله تعالى: «و ما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى و أهل المغفرة» دفع لما يمكن أن يتوهموه من قوله تعالى: «فمن شاء ذكره» أن الأمر إليهم و أنهم مستقلون في إرادتهم و ما يترتب عليها من أفعالهم فإن لم يشاءوا الذكر و لم يذكروا غلبوه تعالى فيما أراد و أعجزوه فيما شاء من ذكرهم.

و المحصل من الدفع أن حكم القدر جاء في أفعالهم كغيرها من الحوادث، و تذكرهم إن تذكروا و إن كان فعلا اختياريا صادرا عنهم باختيارهم من غير إكراه فالمشية الإلهية متعلقة به بما هو اختياري بمعنى أن الله تعالى يريد بإرادة تكوينية أن يفعل الإنسان الفعل الفلاني بإرادته و اختياره فالفعل اختياري ممكن بالنسبة إلى الإنسان و هو بعينه متعلق الإرادة الإلهية ضروري التحقق بالنسبة إليها و لولاها لم يتحقق.

و قوله: «هو أهل التقوى و أهل المغفرة» أي أهل لأن يتقى منه لأن له الولاية المطلقة على كل شيء، و بيده سعادة الإنسان و شقاوته، و أهل لأن يغفر لمن اتقاه لأنه غفور رحيم.

و الجملة أعني قوله: «هو أهل التقوى و أهل المغفرة» صالحة لتعليل ما تقدم من الدعوة في قوله: «إنه تذكرة فمن شاء ذكره» و هو ظاهر، و لتعليل قوله: «و ما يذكرون إلا أن يشاء الله» فإن كونه تعالى أهل التقوى و أهل المغفرة لا يتم إلا بكونه ذا إرادة نافذة فيهم سارية في أعمالهم فليسوا بمخلين و ما يهوونه و هم معجزون لله بتمردهم و استكبارهم.

بحث روائي

في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: «بل يريد كل امرىء منهم - أن يؤتى صحفا منشرة» و ذلك أنهم قالوا: يا محمد قد بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يذنب الذنب فيصبح و ذنبه مكتوب عند رأسه و كفارته. فنزل جبرئيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و قال: يسألك قومك سنة بني إسرائيل في الذنوب فإن شاءوا فعلنا ذلك بهم و أخذناهم بما كنا نأخذ بني إسرائيل فزعموا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كره ذلك لقومه.

أقول: و القصة لا تلائم لحن الآية و الرواية لا تخلو من إيماء إلى ضعف القصة.

و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن السدي عن أبي صالح قال: قالوا: إن كان محمد صادقا فليصبح تحت رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءته و أمنته من النار فنزلت: «بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى صحفا منشرة».

أقول: سياق الآيات و ما فيها من الردع لا يلائم القصة.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن مجاهد «بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى صحفا منشرة» قال: إلى فلان بن فلان من رب العالمين يصبح عند رأس كل رجل صحيفة موضوعة يقرؤها.

أقول: ما في الرواية يقبل الانطباق على الرواية السابقة و على ما قدمناه من معنى الآية.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن قتادة في قوله تعالى: «بل يريد كل امرىء منهم - أن يؤتى صحفا منشرة» قال: قد قال قائلون من الناس لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إن سرك أن نتابعك فأتنا بكتاب خاصة يأمرنا باتباعك.

أقول: الرواية قابلة التطبيق لما في تفسير الآية من القول بأن الآية في معنى قوله تعالى: «و لن نؤمن لرقيك» الآية و قد تقدم ما فيه.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «هو أهل التقوى و أهل المغفرة» قال: هو أهل أن يتقى و أهل أن يغفر.

و في التوحيد، بإسناده إلى أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز و جل: «هو أهل التقوى و أهل المغفرة» قال: قال الله عز و جل: أنا أهل أن أتقى و لا يشرك بي عبدي شيئا و أنا أهل إن لم يشرك بي عبدي شيئا أن أدخله الجنة. و قال: إن الله تبارك و تعالى أقسم بعزته و جلاله أن لا يعذب أهل توحيده بالنار.

و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن عبد الله بن دينار قال: سمعت أبا هريرة و ابن عمر و ابن عباس يقولون: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن قول الله: «هو أهل التقوى و أهل المغفرة» قال: يقول الله: أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي شريك فإذا اتقيت و لم يجعل معي شريك فأنا أهل أن أغفر ما سوى ذلك.

أقول: و في معناه غير واحد من الروايات عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

العودة إلى القائمة

النهاية