الميزان في تفسير القرآن

سورة التحريم

1 - 9

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)

بيان

تبدأ السورة بالإشارة إلى ما جرى بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بين بعض أزواجه من قصة التحريم فيعاتب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتحريمه ما أحل الله له ابتغاء لمرضاة بعض أزواجه و مرجعه إلى عتاب تلك البعض و الانتصار له (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يدل عليه سياق الآيات.

ثم تخاطب المؤمنين أن يقوا أنفسهم من عذاب الله النار التي وقودها الناس و الحجارة و ليسوا يجزون إلا بأعمالهم و لا مخلص منها إلا للنبي و الذين آمنوا معه ثم تخاطب النبي بجهاد الكفار و المنافقين.

و تختتم السورة بضربه تعالى مثلا من النساء للكفار و مثلا منهن للمؤمنين.

و ظهور السياق في كون السورة مدنية لا ريب فيه.

قوله تعالى: «يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك و الله غفور رحيم» خطاب مشوب بعتاب لتحريمه (صلى الله عليه وآله وسلم) لنفسه بعض ما أحل الله له، و لم يصرح تعالى به و لم يبين أنه ما هو؟ و ما ذا كان؟ غير أن قوله: «تبتغي مرضاة أزواجك» يومىء أنه كان عملا من الأعمال المحللة التي يقترفها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا ترتضيه أزواجه فضيقن عليه و آذينه حتى أرضاهن بالحلف على أن يتركه و لا يأتي به بعد.

فقوله: «يا أيها النبي» علق الخطاب و النداء بوصف النبي دون الرسول لاختصاصه به في نفسه دون غيره حتى يلائم وصف الرسالة.

و قوله: «لم تحرم ما أحل الله لك» المراد بالتحريم التسبب إلى الحرمة بالحلف على ما تدل عليه الآية التالية فإن ظاهر قوله: «قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم» إلخ، إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) حلف على ذلك و من شأن اليمين أن يوجب عروض الوجوب إن كان الحلف على الفعل و الحرمة إن كان الحلف على الترك، و إذ كان (صلى الله عليه وآله وسلم) حلف على ترك ما أحل الله له فقد حرم ما أحل الله له بالحلف.

و ليس المراد بالتحريم تشريعه (صلى الله عليه وآله وسلم) على نفسه الحرمة فيما شرع الله له فيه الحلية فليس له ذلك.

و قوله: «تبتغي مرضاة أزواجك» أي تطلب بالتحريم رضاهن بدل من تحرم إلخ، أو حال من فاعله، و الجملة قرينة على أن العتاب بالحقيقة متوجه إليهن، و يؤيده قوله خطابا لهما: «إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما» إلخ، مع قوله فيه: «و الله غفور رحيم».

قوله تعالى: «قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم و الله مولاكم و هو العليم الحكيم» قال الراغب: كل موضع ورد فرض الله عليه ففي الإيجاب الذي أدخله الله فيه، و ما ورد من فرض الله له فهو في أن لا يحظره على نفسه نحو «ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له» و قوله: «قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم».

انتهى.

و التحلة أصلها تحللة على وزن تذكرة و تكرمة مصدر كالتحليل، قال الراغب: و قوله عز و جل: «قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم» أي بين ما تحل به عقدة أيمانكم من الكفارة.

فالمعنى: قد قدر الله لكم - كأنه قدره نصيبا لهم حيث لم يمنعهم عن حل عقدة اليمين - تحليل أيمانكم بالكفارة و الله وليكم الذي يتولى تدبير أموركم بالتشريع و الهداية و هو العليم الحكيم.

و في الآية دلالة على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد حلف على الترك، و أمر له بتحلة يمينه.

قوله تعالى: «و إذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به و أظهره الله عليه عرف بعضه و أعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير» السر هو الحديث الذي تكتمه في نفسك و تخفيه، و الإسرار إفضاؤك الحديث إلى غيرك مع إيصائك بإخفائه، و ضمير «نبأت» لبعض أزواجه، و ضمير «به» للحديث الذي أسره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إليها، و ضمير «أظهره» للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و ضمير «عليه» لإنبائها به غيرها و إفشائها السر، و ضمير «عرف» و أعرض» للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و ضمير «بعضه» للحديث، و الإشارة بقوله: «هذا» لإنبائها غيره و إفشائها السر.

و محصل المعنى: و إذ أفضى النبي إلى بعض أزواجه - و هي حفصة بنت عمر بن الخطاب - حديثا و أوصاها بكتمانه فلما أخبرت به غيرها و أفشت السر خلافا لما أوصاها به، و أعلم الله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنها نبأت به غيرها و أفشت السر عرف و أعلم بعضه و أعرض عن بعض آخر، فلما خبرها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالحديث قالت للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): من أنبأك و أخبرك أني نبأت به غيري و أفشيت السر؟ قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): نبأني و خبرني العليم الخبير و هو الله العليم بالسر و العلانية الخبير بالسرائر.

قوله تعالى: «إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما و إن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه و جبريل و صالح المؤمنين و الملائكة بعد ذلك ظهير» أي إن تتوبا إلى الله فقد تحقق منكما ما يستوجب عليكما التوبة و إن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه، إلخ.

و قد اتفق النقل على أنهما عائشة و حفصة زوجا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

و الصغو الميل و المراد به الميل إلى الباطل و الخروج عن الاستقامة و قد كان ما كان منهما من إيذائه و التظاهر عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) من الكبائر و قد قال تعالى: «إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا و الآخرة و أعد لهم عذابا مهينا»: الأحزاب: 57، و قال: «و الذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم»: التوبة: 61.

و التعبير بقلوبكما و إرادة معنى التثنية من الجمع كثير النظير في الاستعمال.

و قوله: «و إن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه» إلخ، التظاهر التعاون، و أصل «و إن تظاهرا» و إن تتظاهرا، و ضمير الفصل في قوله: «فإن الله هو مولاه» للدلالة على أن لله سبحانه عناية خاصة به (صلى الله عليه وآله وسلم) ينصره و يتولى أمره من غير واسطة من خلقه، و المولى الولي الذي يتولى أمره و ينصره على من يريده بسوء.

و «جبريل» عطف على لفظ الجلالة، و «صالح المؤمنين» عطف كجبريل، و المراد بصالح المؤمنين على ما قيل الصلحاء من المؤمنين فصالح المؤمنين واحد أريد به الجمع كقولك: لا يفعل هذا الصالح من الناس تريد به الجنس كقولك لا يفعله من صلح منه و مثله قولك: كنت في السامر و الحاضر.

و فيه قياس المضاف إلى الجمع إلى مدخول اللام فظاهر صالح المؤمنين غير ظاهر «الصالح من المؤمنين».

و وردت الرواية من طرق أهل السنة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن المراد بصالح المؤمنين علي عليه أفضل السلام، و ستوافيك إن شاء الله.

و في المراد منه أقوال أخر أغمضنا عنها لعدم دليل عليها.

و قوله: «و الملائكة بعد ذلك ظهير» إفراد الخبر للدلالة على أنهم متفقون في نصره متحدون صفا واحدا، و في جعلهم بعد ذلك أي بعد ولاية الله و جبريل و صالح المؤمنين تعظيم و تفخيم.

و لحن الآيات في إظهار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على من يؤذيه و يريده بسوء و تشديد العتاب على من يتظاهر عليه عجيب، و قد خوطب فيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أولا و عوتب على تحريمه ما أحل الله له و أشير عليه بتحلة يمينه و هو إظهار و تأييد و انتصار له و إن كان في صورة العتاب.

ثم التفت من خطابه إلى خطاب المؤمنين في قوله: «و إذ أسر النبي إلى بعض أزواجه» يشير إلى القصة و قد أبهمها إبهاما و قد كان أيد النبي و أظهره قبل الإشارة إلى القصة و إفشائها مختوما عليها، و فيه مزيد إظهاره.

ثم التفت من خطاب المؤمنين إلى خطابهما و قرر أن قلوبهما قد صغت بما فعلتا و لم يأمرهما أن تتوبا من ذنبهما بل بين لهما أنهما واقعتان بين أمرين إما أن تتوبا و إما أن تظاهرا على من الله هو مولاه و جبريل و صالح المؤمنين و الملائكة بعد ذلك أجمع ثم أظهر الرجاء إن طلقهن أن يرزقه الله نساء خيرا منهن.

ثم أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجاهد الكفار و المنافقين و يغلظ عليهم.

و انتهى الكلام إلى ضربه تعالى مثلين مثلا للذين كفروا و مثلا للذين آمنوا.

و قد أدار تعالى الكلام في السورة بعد التعرض لحالهما بقوله: إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما و إن تظاهرا عليه» إلخ، بين التعرض لحال المؤمنين و التعرض لحال الكفار فقال: «يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم و أهليكم» إلخ، و «يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا» إلخ، و قال: «يا أيها الذين آمنوا توبوا» إلخ، و «يا أيها النبي جاهد» إلخ، و قال: «ضرب الله مثلا للذين كفروا»، «و ضرب الله مثلا للذين آمنوا».

قوله تعالى: «عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن» إلى آخر الآية استغناء إلهي فإنهن و إن كن مشرفات بشرف زوجية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لكن الكرامة عند الله بالتقوى كما قال تعالى: «فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما»: الأحزاب: 29، انظر إلى مكان «منكن» و قال: «يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين و كان ذلك على الله يسيرا و من يقنت منكن لله و رسوله و تعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين و أعتدنا لها رزقا كريما: الأحزاب: 31.

و لذا ساق الاستغناء بترجي إبداله إن طلقهن أزواجا خيرا منهن، و علق الخبر بما ذكر لأزواجه الجديدة من صفات الكرامة و هي أن يكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات - أي صائمات - ثيبات و أبكارا.

فمن تزوج بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و كانت متصفة بمجموع هذه الصفات كانت خيرا منهن و ليس إلا لأجل اختصاص منها بالقنوت و التوبة أو القنوت فقط مع مشاركتها لهن في باقي الصفات، و القنوت هو لزوم الطاعة مع الخضوع.

و يتأيد هذا المعنى بما في مثل مريم الآتي في آخر السورة من ذكر القنوت «و كانت من القانتين» فالقنوت هو الذي يفقدنه و هو لزومهن طاعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) التي فيها طاعة الله و اتقاؤهن أن يعصين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و يؤذينه.

و بما مر يظهر فساد قول من قال إن وجه خيرية أزواجه اللاحقة من أزواجه السابقة إن طلقهن، هو تزوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهن و انفصال الأزواج السابقة و زوجيته (صلى الله عليه وآله وسلم) شرف لا يقدر قدره.

و ذلك أنه لو كان ملاك ما ذكر في الآية من الخير هو الزوجية كان كل من تزوج (صلى الله عليه وآله وسلم) من النساء أفضل و أشرف منهن إن طلقهن و إن لم تتلبس بشيء مما ذكر من صفات الكرامة فلم يكن مورد لعد ما عد من الصفات.

قال في الكشاف،: فإن قلت: لم أخليت الصفات كلها عن العاطف و وسط بين الثيبات و الأبكار؟ قلت: لأنهما صفتان متنافيتان لا يجتمعن فيهما اجتماعهن في سائر الصفات.

انتهى.

قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم و أهليكم نارا وقودها الناس و الحجارة» إلخ، «قوا» أمر من الوقاية بمعنى حفظ الشيء مما يؤذيه و يضره، و الوقود بفتح الواو اسم لما توقد به النار من حطب و نحوه.

و المراد بالنار نار جهنم و كون الناس المعذبين فيها وقودا لها معناه اشتعال الناس فيها بأنفسهم كما في قوله تعالى: «ثم في النار يسجرون»: المؤمن: 72.

فيناسب تجسم الأعمال كما هو ظاهر الآية التالية «يا أيها الذين كفروا» إلخ، و فسرت الحجارة بالأصنام.

و قوله: «عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون» أي وكل عليها لإجراء أنواع العذاب على أهلها ملائكة غلاظ شداد.

و الغلاظ جمع غليظ ضد الرقيق و الأنسب للمقام كون المراد بالغلظة خشونة العمل كما في قوله الآتي: «جاهد الكفار و المنافقين و أغلظ عليهم» الآية 9 من السورة، و الشداد جمع شديد بمعنى القوي في عزمه و فعله.

و قوله: «لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون» كالمفسر لقوله: «غلاظ شداد أي هم ملتزمون بما أمرهم الله من أنواع العذاب لا يعصونه بالمخالفة و الرد و يفعلون ما يؤمرون به على ما أمروا به من غير أن يفوت منهم فائت أو ينقص منه شيء لضعف فيهم أو فتور فهم غلاظ شداد.

و بهذا يظهر أن قوله: «لا يعصون الله ما أمرهم» ناظر إلى التزامهم بالتكليف، و قوله: «و يفعلون» إلخ، ناظر إلى العمل على طبقه فلا تكرار كما قيل.

قال في التفسير الكبير، في ذيل الآية: و فيه إشارة إلى أن الملائكة مكلفون في الآخرة بما أمرهم الله تعالى به و بما ينهاهم عنه، و العصيان منهم مخالفة للأمر و النهي.

و فيه أن الآية و غيرها مما تصف الملائكة بمحض الطاعة من غير معصية مطلقة تشمل الدنيا و الآخرة فلا وجه لتخصيص تكليفهم بالآخرة.

ثم إن تكليفهم غير سنخ التكليف المعهود في المجتمع الإنساني بمعنى تعليق المكلف - بالكسر - إرادته بفعل المكلف - بالفتح - تعليقا اعتباريا يستتبع الثواب و العقاب في ظرف الاختيار و إمكان الطاعة و المعصية بل هم خلق من خلق الله لهم ذوات طاهرة نورية لا يريدون إلا ما أراد الله و لا يفعلون إلا ما يؤمرون، قال تعالى: «بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون»: الأنبياء، 27 و لذلك لا جزاء لهم على أعمالهم من ثواب أو عقاب فهم مكلفون بتكليف تكويني غير تشريعي مختلف باختلاف درجاتهم، قال تعالى: «و ما منا إلا له مقام معلوم»: الصافات: 164، و قال عنهم: «و ما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا و ما خلفنا»: مريم: 64.

و الآية الكريمة بعد الآيات السابقة كالتعميم بعد التخصيص فإنه تعالى لما أدب نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ببيان ما لإيذائهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الأثر السيىء عمم الخطاب فخاطب المؤمنين عامة أن يؤدبوا أنفسهم و أهليهم و يقوهم من النار التي وقودها نفس الداخلين فيها أي إن أعمالهم السيئة تلزمهم و تعود نارا تعذبهم و لا مخلص لهم منها و لا مناص عنها.

قوله تعالى: «يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون» خطاب عام للكفار بعد ما جوزوا بالنار فإنهم يعتذرون عن كفرهم و معاصيهم فيخاطبون أن لا تعتذروا اليوم - و هو يوم الجزاء إنما تجزون نفس ما كنتم تعملون أي إن العذاب الذي تعذبون بها هو عملكم السيىء الذي عملتموه و قد برز لكم اليوم حقيقته و إذ عملتموه فقد لزمكم أنكم عملتموه و الواقع لا يتغير و ما حق عليكم من كلمة العذاب لا يعود باطلا فهذا ظاهر الخطاب.

و قيل: المعنى: لا تعتذروا - اليوم - بعد دخول النار فإن الاعتذار توبة و التوبة غير مقبولة بعد دخول النار إنما تجزون ما لزم في مقابل عملكم من الجزاء في الحكمة.

و في اتباع الآيات السابقة بما في هذه الآية من خطاب القهر تهديد ضمني و إشعار بأن معصية الله و رسوله ربما أدى إلى الكفر.

قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم و يدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار» إلخ، النصح تحري فعل أو قول فيه صلاح صاحبه، و يأتي بمعنى الإخلاص نحو نصحت له الود أي أخلصته - على ما ذكره الراغب - فالتوبة النصوح ما يصرف صاحبه عن العود إلى المعصية أو ما يخلص العبد للرجوع عن الذنب فلا يرجع إلى ما تاب منه.

لما أمر المؤمنين بوقاية أنفسهم و أهليهم من النار أمرهم جميعا ثانيا بالتوبة و فرع عليه رجاء أن يستر الله سيئاتهم و يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار.

و قوله: «يوم لا يخزي الله النبي و الذين آمنوا معه» قال الراغب: يقال: خزي الرجل يخزى من باب علم يعلم إذا لحقه انكسار إما من نفسه و إما من غيره فالذي يلحقه من نفسه و هو الحياء المفرط مصدره الخزاية، و الذي يلحقه من غيره و يعد ضربا من الاستخفاف مصدره الخزي و الإخزاء من الخزاية و الخزي جميعا قال: و على نحو ما قلنا في خزي ذل و هان فإن ذلك متى كان من الإنسان نفسه يقال له الهون - بفتح الهاء - و الذل و يكون محمودا، و متى كان من غيره يقال له: الهون - بضم الهاء - و الهوان و الذل و يكون مذموما.

انتهى ملخصا.

«فقوله: «يوم» ظرف لما تقدمه، و المعنى: توبوا إلى الله عسى أن يكفر عنكم سيئاتكم و يدخلكم الجنة في يوم لا يخزي و لا يكسر الله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بجعلهم محرومين من الكرامة و خلفه ما وعدهم من الوعد الجميل.

و في قوله: «النبي و الذين آمنوا معه» اعتبار المعية في الإيمان في الدنيا و لازمه ملازمتهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و طاعتهم له من غير مخالفة و مشاقة.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي