الميزان في تفسير القرآن

سورة النجم

1 - 18

وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى (14) عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)

بيان

غرض السورة تذكير الأصول الثلاثة: وحدانيته تعالى في ربوبيته و المعاد و النبوة فتبدأ بالنبوة فتصدق الوحي إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تصفه ثم تتعرض للوحدانية فتنفي الأوثان و الشركاء أبلغ النفي ثم تصف انتهاء الخلق و التدبير إليه تعالى من إحياء و إماتة و إضحاك و إبكاء و إغناء و إقناء و إهلاك و تعذيب و دعوة و إنذار، و تختم الكلام بالإشارة إلى المعاد و الأمر بالسجدة و العبادة.

و السورة مكية بشهادة سياق آياتها و لا يصغي إلى قول بعضهم بكون بعض آياتها أو كلها مدنية، و قد قيل: إنها أول سورة أعلن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقراءتها فقرأها على المؤمنين و المشركين جميعا، و من غرر الآيات فيها قوله تعالى: «و أن إلى ربك المنتهى» و قوله: «و أن ليس للإنسان إلا ما سعى.

و ما أوردناه من الآيات هي الفصل الأول من فصول السورة الثلاثة و هي الآيات اللاتي تصدق الوحي إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تصفه، لكن هناك روايات مستفيضة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ناصة على أن المراد بالآيات ليس بيان صفة كل وحي بل بيان وحي المشافهة الذي أوحاه الله سبحانه إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة المعراج فالآيات متضمنة لقصة المعراج و ظاهر الآيات لا يخلو من تأييد لهذه الروايات و هو المستفاد أيضا من أقوال بعض الصحابة كابن عباس و أنس و أبي سعيد الخدري و غيرهم على ما روي عنهم و على ذلك جرى كلام المفسرين و إن اشتد الخلاف بينهم في تفسير مفرداتها و جملها.

قوله تعالى: «و النجم إذا هوى» ظاهر الآية أن المراد بالنجم هو مطلق الجرم السماوي المضيء و قد أقسم الله في كتابه بكثير من خلقه و منها عدة من الأجرام السماوية كالشمس و القمر و سائر السيارات، و على هذا فالمراد بهوى النجم سقوطه للغروب.

و قيل: المراد بالنجم القرآن لنزوله نجوما، و قيل: الثريا، و قيل: الشعري، و قيل: الشهاب الذي يرمى به شياطين الجن لأن العرب تسميه نجما، و للهوى ما يناسب لكل من هذه الأقوال من المعنى، لكن لفظ الآية لا يساعد على شيء من هذه المعاني.

قوله تعالى: «ما ضل صاحبكم و ما غوى» الضلال الخروج و الانحراف عن الصراط المستقيم، و الغي خلاف الرشد الذي هو إصابة الواقع، قال الراغب: الغي جهل من اعتقاد فاسد، و ذلك أن الجهل قد يكون من كون الإنسان غير معتقد اعتقادا لا صالحا و لا فاسدا و قد يكون من اعتقاد شيء فاسد، و هذا النحو الثاني يقال له غي، قال تعالى: «ما ضل صاحبكم و ما غوى».

انتهى.

و المراد بالصاحب هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و المعنى: ما خرج صاحبكم عن الطريق الموصل إلى الغاية المطلوبة و لا أخطأ في اعتقاده و رأيه فيها، و يرجع المعنى إلى أنه لم يخطىء لا في الغاية المطلوبة التي هي السعادة الإنسانية و هو عبوديته تعالى، و لا في طريقها التي تنتهي إليها.

قوله تعالى: «و ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى» المراد بالهوى هوى النفس و رأيها، و النطق و إن كان مطلقا ورد عليه النفي و كان مقتضاه نفي الهوى عن مطلق نطقه (صلى الله عليه وآله وسلم) لكنه لما كان خطابا للمشركين و هم يرمونه في دعوته و ما يتلو عليهم من القرآن بأنه كاذب متقول مفتر على الله سبحانه كان المراد بقرينة المقام أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ما ينطق فيما يدعوكم إلى الله أو فيما يتلوه عليكم من القرآن عن هوى نفسه و رأيه بل ليس ذلك إلا وحيا يوحى إليه من الله سبحانه.

قوله تعالى: «علمه شديد القوى» ضمير «علمه» للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو للقرآن بما هو وحي أو لمطلق الوحي و المفعول الآخر لعلمه محذوف على أي حال و التقدير علم النبي الوحي أو علم القرآن أو الوحي إياه.

و المراد بشديد القوى - على ما قالوا - جبريل و قد وصفه الله بالقوة في قوله: «ذي قوة عند ذي العرش مكين»: التكوير: 20، و قيل: المراد به هو الله سبحانه.

قوله تعالى: «ذو مرة فاستوى» المرة بكسر الميم الشدة، و حصافة العقل و الرأي و بناء نوع عن المرور و قد فسرت المرة في الآية بكل من المعاني الثلاثة مع القول بأن المراد بذي مرة جبريل، و المعنى: هو أي جبريل ذو شدة في جنب الله أو هو ذو حصافة في عقله و رأيه، أو هو ذو نوع من المرور بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو في الهواء.

و قيل: المراد بذو مرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو ذو شدة في جنب الله أو ذو حصافة في عقله و رأيه أو ذو نوع من المرور عرج فيه إلى السماوات.

و قوله: «فاستوى» بمعنى استقام أو استولى و ضمير الفاعل راجع إلى جبريل و المعنى: فاستقام جبريل على صورته الأصلية التي خلق عليها على ما روي أن جبريل كان ينزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في صور مختلفة، و إنما ظهر له في صورته الأصلية مرتين أو المعنى: فاستولى جبريل بقوته على ما جعل له من الأمر.

و إن كان الضمير للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فالمعنى فاستقام و استقر.

قوله تعالى: «و هو بالأفق الأعلى» الأفق الناحية قيل: المراد بالأفق الأعلى ناحية الشرق من السماء لأن أفق المشرق فوق المغرب في صعيد الأرض لا في الهواء و هو كما ترى و الظاهر أن المراد به أفق أعلى من السماء من غير اعتبار كونه أفقا شرقيا.

و ضمير هو في الآية راجع إلى جبريل أو إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و الجملة حال من ضمير «استوى».

قوله تعالى: «ثم دنا فتدلى» الدنو القرب، و التدلي التعلق بالشيء و يكنى به عن شدة القرب، و قيل: الامتداد إلى جهة السفل مأخوذ من الدلو.

و المعنى: على تقدير رجوع الضميرين لجبريل: ثم قرب جبريل فتعلق بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليعرج به إلى السماوات، و قيل: ثم تدلى جبريل من الأفق الأعلى فدنا من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليعرج به.

و المعنى: على تقدير رجوع الضميرين إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ثم قرب النبي من الله سبحانه و زاد في القرب.

قوله تعالى: «فكان قاب قوسين أو أدنى» قال في المجمع: القاب و القيب و القاد و القيد عبارة عن مقدار الشيء انتهى.

و القوس معروفة و هي آلة الرمي، و يقال قوس على الذراع في لغة أهل الحجاز على ما قيل.

و المعنى: فكان البعد قدر قوسين أو قدر ذراعين أو أقرب من ذلك.

و قيل: القاب ما بين مقبض القوس و سيتها ففي الكلام قلب و المعنى: فكان قابي قوس، و اعترض عليه بأن قابي قوس و قاب قوسين واحد فلا موجب للقلب.

قوله تعالى: «فأوحى إلى عبده ما أوحى» ضمير أوحى في الموضعين لجبريل على تقدير رجوع الضمائر السابقة إلى جبريل، و المعنى: فأوحى جبريل إلى عبد الله و هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما أوحى، قيل: و لا ضير في رجوع الضمير إليه تعالى من عدم سبق الذكر لكونه في غاية الوضوح.

أو الضمائر الثلاث لله و المعنى: فأوحى الله بتوسط جبريل إلى عبده ما أوحى أو الضمير الأول لجبريل و الثاني و الثالث لله و المعنى فأوحى جبريل ما أوحى الله إليه إلى عبد الله.

و الضمائر الثلاث كلها لله على تقدير رجوع الضمائر السابقة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المعنى: فأوحى الله إلى عبده ما أوحى، و هذا المعنى أقرب إلى الذهن من المعنى السابق الذي لا يرتضيه الذوق السليم و إن كان صحيحا.

قوله تعالى: «ما كذب الفؤاد ما رأى» الكذب خلاف الصدق يقال: كذب فلان في حديثه، و يقال: كذبه الحديث بالتعدي إلى مفعولين أي حدثه كذبا، و الكذب كما يطلق على القول و الحديث الذي يلفظه اللسان كذلك يطلق على خطاء القوة المدركة يقال: كذبته عينه أي أخطأت في رؤيتها.

و نفي الكذب عن الفؤاد إنما هو بهذا المعنى سواء أخذ الكذب لازما و التقدير ما كذب الفؤاد فيما رأى أو متعديا إلى مفعولين، و التقدير ما كذب الفؤاد - فؤاد النبي - النبي ما رآه أي إن رؤية فؤاده فيما رآه رؤية صادقة.

و على هذا فالمراد بالفؤاد فؤاد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و ضمير الفاعل في «ما رأى» راجع إلى الفؤاد و الرؤية رؤيته.

و لا بدع في نسبة الرؤية و هي مشاهدة العيان إلى الفؤاد فإن للإنسان نوعا من الإدراك الشهودي وراء الإدراك بإحدى الحواس الظاهرة و التخيل و التفكر بالقوى الباطنة كما إننا نشاهد من أنفسنا أننا نرى و ليست هذه المشاهدة العيانية إبصارا بالبصر و لا معلوما بفكر، و كذا نرى من أنفسنا أننا نسمع و نشم و نذوق و نلمس و نشاهد أننا نتخيل و نتفكر و ليست هذه الرؤية ببصر أو بشيء من الحواس الظاهرة أو الباطنة فإنا كما نشاهد مدركات كل واحدة من هذه القوى بنفس تلك القوة كذلك نشاهد إدراك كل منا لمدركها و ليس هذه المشاهدة بنفس تلك القوة بل بأنفسنا المعبر عنها بالفؤاد.

و ليس في الآية ما يدل على أن متعلق الرؤية هو الله سبحانه و أنه لمرئي له (صلى الله عليه وآله وسلم) بل المرئي هو الأفق الأعلى و الدنو و التدلي و أنه أوحى إليه فهذه هي المذكورة في الآيات السابقة و هي آيات له تعالى، و يؤيد ذلك ما ذكره تعالى في النزلة الأخرى من قوله: «ما زاغ البصر و ما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى».

على أنها لو دلت على تعلق الرؤية به تعالى لم يكن به بأس فإنها رؤية القلب و رؤية القلب غير رؤية البصر الحسية التي تتعلق بالأجسام و يستحيل تعلقها به تعالى و قد قدمنا كلاما في رؤية القلب في تفسير سورة الأعراف الآية 143.

و ما قيل: إن ضمير «ما رأى» للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المعنى: ما قال فؤاده (صلى الله عليه وآله وسلم) لما رآه ببصره لم أعرفك و لو قال ذلك لكان كاذبا لأنه عرفه بقلبه كما رآه ببصره، و محصله أن فؤاده صدق بصره فيما رآه.

و كذا ما قيل: إن المعنى أن فؤاده لم يكذب بصره فيما رآه بل صدقه و اعتقد به، و يؤيده قراءة من قرأ «ما كذب» بتشديد الذال.

ففيه أن الذي يعطيه سياق الآيات تأييده تعالى صدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما يدعيه من الوحي و رؤية آيات الله الكبرى، و لو كان ضمير «ما رأى» للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان محصل معنى الآية الاحتجاج على صدق رؤيته باعتقاده ذلك بفؤاده و هو بعيد من دأب القرآن و هذا بخلاف ما لو رجع ضمير «ما رأى» إلى الفؤاد فإن محصل معناه تصديقه تعالى لفؤاده فيما رآه و يجري الكلام على السياق السابق الأخذ من قوله: «ما ضل صاحبكم و ما غوى إن هو إلا وحي يوحى» إلخ.

فإن قلت: إنه تعالى يحتج في الآية التالية «أ فتمارونه على ما يرى» برؤيته (صلى الله عليه وآله وسلم) على صدقه فيما يدعيه فليكن مثله الاحتجاج باعتقاد فؤاده بما يراه بعينه.

قلت: ليس قوله: «أ فتمارونه على ما يرى» مسوقا للاحتجاج برؤيته على صدقه بل توبيخ على مماراتهم إياه (صلى الله عليه وآله وسلم) على أمر يراه و يبصره و مجادلتهم إياه فيه، و المماراة و المجادلة إنما تصح - لو صحت - في الآراء النظرية و الاعتقادات الفكرية و أما فيما يرى و يشاهد عيانا فلا معنى للمماراة و المجادلة فيه، و هو (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما كان يخبرهم بما يشاهده عيانا لا عن فكر و تعقل.

قوله تعالى: «أ فتمارونه على ما يرى» الاستفهام للتوبيخ و الخطاب للمشركين و الضمير للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و المماراة الإصرار على المجادلة، و المعنى: أ فتصرون في جدالكم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يذعن بخلاف ما يدعيه و يخبركم به و هو يشاهد ذلك عيانا.

قوله تعالى: «و لقد رآه نزلة أخرى» النزلة بناء مرة من النزول فمعناه نزول واحد، و تدل الآية على أن هذه قصة رؤية في نزول آخر و الآيات السابقة تقص نزولا آخر غيره.

و قد قالوا: إن ضمير الفاعل المستكن في قوله «رآه» للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و ضمير المفعول لجبريل، و على هذا فالنزلة نزول جبريل عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) ليعرج به إلى السماوات، و قوله: «عند سدرة المنتهى» ظرف للرؤية لا للنزلة، و المراد برؤيته رؤيته و هو في صورته الأصلية.

و المعنى: أنه نزل عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) نزلة أخرى و عرج به إلى السماوات و تراءى له (صلى الله عليه وآله وسلم) عند سدرة المنتهى و هو في صورته الأصلية.

و قد ظهر مما تقدم صحة إرجاع ضمير المفعول إليه تعالى و المراد بالرؤية رؤية القلب و المراد بنزلة أخرى نزلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عند سدرة المنتهى في عروجه إلى السماوات فالمفاد أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) نزل نزلة أخرى أثناء معراجه عند سدرة المنتهى فرآه بقلبه كما رآه في النزلة الأولى.

قوله تعالى: «عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى» السدر شجر معروف و التاء للوحدة و المنتهى - كأنه - اسم مكان و لعل المراد به منتهى السماوات بدليل كون الجنة عندها و الجنة في السماء، قال تعالى: «و في السماء رزقكم و ما توعدون»: الذاريات: 22.

و لا يوجد في كلامه تعالى ما يفسر هذه الشجرة، و كان البناء على الإبهام كما يؤيده قوله بعد: «إذ يغشى السدرة ما يغشى» و قد فسر في الروايات أيضا بأنها شجرة فوق السماء السابعة إليها تنتهي أعمال بني آدم و ستمر ببعض هذه الروايات.

و قوله: «عندها جنة المأوى» أي الجنة التي يأوي إليها المؤمنون و هي جنة الآخرة فإن جنة البرزخ جنة معجلة محدودة بالبعث، قال تعالى: «فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون»: السجدة: 19، و قوله: «فإذا جاءت الطامة الكبرى - إلى أن قال - فإن الجنة هي المأوى»: النازعات: 41 و هي في السماء على ما يدل عليه قوله تعالى: «و في السماء رزقكم و ما توعدون»: الذاريات: 22 و قيل: المراد بها جنة البرزخ.

و قوله: «إذ يغشى السدرة ما يغشى» غشيان الشيء الإحاطة به، و «ما» موصولة و المعنى: إذ يحيط بالسدرة ما يحيط بها، و قد أبهم تعالى هذا الذي يغشى السدرة و لم يبين ما هو كما تقدمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: «ما زاغ البصر و ما طغى» الزيغ الميل عن الاستقامة، و الطغيان تجاوز الحد في العمل، و زيغ البصر إدراكه المبصر على غير ما هو عليه، و طغيانه إدراكه ما لا حقيقة له، و المراد بالبصر بصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و المعنى: أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يبصر ما أبصره على غير صفته الحقيقية و لا أبصر ما لا حقيقة له بل أبصر غير خاطىء في إبصاره.

و المراد بالإبصار رؤيته (صلى الله عليه وآله وسلم) بقلبه لا بجارحة العين فإن المراد بهذا الإبصار ما يعنيه بقوله: «و لقد رآه نزلة أخرى» المشير إلى مماثلة هذه الرؤية لرؤية النزلة الأولى التي يشير إليها بقوله: «ما كذب الفؤاد ما رأى أ فتمارونه على ما يرى» فافهم و لا تغفل.

قوله تعالى: «لقد رأى من آيات ربه الكبرى» «من» للتبعيض، و المعنى: أقسم لقد شاهد بعض الآيات الكبرى لربه، و بذلك تم مشاهدة ربه بقلبه فإن مشاهدته تعالى بالقلب إنما هي بمشاهدة آياته بما هي آياته فإن الآية بما هي آية لا تحكي إلا ذا الآية و لا تحكي عن نفسه شيئا و إلا لم تكن من تلك الجهة آية.

و أما مشاهدة ذاته المتعالية من غير توسط آية و تخلل حجاب فمن المستحيل ذلك قال تعالى: «و لا يحيطون به علما»: طه: 110.

بحث روائي

في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و النجم إذا هوى» قال: النجم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «إذا هوى» لما أسري به إلى السماء و هو في الهوي.

أقول: و روي تسميته (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنجم بإسناده عن أبيه عن الحسين بن خالد عن الرضا (عليه السلام)، و هو من البطن.

و في الكافي، عن القمي عن أبيه عن ابن أبي عمير عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): قول الله عز و جل: «و الليل إذا يغشى» «و النجم إذا هوى» و ما أشبه ذلك؟ قال: إن لله عز و جل أن يقسم من خلقه بما شاء، و ليس لخلقه أن يقسموا إلا به:. أقول: و في الفقيه، عن علي بن مهزيار عن أبي جعفر الثاني: مثله.

و في المجمع، و روت العامة عن جعفر الصادق أنه قال: إن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) نزل من السماء السابعة ليلة المعراج و لما نزلت السورة أخبر بذلك عتبة بن أبي لهب فجاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و طلق ابنته و تفل في وجهه و قال: كفرت بالنجم و رب النجم، فدعا (صلى الله عليه وآله وسلم) عليه و قال: اللهم سلط عليه كلبا من كلابك. فخرج عتبة إلى الشام فنزل في بعض الطريق و ألقى الله عليه الرعب فقال لأصحابه أنيموني بينكم ليلا ففعلوا فجاء أسد فافترسه من بين الناس.

أقول: ثم أورد الطبرسي شعر حسان في ذلك، و روي في الدر المنثور، القصة بطرق مختلفة.

و في الكافي، بإسناده إلى هشام و حماد و غيره قالوا: سمعنا أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: حديثي حديث أبي و حديث أبي حديث جدي و حديث جدي حديث الحسين و حديث الحسين حديث الحسن و حديث الحسن حديث أمير المؤمنين و حديث أمير المؤمنين حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قول الله عز و جل.

و في تفسير القمي، بإسناده إلى ابن سنان في حديث: قال أبو عبد الله (عليه السلام): و ذلك أنه يعني النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أقرب الخلق إلى الله تعالى و كان بالمكان الذي قال له جبرئيل لما أسري به إلى السماء: تقدم يا محمد فقد وطأت موطئا لم يطأه ملك مقرب و لا نبي مرسل، و لو لا أن روحه و نفسه كان من ذلك المكان لما قدر أن يبلغه، و كان من الله عز و جل كما قال الله عز و جل: «قاب قوسين أو أدنى» أي بل أدنى.

و في الاحتجاج، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) في حديث طويل: أنا ابن من علا فاستعلى فجاز سدرة المنتهى فكان من ربه قاب قوسين أو أدنى.

أقول: و قد ورد هذا المعنى في كثير من روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام).

و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر و ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: لما أسري بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اقترب من ربه فكان قاب قوسين أو أدنى. قال: أ لم تر إلى القوس ما أقربها من الوتر؟ و فيه، أخرج ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن مردويه عن ابن عباس: في قوله: «ثم دنا فتدلى» قال: هو محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) دنا فتدلى إلى ربه عز و جل.

و في المجمع، و روي مرفوعا عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله: «فكان قاب قوسين أو أدنى» قال: قدر ذراعين أو أدنى من ذراعين.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «فأوحى إلى عبده ما أوحى» قال: وحي مشافهة.

و في التوحيد، بإسناده إلى محمد بن الفضيل قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) هل رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ربه عز و جل؟ فقال: نعم بقلبه رآه، أ ما سمعت الله عز و جل يقول: «ما كذب الفؤاد ما رأى»؟ لم يره بالبصر و لكن رآه بالفؤاد.

و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي عن بعض أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: قالوا: يا رسول الله هل رأيت ربك؟ قال: لم أره بعيني و رأيته بفؤادي مرتين ثم تلا «ثم دنا فتدلى».

أقول: و روى هذا المعنى النسائي عن أبي ذر على ما في الدر المنثور، و لفظه: رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ربه بقلبه و لم يره ببصره.

و عن صحيح مسلم، و الترمذي و ابن مردويه عن أبي ذر قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): هل رأيت ربك؟ فقال: نوراني أراه.

أقول: «نوراني» منسوب إلى النور على خلاف القياس كجسماني في النسبة إلى جسم، و قرىء «نور إني أراه» بتنوين الراء و كسر الهمزة و تشديد النون ثم ياء المتكلم، و الظاهر أنه تصحيف و إن أيد برواية أخرى عن مسلم في صحيحه و ابن مردويه عن أبي ذر: أنه سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): هل رأيت ربك؟ فقال: رأيت نورا.

و كيف كان فالمراد بالرؤية رؤية القلب فلا الرؤية رؤية حسية و لا النور نور حسي.

و في الكافي، بإسناده عن صفوان بن يحيى قال: سألني أبو قرة المحدث أن أدخله إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فاستأذنته في ذلك فأذن لي فدخل عليه فسأله عن الحلال و الحرام و الأحكام. إلى قوله: قال أبو قرة: فإنه يقول: «و لقد رآه نزلة أخرى» فقال أبو الحسن (عليه السلام): إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال: «ما كذب الفؤاد ما رأى» يقول: ما كذب فؤاد محمد ما رأت عيناه ثم أخبر بما رأى فقال: «لقد رأى من آيات ربه الكبرى» و آيات الله غير الله.

أقول: الظاهر أن كلامه (عليه السلام) مسوق لإلزام أبي قرة حيث كان يريد إثبات رؤيته تعالى بالعين الحسية فألزمه بأن الرؤية إنما تعلقت بالآيات و آيات الله غير الله و لا ينافي ذلك كون رؤية الآيات بما هي آياته رؤيته و إن كانت آياته غيره، و هذه الرؤية إنما كانت بالقلب كما مرت عدة من الروايات في هذا المعنى.

و في تفسير القمي، حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن هشام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): انتهيت إلى سدرة المنتهى و إذا الورقة منها تظل أمة من الأمم فكنت من ربي كقاب قوسين أو أدنى.

و في الدر المنثور، أخرج أحمد و ابن جرير عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): انتهيت إلى السدرة فإذا نبقها مثل الجراد، و إذا ورقها مثل آذان الفيلة فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تحولت ياقوتا و زمردا و نحو ذلك.

و في تفسير القمي، بإسناده إلى إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث طويل: فلما انتهى به إلى سدرة المنتهى تخلف عنه جبرئيل فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): في هذا الموضع تخذلني؟ فقال: تقدم أمامك فوالله لقد بلغت مبلغا لم يبلغه أحد من خلق الله قبلك فرأيت من نور ربي و حال بيني و بينه السبحة. قلت: و ما السبحة جعلت فداك؟ فأومى بوجهه إلى الأرض و أومأ بيده إلى السماء و هو يقول: جلال ربي جلال ربي ثلاث مرات.

أقول: السبحة الجلال كما فسر في الرواية، و السبحة ما يدل على تنزهه تعالى من خلقه و مرجعه إلى المعنى الأول، و محصل ذيل الرواية أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى ربه برؤية آياته.

و فيه،: في قوله تعالى: «و لقد رآه نزلة أخرى - عند سدرة المنتهى» قال: في السماء السابعة.

و فيه،: في قوله تعالى: «إذ يغشى السدرة ما يغشى» قال: لما رفع الحجاب بينه و بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غشي نور السدرة.

أقول: و في المعاني السابقة روايات أخرى و قد تقدم في أول تفسير سورة الإسراء روايات جامعة لقصة معراجه (صلى الله عليه وآله وسلم).

و قد نقلنا هناك في ذيل الروايات الاختلاف في كيفية معراجه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه كان في المنام أو في اليقظة و على الثاني بجسمه و روحه معا أو بروحه فحسب، و نقلنا عن صاحب المناقب أن الإمامية ترى أن إسراءه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كان بالروح و الجسم معا على ما تدل عليه آية الإسراء، و أما من المسجد الأقصى إلى السماوات فقد قال قوم بكونه بالروح و الجسم معا أيضا و وافقهم كثير من الشيعة و مال بعضهم إلى كونه بالروح و مال إليه بعض المتأخرين.

و لا ضير في القول به لو أيدته القرائن الحافة بالآيات و الروايات غير أن من الواجب حينئذ أن يحمل قوله تعالى: «عندها جنة المأوى» على جنة البرزخ ليحمل كونها عندها على نحو من التعلق كما ورد أن القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، أو توجه الآية بما لا ينافي كون العروج في السماوات روحيا.

و أما كون الإسراء في المنام فقد تقدم في تفسير آية الإسراء أنه مما لا ينبغي أن يلتفت إليه.

و أما تطبيق الإسراء إلى السماوات على تسييره (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلا في الكواكب الأخرى غير الأرض من منظومتنا الشمسية أو في منظومات أخرى غير منظومتنا أو في مجرات أخرى غير مجرتنا فمما لا يلائمه الأخبار الواردة في تفصيل القصة البتة بل و لا محصل مضامين الآيات المتقدمة.

العودة إلى القائمة

التالي