الميزان في تفسير القرآن

سورة الأعراف

172 - 174

تابع
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)

رجعنا إلى الآية: قوله: «و إذ أخذ ربك» أي و اذكر لأهل الكتاب في تتميم البيان السابق أو و اذكر للناس في بيان ما نزلت السورة لأجل بيانه و هو أن لله عهدا على الإنسان و هو سائله عنه و أن أكثر الناس لا يفون به و قد تمت عليهم الحجة.

اذكر لهم موطنا قبل الدنيا أخذ فيه ربك «من بني آدم من ظهورهم ذريتهم» فما من أحد منهم إلا استقل من غيره و تميز منه فاجتمعوا هناك جميعا و هم فرادى فأراهم ذواتهم المتعلقة بربهم «و أشهدهم على أنفسهم» فلم يحتجبوا عنه و عاينوا أنه ربهم كما أن كل شيء بفطرته يجد ربه من نفسه من غير أن يحتجب عنه، و هو ظاهر الآيات القرآنية كقوله «و إن من شيء إلا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم»: إسراء: 44.

«أ لست بربكم» و هو خطاب حقيقي لهم لا بيان حال و تكليم إلهي لهم فإنهم يفهمون مما يشاهدون أن الله سبحانه يريد به منهم الاعتراف و إعطاء الموثق، و لا نعني بالكلام إلا ما يلقى للدلالة به على معنى مراد، و كذا الكلام في قوله: «قالوا بلى شهدنا».

و قوله: «أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين» الخطاب للمخاطبين بقوله: «أ لست بربكم» القائلين: «بلى شهدنا» فهم هناك يعاينون الإشهاد و التكليم من الله و التكلم بالاعتراف من أنفسهم، و إن كانوا في نشأة الدنيا على غفلة مما عدا المعرفة بالاستدلال، ثم إذا كان يوم البعث و انطوى بساط الدنيا، و انمحت هذه الشواغل و الحجب عادوا إلى مشاهدتهم و معاينتهم، و ذكروا ما جرى بينهم و بين ربهم.

و يحتمل أن يكون الخطاب راجعا إلينا معاشر المخاطبين بالآيات أي إنما فعلنا ببني آدم ذلك حذر أن تقولوا أيها الناس يوم القيامة كذا و كذا، و الأول أقرب و يؤيده قراءة: «أن يقولوا» بلفظ الغيبة.

و قوله: «أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل» هذه حجة الناس إن فرض الإشهاد و أخذ الميثاق من الآباء خاصة دون الذرية كما أن قوله: «أن تقولوا» إلخ حجة الناس إن ترك الجميع فلم يقع إشهاد و لا أخذ ميثاق من أحد منهم.

و من المعلوم أن لو فرض ترك الإشهاد و أخذ الميثاق في تلك النشأة كان لازمه عدم تحقق المعرفة بالربوبية في هذه النشأة إذ لا حجاب بينهم و بين ربهم في تلك النشأة فلو فرض هناك علم منهم كان ذلك إشهادا و أخذ ميثاق، و أما هذه النشأة فالعلم فيها من وراء الحجاب و هو المعرفة من طريق الاستدلال.

فلو لم يقع هناك بالنسبة إلى الذرية إشهاد و أخذ ميثاق كان لازمه في هذه النشأة أن لا يكون لهم سبيل إلى معرفة الربوبية فيها أصلا، و حينئذ لم يقع منهم معصية شرك بل كان ذلك فعل آبائهم، و ليس لهم إلا التبعية العملية لآبائهم و النشوء على شركهم من غير علم فصح لهم أن يقولوا: إنما أشرك آباؤنا من قبل و كنا ذرية من بعدهم أ فتهلكنا بما فعل المبطلون.

قوله تعالى: «و كذلك نفصل الآيات و لعلهم يرجعون» تفصيل الآيات تفريق بعضها و تمييزه من بعض ليتبين بذلك مدلول كل منها و لا تختلط وجود دلالتها، و قوله: «و لعلهم يرجعون» عطف على مقدر، و التقدير: لغايات عالية كذا و كذا و لعلهم يرجعون من الباطل إلى الحق.

بحث روائي

في الكافي، بإسناده عن زرارة عن حمران عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله تبارك و تعالى حيث خلق الخلق ماء عذبا و ماء مالحا أجاجا فامتزج الماءان فأخذ طينا من أديم الأرض فعركه عركا شديدا فقال لأصحاب اليمين و هم كالذر يدبون: إلى الجنة و لا أبالي و قال لأصحاب الشمال: إلى النار و لا أبالي. ثم قال: أ لست بربكم؟ قالوا بلى شهدنا - أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. الحديث.

و فيه، بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز و جل: «فطرة الله التي فطر الناس عليها» ما تلك الفطرة؟ قال: هي الإسلام فطرهم الله حين أخذ ميثاقهم على التوحيد قال: أ لست بربكم؟ و فيه المؤمن و الكافر. و في تفسير العياشي، و خصائص السيد الرضي، عن الأصبغ بن نباتة عن علي (عليه السلام) قال: أتاه ابن الكواء فقال: أخبرني يا أمير المؤمنين عن الله تبارك و تعالى هل كلم أحدا من ولد آدم قبل موسى؟ فقال علي (عليه السلام) قد كلم الله جميع خلقه برهم و فاجرهم و ردوا عليه الجواب فثقل ذلك على ابن الكواء و لم يعرفه فقال له: كيف كان ذلك يا أمير المؤمنين؟ فقال له: أ و ما تقرأ كتاب الله إذ يقول لنبيه: «و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم - و أشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم قالوا بلى» فقد أسمعهم كلامه و ردوا عليه الجواب كما تسمع في قول الله يا ابن الكواء «قالوا بلى» فقال لهم إني أنا الله لا إله إلا أنا و أنا الرحمن الرحيم فأقروا له بالطاعة و الربوبية، و ميز الرسل و الأنبياء و الأوصياء و أمر الخلق بطاعتهم فأقروا بذلك في الميثاق فقالت الملائكة عند إقرارهم بذلك شهدنا عليكم يا بني آدم أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. أقول: و الرواية كما تقدم و بعض ما يأتي من الروايات يذكر مطلق أخذ الميثاق من بني آدم من غير ذكر إخراجهم من صلب آدم و إراءتهم إياه.

و كان تشبيههم بالذر كما في كثير من الروايات تمثيل لكثرتهم كالذر لا لصغرهم جسما أو غير ذلك، و لكثرة ورود هذا التعبير في الروايات سميت هذه النشأة بعالم الذر.

و في الرواية دلالة ظاهرة على أن هذا التكليم كان تكليما حقيقيا لا مجرد دلالة الحال على المعنى.

و فيما دلالة على أن الميثاق لم يؤخذ على الربوبية فحسب بل على النبوة و غير ذلك، و في كل ذلك تأييد لما قدمناه.

و في تفسير العياشي، عن رفاعة قال: سألت أبا عبد الله عن قول الله: «و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم» قال: نعم لله الحجة على جميع خلقه أخذهم يوم أخذ الميثاق هكذا و قبض يده. أقول: و ظاهر الرواية أنها تفسر الأخذ في الآية بمعنى الإحاطة و الملك.

و في تفسير القمي، عن أبيه عن ابن أبي عمير عن ابن مسكان عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله: «و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم - و أشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم قالوا بلى» قلت: معاينة كان هذا؟ قال: نعم فثبتت المعرفة و نسوا الموقف و سيذكرونه و لو لا ذلك لم يدر أحد من خالقه و رازقه فمنهم من أقر بلسانه في الذر و لم يؤمن بقلبه فقال الله: «فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل». أقول: و الرواية ترد على منكري دلالة الآية على أخذ الميثاق في الذر تفسيرهم قوله: «و أشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم» أن المراد به أنه عرفهم آياته الدالة على ربوبيته، و الرواية صحيحة و مثلها في الصراحة و الصحة ما سيأتي من رواية زرارة و غيره.

و في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن زرارة: أن رجلا سأل أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم» إلى آخر الآية، فقال و أبوه يسمع: حدثني أبي. إن الله عز و جل قبض قبضة من تراب التربة التي خلق منها آدم فصب عليها الماء العذب الفرات ثم تركها أربعين صباحا ثم صب عليها الماء المالح الأجاج فتركها أربعين صباحا فلما اختمرت الطينة أخذها فعركها عركا شديدا فخرجوا كالذر من يمينه و شماله و أمرهم جميعا أن يقعوا في النار فدخلها أصحاب اليمين فصارت عليهم بردا و سلاما، و أبى أصحاب الشمال أن يدخلوها. أقول: و في هذا المعنى روايات أخر و كان الأمر بدخول النار كناية عن الدخول في حظيرة العبودية و الانقياد للطاعة.

و فيه، بإسناده عن عبد الله بن محمد الحنفي و عقبة جميعا عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله عز و جل خلق الخلق فخلق من أحب مما أحب فكان ما أحب أن خلقه من طينة الجنة، و خلق من أبغض مما أبغض و كان ما أبغض أن خلقه من طينة النار ثم بعثهم في الظلال فقيل: و أي شيء الظلال؟ قال: أ لم تر إلى ظلك في الشمس شيء و ليس بشيء ثم بعث معهم النبيين فدعوهم إلى الإقرار بالله و هو قوله: و لئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله، ثم دعوهم إلى الإقرار فأقر بعضهم و أنكر بعض، ثم دعوهم إلى ولايتنا فأقر بها و الله من أحب، و أنكرها من أبغض، و هو قوله: «و ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل» ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): كان التكذيب. أقول: و الرواية و إن لم تكن مما وردت في تفسير آية الذر غير أنا أوردناها لاشتمالها على قصة أخذ الميثاق، و فيها ذكر الظلال، و قد تكرر ذكر الظلال في لسان أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و المراد به - كما هو ظاهر الرواية - وصف هذا العالم الذي هو بوجه عين العالم الدنيوي و بوجه غيره، و له أحكام غير أحكام الدنيا بوجه و عينها بوجه فينطبق على ما وصفناه في البيان المتقدم.

و في الكافي، و تفسير العياشي، عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): كيف أجابوا و هم ذر؟ قال: جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه. و زاد العياشي: يعني في الميثاق. أقول: و ما زاده العياشي من كلام الراوي، و ليس المراد بقوله «جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه» دلالة حالهم على ذلك بل لما فهم الراوي من الجواب ما هو من نوع الجوابات الدنيوية استبعد صدوره عن الذر فسأل عن ذلك فأجابه (عليه السلام) بأن الأمر هناك بحيث إذا نزلوا في الدنيا كان ذلك منهم جوابا دنيويا باللسان و الكلام اللفظي و يؤيده قوله (عليه السلام) ما إذا سألهم، و لم يقل: ما لو تكلموا و نحو ذلك.

و في تفسير العياشي، أيضا عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله: «أ لست بربكم» قالوا بألسنتهم؟ قال نعم و قالوا بقلوبهم. فقلت: و أين كانوا يومئذ؟ قال: صنع منهم ما اكتفى به. أقول: جوابه (عليه السلام) أنهم قالوا: بلى بألسنتهم و قلوبهم مبني على كون وجودهم يومئذ بحيث لو انتقلوا إلى الدنيا كان ذلك جوابا بلسان على النحو المعهود في الدنيا لكن اللسان و القلب هناك واحد، و لذلك قال (عليه السلام): نعم و بقلوبهم فصدق اللسان، و أضاف إليه القلب.

ثم لما كان في ذهن الراوي أنه أمر واقع في الدنيا و نشأة الطبيعة، و قد ورد في بعض الروايات التي تذكر قصة إخراج الذرية من ظهر آدم: تعيين المكان له و قد روى بعضها هذا الراوي أعني أبا بصير سأله (عليه السلام) عن مكانهم بقوله: و أين كانوا يومئذ، فأجابه (عليه السلام) بقوله: «صنع منهم ما اكتفى به» فلم يجبه بتعيين المكان بل بأن الله سبحانه خلقهم خلقا يصح معه السؤال و الجواب، و كل ذلك يؤيد ما قدمناه في وصف هذا العالم، الرواية كغيرها مع ذلك كالصريح في أن التكليم و التكلم في الآية على الحقيقة دون المجاز بل هي صريحة فيه.

و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و الحكيم الترمذي في نوادر الأصول و أبو الشيخ في العظمة و ابن مردويه عن أبي أمامة: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: خلق الله الخلق و قضى القضية، و أخذ ميثاق النبيين و عرشه على الماء، فأخذ أهل اليمين بيمينه، و أخذ أهل الشمال بيده الأخرى و كلتا يد الرحمن يمين فقال: يا أصحاب اليمين فاستجابوا له فقالوا: لبيك ربنا، و سعديك. قال: أ لست بربكم؟ قالوا: بلى قال: يا أصحاب الشمال فاستجابوا له فقالوا لبيك ربنا و سعديك قال: أ لست بربكم؟ قالوا: بلى. فخلط بعضهم ببعض فقال قائل منهم: رب لم خلطت بيننا؟ قال: و لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ثم ردهم في صلب آدم فأهل الجنة أهلها، و أهل النار أهلها. فقال قائل: يا رسول الله فما الأعمال؟ قال: يعمل كل قوم لمنازلهم. فقال عمر بن الخطاب: إذا نجتهد. أقول: قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) «و عرشه على الماء» كناية عن تقدم أخذ الميثاق، و ليس المراد به تقدم خلق الأرواح على الأجساد زمانا فإن عليه من الإشكال ما على عالم الذر بالمعنى الذي فهمه جمهور المثبتين، و قد تقدم.

و قوله: (صلى الله عليه وآله وسلم) «يعمل كل قوم لمنازلهم» أي إن كل واحد من المنزلين يحتاج إلى أعمال تناسبه في الدنيا فإن كان العامل من أهل الجنة عمل الخير لا محالة، و إن كان من أهل النار عمل الشر لا محالة، و الدعوة إلى الجنة و عمل الخير لأن عمل الخير يعين منزله في الجنة، و أن عمل الشر يعين منزله في النار لا محالة كما قال تعالى: «و لكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات»: البقرة: 148.

فلم يمنع تعين الوجهة عن الدعوة إلى استباق الخيرات، و لا منافاة بين تعين السعادة و الشقاوة بالنظر إلى العلل التامة و بين عدم تعينها بالنظر إلى اختيار الإنسان في تعيين عمله فإنه جزء العلة، و جزء علة الشيء لا يتعين معه وجود الشيء و لا عدمه بخلاف تمام العلة، و قد تقدم استيفاء هذا البحث في موارد من هذا الكتاب، و آخرها في تفسير قوله تعالى: «كما بدأكم تعودون فريقا هدى و فريقا حق عليهم الضلالة»: الأعراف: 30، و أخبار الطينة المتقدمة من أخبار هذا الباب بوجه.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: «و إذ أخذ ربك من بني آدم» الآية قال: خلق الله آدم و أخذ ميثاقه أنه ربه، و كتب أجله و رزقه و مصيبته ثم أخرج ولده من ظهره كهيئة الذر فأخذ مواثيقهم أنه ربهم، و كتب آجالهم و أرزاقهم و مصائبهم. أقول: و قد روي هذا المعنى عن ابن عباس بطرق كثيرة في ألفاظ مختلفة لكن الجميع تشترك في أصل المعنى، و هو إخراج ذرية آدم من ظهره و أخذ الميثاق منهم.

و فيه، أخرج ابن عبد البر في التمهيد من طريق السدي عن أبي مالك و عن أبي صالح عن ابن عباس، و عن مرة الهمداني عن ابن مسعود و ناس من الصحابة في قوله تعالى: «و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم». قالوا: لما أخرج الله آدم من الجنة قبل تهبيطه من السماء مسح صفحة ظهره اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر فقال لهم: ادخلوا الجنة برحمتي و مسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر: فقال: ادخلوا النار و لا أبالي فذلك قوله: «أصحاب اليمين و أصحاب الشمال». ثم أخذ منهم الميثاق فقال: أ لست بربكم قالوا بلى فأعطاه طائفة طائعين، و طائفة كارهين على وجه التقية فقال هو و الملائكة: شهدنا أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو يقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل. قالوا: فليس أحد من ولد آدم إلا و هو يعرف الله أنه ربه و ذلك قوله عز و جل: «و له أسلم من في السموات و الأرض طوعا و كرها»، و ذلك قوله: «فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين» يعني يوم أخذ الميثاق. أقول: و قد روي حديث الذر كما في الرواية موقوفة و موصولة عن عدة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كعلي (عليه السلام)، و ابن عباس، و عمر بن الخطاب، و عبد الله بن عمر، و سلمان، و أبي هريرة، و أبي أمامة، و أبي سعيد الخدري، و عبد الله بن مسعود، و عبد الرحمن بن قتادة، و أبي الدرداء، و أنس، و معاوية، و أبي موسى الأشعري.

كما روي من طرق الشيعة عن علي و علي بن الحسين و محمد بن علي و جعفر بن محمد و الحسن بن علي العسكري (عليهما السلام)، و من طرق أهل السنة أيضا عن علي بن الحسين و محمد بن علي و جعفر بن محمد (عليهما السلام) بطرق كثيرة فليس من البعيد أن يدعى تواتره المعنوي.

و في الدر المنثور، أيضا أخرج ابن سعد و أحمد عن عبد الرحمن بن قتادة السلمي و كان من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إن الله تبارك و تعالى خلق آدم ثم أخذ الخلق من ظهره فقال: هؤلاء في الجنة و لا أبالي، و هؤلاء في النار و لا أبالي. فقال رجل: يا رسول الله فعلى ما ذا نعمل؟ قال: على مواقع القدر. أقول: القول في ذيل الرواية نظير القول في ذيل رواية أبي أمامة المتقدمة، و قد فهم الرجل من قوله «هؤلاء في الجنة و لا أبالي، و هؤلاء في النار و لا أبالي» الخبر سقوط الاختيار، فأجابه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن هذا قدر منه تعالى و أن أعمالنا في عين أنا نعملها و هي منسوبة إلينا تقع على ما يقع عليه القدر فتنطبق على القدر و ينطبق هو عليها، و ذلك أن الله قدر ما قدر من طريق اختيارنا فنعمل نحن باختيارنا، و يقع مع ذلك ما قدره الله سبحانه لا أنه تعالى أبطل بالقدر اختيارنا، و نفي تأثير إرادتنا و الروايات بهذا المعنى كثيرة.

و في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن ابن أذينة عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز و جل: «حنفاء لله غير مشركين» قال: الحنفية من الفطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله قال: فطرهم على المعرفة به. قال زرارة: و سألته عن قول الله عز و جل: «و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم - و أشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم قالوا بلى» الآية قال: أخرج من ظهر آدم ذريته إلى يوم القيامة فخرجوا كالذر فعرفهم و أراهم نفسه، و لو لا ذلك لم يعرف أحد ربه. و قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كل مولود يولد على الفطرة يعني على المعرفة بأن الله عز و جل خالقه، كذلك قوله: «و لئن سألتهم من خلق السموات و الأرض ليقولن الله». أقول: و روى وسط الحديث العياشي في تفسيره، عن زرارة بعين اللفظ، و فيه شهادة على ما تقدم من تقرير معنى الإشهاد و الخطاب في الآية خلافا لما ذكره النافون أن المراد بذلك المعرفة بالآيات الدالة على ربوبيته تعالى لجميع خلقه.

و قد روي الحديث في المعاني، بالسند بعينه عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) إلا أنه قال: فعرفهم و أراهم صنعه بدل قوله: فعرفهم و أراهم نفسه، و لعله من تغيير اللفظ قصدا للنقل بالمعنى زعما أن ظاهر اللفظ يوهم التجسم، و فيه إفساد اللفظ و المعنى جميعا، و قد عرفت أن الرواية مروية في الكافي، و تفسير العياشي، بلفظ: أراهم نفسه.

و تقدم في حديث ابن مسكان عن الصادق (عليه السلام) قوله: قلت معاينة كان هذا؟ قال: نعم. و قد تقدم أن لا ارتباط للكلام بمسألة التجسم.

و في المحاسن، عن الحسن بن علي بن فضال عن ابن بكير عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: «و إذ أخذ ربك» الآية قال: ثبتت المعرفة في قلوبهم و نسوا الموقف، و يذكرونه يوما، و لو لا ذلك لم يدر أحد من خالقه و رازقه. و في الكافي، بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين (عليهما السلام) لا يرى بالعزل بأسا، يقرأ هذه الآية: «و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم - و أشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم قالوا بلى» فكل شيء أخذ الله من الميثاق فهو خارج و إن كان على صخرة صماء:. أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن أبي شيبة و ابن جرير عنه (عليه السلام)، و روي هذا المعنى أيضا عن سعيد بن منصور و ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و اعلم أن الروايات في الذر كثيرة جدا و قد تركنا إيراد أكثرها لوفاء ما أوردنا من ذلك بمعناها، و هنا روايات أخر في أخذ الميثاق عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و سائر الأنبياء (عليهم السلام) سنوردها في محلها إن شاء الله تعالى.

العودة إلى القائمة

التالي