الميزان في تفسير القرآن

سورة الأعراف

26 - 36

يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ (30) يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)

بيان

التدبر في هذه الخطابات و ما تقدم عليها من قصة السجدة و الجنة ثم عرض ذلك جميعا على ما ورد من القصة و المخاطبة في غير هذه السورة و خاصة سورة طه المكية التي هي كإجمال هذه السورة المفصلة و سورة البقرة المدنية يهدينا إلى أن هذه الخطابات العامة المصدرة بقوله: يا بني آدم، يا بني آدم هي تعميم الخطابات الخاصة التي وجهت إلى آدم كما أن القصة عممت نحوا من التعميم في هذه السورة، و قد أشرنا إليه فيما تقدم.

و هذه الخطابات الأربعة المصدرة بقوله: يا بني آدم ثلاثة منها راجعة إلى التحذير من فتنة الشيطان و إلى الأكل و الشرب و اللباس تعميم ما في قوله تعالى في سورة طه: «يا آدم إن هذا عدو لك و لزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك ألا تجوع فيها و لا تعرى و أنك لا تظمؤا فيها و لا تضحى» الآيات: طه: 119، و الرابعة تعميم قوله فيها: «فإما يأتينكم مني هدى» إلخ،: طه: 123.

و يعلم من انتزاع هذه الخطابات من قصته و تعميمها بعد التخصيص ثم تفريع أحكام أخرى عليها ذيلت بها الخطابات المذكورة أن هذه الأحكام المشرعة المذكورة هاهنا على الإجمال أحكام مشرعة في جميع الشرائع الإلهية من غير استثناء كما يعلم أن ما قدر للإنسان من سعادة و شقاوة و سائر المقدرات الإنسانية كالأحكام العامة جميعها تنتهي إلى تلك القصة فهي الأصل تفرعت عليه هذه الفروع، و الفهرس الذي يشير إلى التفاصيل.

قوله تعالى: «يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم و ريشا» اللباس كل ما يصلح للبس و ستر البدن و غيره، و أصله مصدر يقال: لبس يلبس لبسا - بالكسر و الفتح - و لباسا، و الريش ما فيه الجمال مأخوذ من ريش الطائر لما فيه من أنواع الجمال و الزينة، و ربما يطلق على أثاث البيت و متاعه.

و كان المراد من إنزال اللباس و الريش عليهم خلقه لهم كما في قوله تعالى: «و أنزلنا الحديد فيه بأس شديد و منافع»: الحديد: 25، و قوله: و أنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج»: الزمر: 6، و قد قال تعالى: «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم»: الحجر 21، فقد أنزل الله اللباس و الريش بالخلق من غيب ما عنده إلى عالم الشهادة و هو الخلق.

و اللباس هو الذي يعمله الإنسان صالحا لأن يستعمله بالفعل دون المواد الأصلية من قطن أو صوف أو حرير أو غير ذلك مما يأخذه الإنسان فيضيف إليه أعمالا صناعية من تصفية و غزل و نسج و قطع و خياطة فيصير لباسا صالحا للبس فعد اللباس و الريش من خلق الله و هما من عمل الإنسان نظير ما في قوله تعالى: «و الله خلقكم و ما تعملون»: الصافات: 96، من النسبة.

و لا فرق من جهة النظر في التكوين بين نسبة ما عمله الإنسان إلى الله سبحانه و ما عمله منته إلى أسباب جمة أحدها الإنسان، و نسبة سائر ما عملته الطبائع و لها أسباب كثيرة أحدها الفاعل كنبات الأرض و صفرة الذهب و حلاوة العسل فإن جميع الأسباب بجميع ما فيها من القدرة منتهية إليه سبحانه و هو محيط بها.

و ليست الخلقة منتسبة إلى الأشياء على وتيرة واحدة و إن كانت جميع مواردها متفقة في معنى الانتهاء إليه إلا ما فيه معنى النقص و القبح و الشناعة من المعاصي و نحوها فحقيقتها فقدان الخلقة الحسنة أو مخالفة الأمر الإلهي، و ليست بمخلوقة له و إنما هي أوصاف نقص في أعمال الإنسان مثلا في باطنه أو ظاهره، و قد تكررت الإشارة إلى هذه الحقيقة فيما مر من أجزاء هذا الكتاب.

و توصيف اللباس بقوله: «يواري سوآتكم» للدلالة على أن المراد باللباس ما ترفع به حاجة الإنسان التي اضطرته إلى اتخاذ اللباس و هي مواراة سوآته التي يسوؤه انكشافها و أما الريش فإنما يتخذه لجمال زائد على أصل الحاجة.

و في الآية امتنان بهداية الإنسان إلى اللباس و الريش و فيها - كما قيل - دلالة على إباحة لباس الزينة.

قوله تعالى: «و لباس التقوى ذلك خير» إلى آخر الآية.

انتقل سبحانه من ذكر لباس الظاهر الذي يواري سوآت الإنسان فيتقي به أن يظهر منه ما يسوؤه ظهوره، إلى لباس الباطن الذي يواري السوآت الباطنية التي يسوء الإنسان ظهورها و هي رذائل المعاصي من الشرك و غيره، و هذا اللباس هو التقوى الذي أمر الله به.

و ذلك أن الذي يصيب الإنسان من ألم المساءة و ذلة الهوان من ظهور سوآته روحي من سنخ واحد في السوآتين إلا أن ألم ظهور السوآت الباطنية أشد و أمر و أبقى فالمحاسب هو الله، و التبعة شقوة لازمة، و نار تطلع على الأفئدة، و لذلك كان لباس التقوى خيرا من لباس الظاهر.

و للإشارة إلى هذا المعنى و تتميم الفائدة عقب الكلام بقوله: «ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون» فاللباس الذي اهتدى إليه الإنسان ليرفع به حاجته إلى مواراة سوآته التي يسوؤه ظهورها آية إلهية إن تأمله الإنسان و تبصر به تذكر أن له سوآت باطنية تسوؤه إن ظهرت و هي رذائل النفس، و سترها عليه أوجب و ألزم من ستر السوآت الظاهرية بلباس الظاهر و اللباس الذي يسترها و يرفع حاجة الإنسان الضرورية هو لباس التقوى الذي أمر الله به و بينه بلسان أنبيائه.

و في تفسير لباس التقوى أقوال أخر مأثورة عن المفسرين، فقيل: هو الإيمان و العمل الصالح، و قيل: هو حسن السمت الظاهر، و قيل: هو الحياء، و قيل: هو لباس النسك و التواضع كلبس الصوف و الخشن، و قيل: هو الإسلام، و قيل: هو لباس الحرب، و قيل: هو ما يستر العورة، و قيل: هو خشية الله، و قيل: هو ما يلبسه المتقون يوم القيامة هو خير من لباس الدنيا، و أنت ترى أن شيئا من هذه الأقوال لا ينطبق على السياق ذلك الانطباق.

قوله تعالى: «يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة» إلى آخر الآية.

الكلام و إن كان مفصولا عما قبله بتصديره بخطاب «يا بني آدم» إلا أنه بحسب المعنى من تتمة المفاد السابق، و لذا أعاد ذكر السوآت ثانيا فيرجع المعنى إلى أن لكم معاشر الآدميين سوآت لا يسترها إلا لباس التقوى الذي ألبسناكموه بحسب الفطرة التي فطرناكم عليها فإياكم أن يفتنكم الشيطان فينزع عنكم ذلك كما نزع لباس أبويكم في الجنة ليريهما سوآتهما فإنا جعلنا الشياطين أولياء لمن تبعهم و لم يؤمن بآياتنا.

و من هنا يظهر أن ما صنعه إبليس بهما في الجنة من نزع لباسهما ليريهما سوآتهما كان مثالا لنزع لباس التقوى عن الآدميين بالفتنة و إن الإنسان في جنة السعادة ما لم يفتتن به فإذا افتتن أخرجه الله منها.

و قوله: «إنه يراكم هو و قبيله من حيث لا ترونهم» تأكيد للنهي و بيان لدقة مسلكه و خفاء سربه دقة لا يميزه حس الإنسان و خفاء لا يقع عليه شعوره فإنه لا يرى إلا نفسه من غير أن يشعر أن وراءه من يأمر بالشر و يهديه إلى الشقوة.

و قوله: «إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون» تأكيدا آخر للنهي، و ليست ولايتهم و تصرفهم في الإنسان إلا ولاية الفتنة و الغرور فإذا افتتن و اغتر بهم تصرفوا بما شاءوا و كما أرادوا كما قال تعالى مخاطبا لإبليس: «و استفزز من استطعت منهم بصوتك و أجلب عليهم بخيلك و رجلك و شاركهم في الأموال و الأولاد و عدهم و ما يعدهم الشيطان إلا غرورا إن عبادي ليس لك عليهم سلطان و كفى بربك وكيلا»: إسراء: 65، و قال: «إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا و على ربهم يتوكلون»: النحل: 99، و قال: «إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين»: الحجر: 42.

و من الآيات بانضمامها إلى آيتنا المبحوث عنها يظهر أن لا ولاية لهم على المؤمنين و إن مسهم طائف منهم أحيانا، و أن لا سلطان له على المتوكلين من المؤمنين و هم الذين عدهم الله عبادا له بقوله: «عبادي» فلا ولاية له إلا على الذين لا يؤمنون.

و الظاهر أن المراد به عدم الإيمان بآيات الله بتكذيبها و هو أخص من وجه من عدم الإيمان بالله الذي هو الكفر بالله بشرك أو نفي، و ذلك لأن هذا الكفر هو المذكور في الخطاب العام الذي في ذيل القصة من سورة البقرة حيث قال تعالى: «قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى - إلى أن قال - و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون»: البقرة 39، و في ذيل هذه الآيات من هذه السورة حيث قال: «و الذين كذبوا بآياتنا و استكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون»: الأعراف: 36.

قوله تعالى: «و إذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا و الله أمرنا بها» إلى آخر الآية، رجوع من الخطاب العام لبني آدم إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة ليتوسل به إلى انتزاع خطابات خاصة يوجهها إلى أمته كما جرى نظيره من الالتفات في الخطاب المتقدم يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا حيث قال: «ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون» لنظير الغرض.

و بالجملة فقد استخرج من هذا الأصل الثابت في قصة الجنة و هو أمر ظهور السوآت الذي أفضى إلى خروج آدم و زوجته من الجنة أن الله لا يرضى بالفحشاء الشنيعة من أفعال بني آدم، فذكر إتيان المشركين بالفحشاء و استنادهم في ذلك إلى عمل آبائهم و أمر الله سبحانه بها فأمر رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يرد عليهم بأن الله لا يأمر بالفحشاء، و يذكرهم أن ذلك من القول على الله بغير علم و الافتراء عليه، كيف لا؟ و قصة الجنة شاهدة عليه.

و قد ذكر لهم في فعلهم الفحشاء عذرين يعتذرون بهما و مستندين يستندون إليهما و هما فعل آبائهم و أمر الله إياهم بها، و كان الثاني هو الذي يرتبط بالخطاب العام المستخرج من قصة الجنة فقط، و لذلك تعرض لدفعه و رده عليهم، و أما استنادهم إلى فعل آبائهم فذلك و إن لم يكن مما يرتضيه الله سبحانه و قد رده في سائر كلامه بمثل قوله: «أ و لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا و لا يهتدون» فلم يتعرض لرده هاهنا لخروجه عن غرض الكلام.

و قد ذكر جمع من المفسرين أن قوله: «و إذا فعلوا فاحشة» إلخ، إشارة إلى ما كان معمولا عند أهل الجاهلية من الطواف بالبيت الحرام عراة يقولون: نطوف كما ولدتنا أمهاتنا و لا نطوف في الثياب التي قارفنا فيها الذنوب، و نقل عن الفراء أنهم كانوا يعملون شيئا من سيور مقطعة يشدونهم على حقويهم يسمى حوفا و إن عمل من صوف سمي رهطا و كانت المرأة تضع على قبلها نسعة أو شيئا آخر فتقول: اليوم يبدو بعضه أو كله.

و ما بدا منه فلا أحله.

و لم يزل دائرا بينهم حتى منعهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد الفتح حين بعث عليا (عليه السلام) بآيات البراءة إلى مكة.

و كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو بعض المسلمين كانوا يعيبونهم على ذلك فيعتذرون إليهم بقولهم: «وجدنا عليها آباءنا و الله أمرنا بها» فرد الله سبحانه عليهم و ذمهم بقوله: «إن الله لا يأمر بالفحشاء أ تقولون على الله ما لا تعلمون».

و ليس ما ذكروه ببعيد و في الآية بعض التأييد له حيث وصفت ما كانوا يفعلونه بالفحشاء و هي الأمر الشنيع الشديد القبح ثم ذكرت أنهم كانوا يعتذرون بأن الله أمرهم بذلك.

و لازم ذلك أن يكون ما فعلوه أمرا شنيعا أتوا به في صفة العبادة و النسك كالطواف عاريا، و الآية مع ذلك الفحشاء فتصلح أن تنطبق على فعلهم ذلك، و على مصاديق أخرى ما أكثر وجودها بين الناس و خاصة في زماننا الذي نعيش فيه.

قوله تعالى: «قل أمر ربي بالقسط و أقيموا وجوهكم عند كل مسجد و ادعوه مخلصين له الدين» لما نفت الآية السابقة أن يأمر الله سبحانه بالفحشاء و ذكرت أن ذلك افتراء عليه و قول بغير علم لعدم انتهائه إلى وحي ما أوحى به الله بادرت هذه الآية إلى ذكر ما أمر به و هو لا محالة أمر يقابل ما استشنعته الآية السابقة و عدته فحشاء لما فيه من بلوغ القبح و الإفراط و التفريط فقال: «قل أمر ربي بالقسط» إلخ.

و القسط على ما ذكره الراغب هو النصيب بالعدل كالنصف و النصفة قال: «ليجزي الذين آمنوا و عملوا الصالحات بالقسط» «و أقيموا الوزن بالقسط» و القسط هو أن يأخذ قسط غيره، و ذلك جور و الإقساط أن يعطي قسط غيره، و ذلك إنصاف و لذلك قيل: قسط الرجل إذا جار و أقسط إذا عدل قال: «و أما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا» و قال: «و أقسطوا إن الله يحب المقسطين» انتهى كلامه.

فالمراد: قل أمر ربي بالنصيب العدل و لزوم وسط الاعتدال في الأمور كلها و أن تجتنبوا جانبي الإفراط و التفريط فأقسطوا و أنيبوا و أقروا نفوسكم عند كل معبد تعبدون الله فيه و ادعوه بإخلاص الدين له من غير أن تشركوا بعبادته صنما أو أحدا من آبائكم و كبرائكم بالتقليد لهم و هذا هو القسط في العبادة.

فقوله: «و أقيموا وجوهكم عند كل مسجد» معطوف ظاهرا على مقول القول لأن معنى أمر ربي بالقسط: أقسطوا، فيكون التقدير: أقسطوا و أقيموا إلخ، و الوجه هو ما يتوجه به إلى الشيء، و هو في حال تمام النفس الإنسانية، و إقامتها عندها إيجاد القيام بالأمر لها أي إيفاؤه و الإتيان به كما ينبغي تاما غير ناقص فيئول معنى إقامة الوجه عند العبادة إلى الاشتغال بالعبادة و الانقطاع عن غيرها فيفيد قوله: «و أقيموا وجوهكم عند كل مسجد» إذا انضم إليه قوله: «و ادعوه مخلصين له الدين» وجوب الانقطاع للعبادة عن غيرها و لله سبحانه عن غيره كما عرفت و من الغير الذي يجب الانقطاع عنه إلى الله سبحانه نفس العبادة، و إنما العبادة توجه لا متوجه إليها، و التوجه إليها يبطل معنى كونها عبادة و توجها إلى الله فيجب أن لا يذكر الناسك في نسكه إلا ربه و ينسى غيره.

و للمفسرين في معنى قوله: «و أقيموا وجوهكم» إلخ، أقوال أخر منها: أن المعنى: توجهوا إلى قبلة كل مسجد في الصلاة على استقامة.

و منها: أن المعنى توجهوا في أوقات السجود و هي أوقات الصلاة إلى الجهة التي أمركم الله بها و هي الكعبة.

و منها إذا أدركتم الصلاة في مسجد فصلوا و لا تقولوا حتى أرجع إلى مسجدي.

و منها: أن المعنى: اقصدوا المسجد في وقت كل صلاة أمر فيها بالجماعة.

و منها: أن المعنى: أخلصوا وجوهكم لله بالطاعة فلا تشركوا وثنا و لا غيره.

و الوجوه المذكورة على علاتها و إباء الآية عنها لا تناسب الثلاثة الأول منها حال المسلمين في وقت نزول السورة و هي مكية و لم تكن الكعبة قبلة يومئذ، و لا كانت للمسلمين مساجد مختلفة متعددة، و آخر الوجوه و إن كان قريبا مما قدمناه إلا أنه ناقص في بيان الإخلاص المستفاد من الآية، و ما تضمنه إنما هي معنى قوله تعالى: «و ادعوه مخلصين له الدين» لا قوله: «و أقيموا» إلخ، كما تقدم.

قوله تعالى: «كما بدأكم تعودون فريقا هدى و فريقا حق عليهم الضلالة» إلى آخر الآية.

ظاهر السياق أن يكون قوله «فريقا هدى و فريقا حق عليهم الضلالة» حالا من فاعل «تعودون» و يكون هو الوجه المشترك الذي شبه فيه العود بالبدء، و المعنى تعودون فريقين كما بدأكم فريقين نظير قوله تعالى: «و لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة»: الأنعام: 94، و المعنى لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة فرادى.

فهذا هو الظاهر المستفاد من الكلام، و أما كون «فريقا هدى» إلخ، حالا لا يعدو عامله، و وجه الشبه بين البدء و العود أمرا آخر غير مذكور ككونهم فرادى بدءا و عودا أو كون الخلق الأول و الثاني جميعا من تراب أو كون البعث مثل الإنشاء في قدرة الله إلى غير ذلك مما احتملوه فوجوه بعيدة عن دلالة الآية، و أي فائدة في حذف وجه الشبه من الذكر و ذكر ما لا حاجة إليه مع وقوع اللبس، و سيجيء إن شاء الله توضيح ذلك.

و ظاهر البدء في قوله: «بدأكم» أول خلقة الإنسان الدنيوية لا مجموع الحياة الدنيوية قبال الحياة الأخروية فيكون البدء هو الحياة الدنيا و العود هو الحياة الأخرى فيكون المعنى كنتم في الدنيا مخلوقين له هدى فريقا منكم و حقت الضلالة على فريق آخر كذلك تعودون كما يئول إليه قول من قال: «إن معنى الآية: تبعثون على ما متم عليه: المؤمن على إيمانه، و الكافر على كفره».

و ذلك أن ظاهر البدء إذا نسب إلى شيء ذي امتداد و استمرار بوجه أن يقع على أقدم أجزاء وجوده الممتد المستمر لا على الجميع، و الخطاب للناس فبدؤهم أول خلقة النوع الإنساني و بدء ظهوره.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي