الميزان في تفسير القرآن

سورة الأعراف

37 - 53

تابع
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (43) وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (53)

و أما طرحه الرواية فهو في محله غير أن الذي استند إليه في طرحها ليس في محله فإنه يكشف عن نحو السلوك الذي يسلكه في الأبحاث المتعلقة بالمعاد فإنه يقيس نظام الوقائع التي يقصها القرآن و الحديث ليوم القيامة إلى النظام الجاري في النشأة الدنيوية، و يعده من نوعه فيوجه منها ما لاح سبب وقوعه، و يبقي ما لا ينطبق على النظام، الدنيوي على الجمود و هو الجزاف في الإرادة فافهم ذلك.

و لو جاز أن يغني تمييز أهل الأعراف عن تمييز أهل الصراط فتبطل فائدته فيبطل بذلك أصله - كما ذكره - لأغنى الصراط نفسه عن تمييز أهل الأعراف، و أغنى عن المسألة و الحساب، و نشر الدواوين، و نصب الموازين، و حضور الأعمال، و إقامة الشهود و إنطاق الأعضاء، و لأغنى بعض هذه عن بعض، و وراء ذلك كله إحاطة رب العالمين فعلمه يغني عن الجميع، و هو لا يسأل عما يفعل.

و كأنه فرض أن نسبة الأعراف و هي أعالي الحجاب من الصراط الممدود هناك كنسبة السور و الحائط الذي عندنا إلى الصراط الممدود الذي يسلكه الطراق السالكون لا يجتمع هاهنا الصراط و السور و لا يتحدان فلا يسع لأحد أن يكون سالك صراط أو واقفا عليه و واقفا على السور معا في زمان واحد، و لذلك قال: و أين الصراط من الأعراف؟ فقاس ما هناك إلى ما هاهنا، و قد عرفت فساده.

ثم الوارد في ظواهر الحديث أن الصراط جسر ممدود على النار يعبر منه أهل المحشر من موقفهم إلى الجنة فينجي الله الذين آمنوا و يسقط الظالمون من الناس في النار فما المانع من أن يكون الحجاب الموعود مضروبا عليه و الأعراف في الحجاب؟.

على أنه فات منه أن أحد الأقوال في معنى الأعراف أنه الصراط كما رواه الطبري في تفسيره، عن ابن مسعود و رواه في الدر المنثور، عن ابن أبي حاتم عن ابن جريح قال: زعموا أنه الصراط.

و أما قوله: «هذا بعيد عن نظم الكلام و سياقه جدا» فأوضح فسادا فسياق هذه الأنباء الغيبية و النظم المأخوذ فيها يذكر لنا أمورا بنعوت عامة و بيانات مطلقة معانيها معلومة، و حقائقها مبهمة مجهولة إلا المقدار الذي تهدي إليه بياناته تعالى، و يوضع بعض أجزائه بعضا، و لا يأبى ذلك أن يقصد ببعض النعوت المذكورة فيها رجال معينون بأشخاصهم إذا انطبقت عليهم الأوصاف المذكورة فيها، و لا أن ينطبق بعض البيانات على بعض في موارد مع تعدد البيان لفظا كالعدل و الميزان مثلا.

فهذه اثنا عشر قولا و يمكن أن يضاف إلى عدتها قولان آخران: أحدهما: أنهم المستضعفون ممن لم تتم عليهم الحجة و لم يتعلق بهم التكليف كالضعفاء من الرجال و النساء و الأطفال غير البالغين، و يمكن أن يدرج في القول الثاني المتقدم بأن يقال: إنهم الذين لا تترجح أعمالهم من الحسنات أو السيئات على خلافها سواء كان ذلك لعدم تمام الحجة فيهم و تعلق التكليف بهم حتى يحاسبوا عليه كالأطفال و المجانين و أهل الفترة و نحوهم أو لأجل استواء حسناتهم و سيئاتهم في القدر و الوزن فحكم القسمين واحد.

الثاني: أنهم الذين خرجوا إلى الجهاد من غير إذن آبائهم فاستشهدوا فيها فهم من أهل النار لمعصيتهم و من أهل الجنة لشهادتهم! و عليه رواية، و يمكن إدراجه في القول الثاني.

و الأقوال المذكورة غير متقابلة جميعا في الحقيقة فإن القول بكونهم أهل الفترة و القول بكونهم أولاد الكفار إنما ملاكهما عدم ترجح شيء من الحسنات و السيئات على الآخر فيرجعان بوجه إلى القول الثاني و كذا القول بكونهم أولاد الزنا نظرا إلى أنهم لا مؤمنون و لا كفار، و كذا رجوع القول التاسع و العاشر و الحادي عشر و الثاني عشر إلى القول الأول بوجه.

فأصول الأقوال في رجال الأعراف ثلاثة: أحدها: أنهم رجال من أهل المنزلة و الكرامة على اختلاف بينهم في أنهم من هم؟ فقيل: هم الأنبياء، و قيل: الشهداء على الأعمال، و قيل: العلماء الفقهاء، و قيل: غير ذلك كما مر.

و الثاني: أنهم الذين لا رجحان في أعمالهم للحسنة على السيئة و بالعكس على اختلاف منهم في تشخيص المصداق.

و الثالث: أنهم من الملائكة، و قد مال الجمهور إلى الثاني من الأقوال، و عمدة ما استندوا إليه في ذلك أخبار مأثورة سنوردها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.

و قد عرفت أن الذي يعطيه سياق الآيات هو الأول من الأقوال حتى أن بعضهم مع تمايله إلى القول الثاني لم يجد بدا من بعض الاعتراف بعدم ملاءمة سياق الآيات ذلك كالآلوسي في روح المعاني،.

قوله تعالى: «و نادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها و هم يطمعون» المنادون هم الرجال الذين على الأعراف - على ما يعطيه السياق - و قوله: «أن سلام عليكم» يفسر ما نادوا به، و قوله: «لم يدخلوها و هم يطمعون» جملتان حاليتان فجملة «لم يدخلوها» من أصحاب الجنة، و جملة «و هم يطمعون» حال آخر من أصحاب الجنة و المعنى: أن أصحاب الجنة نودوا و هم في حال لم يدخلوا الجنة بعد و هم يطمعون في أن يدخلوها، أو حال من ضمير الجمع في «لم يدخلوها» و هو العامل فيه، و المعنى أن أصحاب الجنة نودوا بذلك و هم في الجنة لكنهم لم يدخلوا الجنة على طمع في دخولها لأن ما شاهدوه من أهوال الموقف و دقة الحساب كان أيأسهم من أن يفوزوا بدخول الجنة لكن قوله بعد: «أ هؤلاء الذين» إلى آخر الآية يؤيد أول الاحتمالين و أنهم إنما سلموا عليهم قبل دخولهم الجنة.

و أما احتمال أن تكون الجملتان حالين من ضمير الجمع في «نادوا» فيوجب سقوط الجملة عن الإفادة كما هو ظاهر، و ذلك لرجوع المعنى إلى أن هؤلاء الرجال الذين هم على أعراف الحجاب بين الجنة و النار نادوا و هم لم يدخلوا.

و على من يميل إلى أن يجعل قوله: «لم يدخلوها و هم يطمعون» بيانا لحال أصحاب الأعراف أن يجعل قوله: «لم يدخلوها» استئنافا يخبر عن حال أصحاب الأعراف أو صفة لرجال و التقدير: و على الأعراف رجال لم يدخلوها و هم يطمعون و إذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا... إلخ كما نقل عن الزمخشري في الكشاف،.

لكن يبعد الاستئناف أن اللازم حينئذ إظهار الفاعل في قوله: «لم يدخلوها» دون إضماره لمكان اللبس كما فعل ذلك في قوله: «و نادى أصحاب الأعراف رجالا» إلخ، و يبعد الوصفية الفصل بين الموصوف و الصفة بقوله: «و نادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم» من غير ضرورة موجبة.

و هذا التقدير الذي تقدم أعني رجوع معنى قوله: «لم يدخلوها و هم يطمعون و إذا صرفت أبصارهم» إلى آخر الآية، إلى قولنا: و على الأعراف رجال يطمعون في دخول الجنة و يتعوذون من دخول النار - على ما زعموا - هو الذي مهد لهم الطريق و سواه للقول بأن أصحاب الأعراف رجال استوت حسناتهم و سيئاتهم فلم يترجح لهم أن يدخلوا الجنة أو النار فأوقفوا على الأعراف!.

لكنك عرفت أن قوله «لم يدخلوها» إلخ، حال أصحاب الجنة لا وصف أصحاب الأعراف، و أما قوله: «و إذا صرفت أبصارهم» إلخ، فسيأتي ما في كونه بيانا لحال أصحاب الأعراف من الكلام.

قوله تعالى: «و إذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين» التلقاء كالبيان مصدر لقي يلقى ثم استعمل بمعنى جهة اللقاء، و ضمير الجمع في قوله: «أبصارهم» و قوله: «قالوا» عائد إلى «رجال» و التعبير عن النظر إلى أصحاب النار بصرف أبصارهم إليه كأن الوجه فيه أن الإنسان لا يحب إلقاء النظر إلى ما يؤلمه النظر إليه و خاصة في مثل المورد الذي يشاهد الناظر فيه أفظع الحال و أمر العذاب و أشقه الذي لا يطاق النظر إليه غير أن اضطراب النفس و قلق القلب ربما يفتح العين نحوه للنظر إليه كان غيره هو الذي صرف نظره إليه و إن كان الإنسان لو خلي و طبعه لم يرغب في النظر و لو بوجه نحوه، و لذا قيل: «و إذا صرفت أبصارهم» إلخ و لم يقل و إذا نظروا إليه أو ما يفيد مفاده.

و معنى الآية: و إذا نظر أصحاب الأعراف أحيانا إلى أصحاب النار تعوذوا بالله من أن يجعلهم مع أصحاب النار فيدخلهم النار، و قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين.

و ليس دعاؤهم هذا الدعاء دالا على سقوط منزلتهم، و خوفهم من دخول النار كما يدل على رجائهم دخول الجنة قوله «و هم يطمعون» و ذلك أن ذلك مما دعا به أولوا العزم من الرسل و الأنبياء المكرمون و العباد الصالحون و كذا الملائكة المقربون فلا دلالة فيه و لو بالإشعار الضعيف على كون الداعي ذا سقوط في حاله و حيرة من أمره.

هذا ما فسروا به الآية بإرجاع ضميري الجمع إلى «رجال».

لكنك خبير بأن ذلك لا يلائم الإظهار الذي في مفتتح الآية التالية في قوله: «و نادى أصحاب الأعراف» إذ الكلام في هذه الآيات الأربع جار في أوصاف أصحاب الأعراف و أخبارهم كقوله: «يعرفون كلا» إلخ، و قوله: «و نادوا أصحاب الجنة» إلخ و قوله: «لم يدخلوها» إلخ، على احتمال، و قوله: «و إذا صرفت أبصارهم» إلخ، فكان من اللازم أن يقال: «و نادوا - أي أصحاب الأعراف - رجالا يعرفونهم» إلخ، و ليس في الكلام أي لبس و لا نكتة ظاهرة توجب العدول من الإضمار الذي هو الأصل في المقام إلى الإظهار بمثل قوله: «و نادى أصحاب الأعراف».

فالظاهر أن ضميري الجمع أعني ما في قوله: «أبصارهم» و قوله «قالوا» راجعان إلى أصحاب الجنة، و الجملة إخبار عن دعائهم إذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار كما أن الجملة السابقة بيان لطمعهم في دخول الجنة، و كل ذلك قبل دخولهم الجنة.

قوله تعالى: «و نادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم» إلى آخر الآية، في توصيف الرجال بقوله: «يعرفونهم بسيماهم» دلالة على أن سيماءهم كما يدلهم على أصل كونهم من أصحاب الجنة يدلهم على أمور أخر من خصوصيات أحوالهم، و قد مرت الإشارة إليه.

و قوله: «قالوا ما أغنى عنكم جمعكم و ما كنتم تستكبرون» تقريع لهم و شماتة، و كشف عن تقطع الأسباب الدنيوية عنهم فقد كانوا يستكبرون عن الحق و يستذلونه و يغترون بجمعهم.

قوله تعالى: «أ هؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة» إلى آخر الآية.

الإشارة إلى أصحاب الجنة، و الاستفهام للتقرير أي هؤلاء هم الذين كنتم تجزمون قولا أنهم لا يصيبهم فيما يسلكونه من طريق العبودية خير، و أصابه الخير هي نيله تعالى إياهم برحمة و وقوع النكرة - برحمة - في حيز النفي يفيد استغراق النفي للجنس، و قد كانوا ينفون عن المؤمنين كل خير.

و قوله: ادخلوا الجنة لا خوف عليكم و لا أنتم تحزنون، أمر من أصحاب الأعراف للمؤمنين أن يدخلوا الجنة بعد تقرير حالهم بالاستفهام، و هذا هو الذي يفيده السياق.

و قول بعضهم في الآية: إنها بتقدير القول أي قيل لهم من قبل الرحمن: ادخلوا الجنة لا خوف عليكم مما يكون في مستقبل أمركم، و لا أنتم تحزنون من شيء ينغص عليكم حاضركم، و حذف القول للعلم به من قرائن الكلام كثير في التنزيل و في كلام العرب الخلص انتهى.

مدفوع بعدم مساعدة السياق و دلالة القرائن عليه بوجه كما تقدم بيانه، و ليس إذا جاز تقدير القول في محل لتبادر معناه من الكلام جاز ذلك في أي مقام أريد، و أي سياق أم أية قرينة تدل على ذلك في المقام؟

كلام في معنى الأعراف في القرآن

لم يذكر الأعراف في القرآن إلا في هذه الآيات الأربع من سورة الأعراف 46 - 49 و قد استنتج باستيفاء البحث في الآيات الشريفة أنه من المقامات الكريمة الإنسانية التي تظهر يوم القيامة، و قد مثله الله سبحانه بأن بين الدارين دار الثواب و دار العقاب حجابا يحجز إحداهما من الأخرى - و الحجاب بالطبع خارج عن حكم طرفيه في عين أنه مرتبط بهما جميعا - و للحجاب أعراف و على الأعراف رجال مشرفون على الناس من الأولين و الآخرين يشاهدون كل ذي نفس منهم في مقامه الخاص به على اختلاف مقاماتهم و درجاتهم و دركاتهم من أعلى عليين إلى أسفل سافلين، و يعرفون كلا منهم بما له من الحال الذي يخصه و العمل الذي عمله، لهم أن يكلموا من شاءوا منهم، و يؤمنوا من شاءوا، و يأمروا بدخول الجنة بإذن الله.

و يستفادوا من ذلك أن لهم موقفا خارجا من موقفي السعادة التي هي النجاة بصالح العمل، و الشقاوة التي هي الهلاك بطالح العمل، و مقاما أرفع من المقامين معا و لذلك كان مصدرا للحكم و السلطة عليهما جميعا.

و لك أن تعتبر في تفهم ذلك بما تجده عند الملوك و مصادر الحكم فهناك جماعة منعمون بنعمتهم مشمولون لرحمتهم يستدرون ضرع السعادة بما تشتهيه أنفسهم، و آخرون محبوسون في سجونهم معذبون بأليم عذابهم قد أحاط بهم هوان الشقاوة من كل جانب فهذان ظرفان ظرف السعادة و ظرف الشقاوة، و الظرفان متمايزان لا يختلطان بظرف آخر ثالث يحكم فيهما و يصلح شأن كل منهما و ينظم أمره و في هذا الظرف قوم خدمة يخدمون العرش بمداخلتهم الجانبين و إهداء النعم إلى أهل السعادة، و إيصال النقم إلى أهل الشقاوة، و هم مع ذلك من السعداء، و قوم آخر وراء الخدمة و العمال هم المدبرون لأمر الجميع و هم أقرب الوسائط من العرش، و هم أيضا من السعداء، فللسعادة مراتب من حيث الإطلاق و التقييد.

و ليس من الممتنع على ملك يوم الدين أن يخص قوما برحمته فيدخلهم بحسناتهم الجنة و يبسط عليهم بركاته بما أنه الغفور ذو الفضل العظيم، و يدخل آخرين في ناره و دار هوانه بما عملوه من سيئاتهم و هو عزيز ذو انتقام شديد العقاب ذو البطش، و يأذن لطائفة ثالثة أن يتوسطوا بينه و بين الفريقين بإجراء أوامره و أحكامه فيهم أو إصدارها عليهم بإسعاد من سعد منهم و إشقاء من شقي فإنه الواحد القهار الذي يقهر بوحدته كل شيء كما شاء بتوسيط أو إسعاد أو إشقاء، و قد قال تعالى: «لمن الملك اليوم لله الواحد القهار» فافهم.

قوله تعالى: «و نادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا» إلخ، الإفاضة من الفيض و هو سيلان الماء منصبا، قال تعالى: «ترى أعينهم تفيض من الدمع» أي يسيل دمعها منصبا، و عطف سائر ما رزقهم الله من النعم على الماء يدل على أن المراد بالإفاضة صب مطلق النعم أعم من المائع و غيره على نحو عموم المجاز، و ربما قيل: إن الإفاضة حقيقة في إعطاء النعمة الكثيرة فيكون تعليقه على الماء و غيره حقيقة حينئذ.

و كيف كان ففي الآية إشعار بعلو مكانة أهل الجنة بالنسبة إلى مكان أهل النار.

و إنما أفرز الماء و هو من جملة ما رزقهم الله ثم قدم في الذكر على سائر ما رزقهم الله لأن الحاجة إلى بارد الماء أسبق إلى الذهن طبعا بالنسبة إلى غيره عند ما تحيط الحرارة بالإنسان، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: «الذين اتخذوا دينهم لهوا و لعبا» إلى آخر الآية.

اللهو ما يشغلك عما يهمك، و اللعب الفعل المأتي به لغاية خيالية غير حقيقية، و الغرور إظهار النصح و استبطان الغش، و النسيان يقابل الذكر، و ربما يستعار لترك الشيء و عدم الاعتناء بشأنه كالشيء المنسي، و على ذلك يجري في الآية، و الجحد النفي و الإنكار، و الآية مسوقة لتفسير الكافرين، و يستفاد منها تفسيرات ثلاثة للكفر: أولها: أنه اتخاذ الإنسان دينه لهوا و لعبا و غرور الحياة الدنيا له، و الثاني: نسيان يوم اللقاء، و الثالث: الجحد بآيات الله، و لكل من التفاسير وجه.

و في قوله تعالى: «الذين اتخذوا دينهم لهوا و لعبا» دلالة على أن الإنسان لا غنى له عن الدين على أي حال حتى من اشتغل باللهو و اللعب و محض حياته فيها محضا فإن الدين - كما تقدمت الإشارة إليه في تفسير قوله: «الذين يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا» الآية - هو طريق الحياة الذي يسلكه الإنسان في الدنيا، و لا محيص له عن سلوكه، و قد نظمه الله سبحانه بحسب ما تهدي إليه الفطرة الإنسانية و دعت إليه، و هو دين الإنسان الذي يخصه و ينسب إليه، و هو الذي يهم الإنسان و يسوقه إلى غاية حقيقية هي سعادة حياته.

فحيث جرى عليه الإنسان و سلكه كان على دينه الذي هو دين الله الفطري، و حيث اشتغل عنه إلى غيره الذي يلهو عنه و لا يهديه إلا إلى غايات خيالية و هي اللذائذ المادية التي لا بقاء لها و لا نفع فيها يعود إلى سعادته فقد اتخذ دينه لهوا و لعبا و غرته الحياة الدنيا بسراب زخارفها.

و قوله تعالى: «فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا» أي اليوم نتركهم و لا نقوم بلوازم حياتهم السعيدة كما تركوا يومهم هذا فلم يقوموا بما يجب أن يعملوا له و بما كانوا بآياتنا يجحدون و نظير الآية في جعل تكذيب الآيات سببا لنسيان الله له يوم القيامة قوله: «قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها و كذلك اليوم تنسى»: طه: 126، و قد بدل هناك الجحد نسيانا.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي