الميزان في تفسير القرآن

سورة المائدة

94 - 99

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (98) مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)

بيان

الآيات في بيان حكم صيد البر و البحر في حال الإحرام.

قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم و رماحكم» البلاء هو الامتحان و الاختبار، و لام القسم و النون المشددة للتأكيد، و قوله: بشيء من الصيد يفيد التحقير ليكون تلقينه للمخاطبين عونا لهم على انتهائهم إلى ما سيواجههم من النهي في الآية الآتية، و قوله: «تناله أيديكم و رماحكم» تعميم للصيد من حيث سهولة الاصطياد كما في فراخ الطير و صغار الوحش و البيض تنالها الأيدي فتصطاد بسهولة، و من حيث صعوبة الاصطياد ككبار الوحش لا تصطاد عادة إلا بالسلاح.

و ظاهر الآية أنها مسوقة كالتوطئة لما ينزل من الحكم المشدد في الآية التالية، و لذلك عقب الكلام بقوله: «ليعلم الله من يخافه بالغيب» فإن فيه إشعارا بأن هناك حكما من قبيل المنع و التحريم ثم عقبه بقوله: «فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم».

قوله تعالى: «ليعلم الله من يخافه بالغيب» لا يبعد أن يكون قوله: ليبلونكم الله ليعلم كذا كناية عن أنه سيقدر كذا ليتميز منكم من يخاف الله بالغيب عمن لا يخافه لأن الله سبحانه لا يجوز عليه الجهل حتى يرفعه بالعلم، و قد تقدم البحث المستوفى عن معنى الامتحان في تفسير قوله تعالى: «أم حسبتم أن تدخلوا الجنة،» الآية: «آل عمران: 124» في الجزء الرابع من هذا الكتاب، و تقدم أيضا معنى آخر لهذا العلم.

و أما قوله: «من يخافه بالغيب» فالظرف متعلق بالخوف، و معنى الخوف بالغيب أن يخاف الإنسان ربه و يحترز ما ينذره به من عذاب الآخرة و أليم عقابه، و كل ذلك في غيب من الإنسان لا يشاهد شيئا منه بظاهر مشاعره، قال تعالى: «إنما تنذر من اتبع الذكر و خشي الرحمن بالغيب»: «يس: 11»، و قال: «و أزلفت الجنة للمتقين غير بعيد، هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ، من خشي الرحمن بالغيب و جاء بقلب منيب»: «ق: 33»، و قال: «الذين يخشون ربهم بالغيب و هم من الساعة مشفقون»: «الأنبياء: 49».

و قوله: «فمن اعتدى بعد ذلك» أي تجاوز الحد الذي يحده الله بعد البلاء المذكور فله عذاب أليم.

قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد و أنتم حرم» «إلخ»، الحرم بضمتين جمع الحرام صفة مشبهة، قال في المجمع: و رجل حرام و محرم بمعنى، و حلال و محل كذلك، و أحرم الرجل دخل في الشهر الحرام، و أحرم أيضا دخل في الحرم، و أحرم أهل بالحج، و الحرم الإحرام، و منه الحديث: كنت أطيب النبي لحرمه، و أصل الباب، المنع و سميت النساء حرما لأنها تمنع، و المحروم الممنوع الرزق.

قال: و المثل و المثل و الشبه و الشبه واحد، قال: و النعم في اللغة الإبل و البقر و الغنم، و إن انفردت الإبل قيل لها: نعم، و إن انفردت البقر و الغنم لم تسم نعما ذكره الزجاج.

قال: قال الفراء: العدل بفتح العين ما عادل الشيء من غير جنسه، و العدل بالكسر المثل تقول: عندي عدل بالكسر غلامك أو شاتك إذا كانت شاة تعدل شاة أو غلام يعدل غلاما فإذا أردت قيمته من غير جنسه فتحت و قلت: عدل، و قال البصريون: العدل و العدل في معنى المثل كان من الجنس أو غير الجنس.

قال: و الوبال ثقل الشيء في المكروه، و منه قولهم: طعام وبيل و ماء وبيل إذا كانا ثقيلين غير ناميين في المال، و منه: «فأخذناه أخذا وبيلا» أي ثقيلا شديدا، و يقال لخشبة القصار: وبيل من هذا، انتهى.

و قوله: «لا تقتلوا الصيد و أنتم حرم» نهي عن قتل الصيد لكن يفسره بعض التفسير قوله بعد: «أحل لكم صيد البحر» هذا من جهة الصيد، و يفسره من جهة معنى القتل قوله: «و من قتله منكم متعمدا فجزاء» «إلخ»، فقوله: «متعمدا» حال من قوله: «من قتله» و ظاهر التعمد ما يقابل الخطأ الذي هو القتل من غير أن يريد بفعله ذلك كمن يرمي إلى هدف فأصاب صيدا، و لازمه وجوب الكفارة إذا كان قاصدا لقتل الصيد سواء كان على ذكر من إحرامه أو ناسيا أو ساهيا.

و قوله: «فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة» لظاهر معناه: فعليه جزاء ذلك الجزاء مثل ما قتل من الصيد، و ذلك الجزاء من النعم المماثلة لما قتله يحكم به أي بذلك الجزاء المماثل رجلان منكم ذوا عدل في الدين حال كون الجزاء المذكور هديا يهدي به بالغ الكعبة ينحر أو يذبح في الحرم بمكة أو بمنى على ما يبينه السنة النبوية.

فقوله: «جزاء» بالرفع مبتدأ لخبر محذوف يدل عليه الكلام، و قوله: «مثل ما قتل» و قوله: «من النعم» و قوله: «يحكم به» «إلخ»، أوصاف للجزاء، و قوله: «هديا بالغ الكعبة» موصوف و صفة، و الهدي حال من الجزاء تقدم، هذا، و قد قيل: غير ذلك.

و قوله: «أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما» خصلتان أخريان من خصال كفارة قتل الصيد، و كلمة «أو» لا يدل على أزيد من مطلق الترديد، و الشارح السنة، غير أن قوله: «أو كفارة» حيث سمى طعام المساكين كفارة ثم اعتبر ما يعادل الطعام من الصيام لا يخلو من إشعار بالترتيب بين الخصال.

و قوله: «ليذوق وبال أمره» اللام للغاية، و هي و مدخولها متعلق بقوله: «فجزاء» فالكلام يدل على أن ذلك نوع مجازاة.

قوله تعالى: «عفا الله عما سلف و من عاد فينتقم الله منه، إلى آخر» الآية تعلق العفو بما سلف قرينة على أن المراد بما سلف هو ما تحقق من قتل الصيد قبل نزول الحكم بنزول الآية فإن تعلق العفو بما يتحقق حين نزول الآية أو بعده يناقض جعل الحكم و هو ظاهر، فالجملة لدفع توهم شمول حكم الكفارة للحوادث السابقة على زمان النزول.

و الآية من الدليل على جواز تعلق العفو بما ليس بمعصية من الأفعال إذا كان من طبعها اقتضاء النهي المولوي لاشتمالها على المفسدة، و أما قوله: «و من عاد فينتقم الله منه و الله عزيز ذو انتقام» فظاهر العود تكرر الفعل، و هذا التكرر ليس تكرر ما سلف من الفعل بأن يكون المعنى: و من عاد إلى مثل ما سلف منه من الفعل فينتقم الله منه لأنه حينئذ ينطبق على الفعل الذي يتعلق به الحكم في قوله: «و من قتله منكم متعمدا فجزاء» «إلخ» و يكون المراد بالانتقام هو الحكم بالكفارة، و هو حكم ثابت بالفعل لكن ظاهر قوله: «فينتقم الله منه» أنه إخبار عن أمر مستقبل لا عن حكم حال فعلي.

و هذا شاهد على أن المراد بالعود العود ثانيا إلى فعل تعلق به الكفارة، و المراد بالانتقام العذاب الإلهي غير الكفارة المجعولة.

و على هذا فالآية بصدرها و ذيلها تتعرض لجهات مسألة قتل الصيد، أما ما وقع منه قبل نزول الحكم فقد عفا الله عنه، و أما بعد جعل الحكم فمن قتله فعليه جزاء مثل ما قتل في المرة الأولى فإن عاد فينتقم الله منه و لا كفارة عليه، و على هذا يدل معظم الأخبار المروية عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في تفسير الآية.

و لو لا هذا المعنى كان كالمتعين حمل الانتقام في قوله: «فينتقم الله منه» على ما يعم الحكم بوجوب الكفارة، و حمل العود على فعل ما يماثل ما سلف منهم من قتل الصيد أي و من عاد إلى مثل ما كانوا عليه من قتل الصيد قبل هذا الحكم، أي و من قتل الصيد فينتقم الله منه أي يؤاخذه بإيجاب الكفارة، و هذا - كما ترى - معنى بعيد من اللفظ.

قوله تعالى: «أحل لكم صيد البحر و طعامه متاعا لكم و للسيارة» إلى آخر الآية، الآيات في مقام بيان حكم الاصطياد من بحر أو، بر و هو الشاهد على أن متعلق الحل هو الاصطياد في قوله: «أحل لكم صيد البحر» دون أكله، و بهذه القرينة يتعين قوله: «و طعامه» في أن المراد به ما يؤكل دون المعنى المصدري الذي هو الأكل و المراد بحل طعام البحر حل أكله فمحصل المراد من حل صيد البحر و طعامه جواز اصطياد حيوان البحر و حل أكل ما يؤخذ منه.

و ما يؤخذ من طعام البحر و إن كان أعم مما يؤخذ منه صيدا كالعتيق من لحم الصيد أو ما قذفته البحر من ميتة حيوان و نحوه إلا أن الوارد من أخبار أئمة أهل البيت (عليهم السلام) تفسيره بالمملوح و نحوه من عتيق الصيد، و قوله: «متاعا لكم و للسيارة» كأنه حال من صيد البحر و طعامه، و فيه شيء من معنى الامتنان.

و حيث كان الخطاب للمؤمنين من حيث كونهم محرمين كانت المقابلة بينهم و بين السيارة في قوة قولنا: متاعا للمحرمين و غيرهم.

و اعلم أن في الآيات أبحاثا فرعية كثيرة معنونة في الكتب الفقهية من أرادها فليراجعها.

قوله تعالى: «جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس و الشهر الحرام و الهدي و القلائد» ظاهر تعليق الكلام بالكعبة ثم بيانه بالبيت بأنه بيت حرام، و كذا توصيف الشهر بالحرام ثم ذكر الهدي و القلائد اللذين يرتبط شأنهما بحرمة البيت، كل ذلك يدل على أن الملاك فيما يبين الله سبحانه في هذه الآية من الأمر إنما هو الحرمة.

و القيام ما يقوم به الشيء، قال الراغب: و القيام و القوام اسم لما يقوم به الشيء أي يثبت كالعماد و السناد لما يعمد و يسند به كقوله: «و لا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما» أي جعلها مما يمسككم، و قوله: «جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس» أي قواما لهم يقوم به معاشهم و معادهم، قال الأصم: قائما لا ينسخ، و قرىء: قيما بمعنى قياما، انتهى.

فيرجع معنى قوله: «جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس» إلى أنه تعالى جعل الكعبة بيتا حراما احترمه، و جعل بعض الشهور حراما، و وصل بينهما حكما كالحج في ذي الحجة الحرام، و جعل هناك أمورا تناسب الحرمة كالهدي و القلائد كل ذلك لتعتمد عليه حياة الناس الاجتماعية السعيدة.

فإنه جعل البيت الحرام قبلة يوجه إليه الناس وجوههم في صلواتهم و يوجهون إليه ذبائحهم و أمواتهم، و يحترمونه في سيىء حالاتهم، فيتوحد بذلك جمعهم، و يجتمع به شملهم، و يحيى و يدوم به دينهم، و يحجون إليه من مختلف الأقطار و أقاصي الآفاق فيشهدون منافع لهم، و يسلكون به طرق العبودية.

و يهدي باسمه و بذكره و النظر إليه و التقرب به و التوجه إليه العالمون، و قد بينه الله تعالى بوجه آخر قريب من هذا الوجه بقوله: «إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا و هدى للعالمين»: - آل عمران: 96، و قد وافاك في الآية في الجزء الثالث من هذا الكتاب من الكلام ما يتنور به المقام.

و نظير ذلك الكلام في كون الشهر الحرام قياما للناس و قد حرم الله فيه القتال، و جعل الناس فيه في أمن من حيث دمائهم و أعراضهم و أموالهم، و يصلحون فيه ما فسد أو اختل من شئون حياتهم، و الشهر الحرام بين الشهور كالموقف و المحط الذي يستريح فيه المتطرق التعبان، و بالجملة البيت الحرام و الشهر الحرام و ما يتعلق بذلك من هدي و قلائد قيام للناس من عامة جهات معاشهم و معادهم، و لو استقرأ المفكر المتأمل جزئيات ما ينتفع به الناس انتفاعا جاريا أو ثابتا من بركات البيت العتيق و الشهر الحرام من صلة الأرحام، و مواصلة الأصدقاء، و إنفاق الفقراء، و استرباح الأسواق، و موادة الأقرباء و الأداني، و معارفة الأجانب و الأباعد، و تقارب القلوب، و تطهر الأرواح، و اشتداد القوى، و اعتضاد الملة، و حياة الدين، و ارتفاع أعلام الحق، و رايات التوحيد أصاب بركات جمة و رأى عجبا.

و كان المراد من ذكر هذه الحقيقة عقيب الآيات الناهية عن الصيد هو دفع ما يتوهم أن هذه أحكام عديمة أو قليلة الجدوى، فأي فائدة لتحريم الصيد في مكان من الأمكنة أو زمان من الأزمنة؟ و أي جدوى في سوق الهدي و نحو ذلك؟ و هل هذه الأحكام إلا مشاكلة لما يوجد من النواميس الخرافية بين الأمم الجاهلة الهمجية؟.

فأجيب عن ذلك بأن اعتبار البيت الحرام و الشهر الحرام و ما يتبعهما من الحكم مبني على حقيقة علمية و أساس جدي و هو أنها قيام يقوم به صلب حياتهم.

و من هنا يظهر وجه اتصال قوله: «ذلك لتعلموا»، إلى آخر» الآية بما قبله، و المشار إليه بقوله: «ذلك» إما نفس الحكم المبين في الآيات السابقة الذي يوضح حكمة تشريعه قوله: «جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس» «إلخ»، و إما بيان الحكم الموضح بقوله: «جعل الله الكعبة» «إلخ»، المدلول عليه بالمقام.

و المعنى على التقدير الأول أن الله جعل البيت الحرام و الشهر الحرام قياما للناس و وضع ما يناسبهما من الأحكام لينتقلوا من حفظ حرمتهما و العمل بالأحكام المشرعة فيهما إلى أن الله عليم بما في السماوات و الأرض و ما يصلح شئونها، فشرع ما شرع لكم عن علم من غير أن يكون شيء من ذلك حكما خرافيا صادرا عن جهالة الوهم.

و المعنى على التقدير الثاني أنا بينا لكم هذه الحقيقة و هي جعل البيت الحرام و الشهر الحرام و ما يتبعهما من الأحكام قياما للناس لتعلموا أن الله عليم بما في السماوات و الأرض و ما يتبعها من الأحكام المصلحة لشئونها فلا تتوهموا أن هذه الأحكام المشرعة لاغية من غير جدوى أو أنها خرافات مختلقة.

قوله تعالى: «اعلموا أن الله شديد العقاب و أن الله غفور رحيم، إلى آخر الآيتين» تأكيد للبيان و تثبيت لموقع الأحكام المذكورة، و وعيد و وعد للمطيعين و العاصين، و فيه شائبة تهديد، و لذلك قدم توصيفه بشدة العقاب على توصيفه بالمغفرة و الرحمة، و لذلك أيضا أعقب الكلام بقوله: «ما على الرسول إلا البلاغ و الله يعلم ما تبدون و ما تكتمون».

بحث روائي

في الكافي،: بإسناده عن حماد بن عيسى و ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: «ليبلونكم الله بشيء من الصيد - تناله أيديكم و رماحكم»، قال: حشرت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في عمرة الحديبية الوحوش حتى نالتها أيديهم و رماحهم. أقول: و رواه العياشي، عن معاوية بن عمار مرسلا، و روى هذا المعنى أيضا الكليني في الكافي، و الشيخ في التهذيب، بإسنادهما إلى الحلبي عن الصادق (عليه السلام)، و العياشي عن سماعة عنه (عليه السلام) مرسلا، و كذا القمي في تفسيره مرسلا، و روي ذلك عن مقاتل بن حيان كما يأتي.

و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: أنزلت هذه الآية في عمرة الحديبية فكانت الوحوش و الطير و الصيد تغشاهم في رحالهم لم يروا مثله قط فيما خلا فنهاهم الله عن قتله و هم محرمون ليعلم الله من يخافه بالغيب.

أقول: و الروايتان لا تنافيان ما قدمناه في البيان السابق من عموم معنى الآية.

و في الكافي، مسندا عن أحمد بن محمد رفعه: في قوله تبارك و تعالى: تناله أيديكم و رماحكم، قال: ما تناله الأيدي البيض و الفراخ، و ما تناله الرماح فهو ما لا تصل إليه الأيدي.

و في تفسير العياشي، بإسناده عن حريز، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا قتل الرجل المحرم حمامة ففيها شاة، فإن قتل فرخا ففيه جمل، فإن وطأ بيضة فكسرها فعليه درهم، كل هذا يتصدق بمكة و منى، و هو قول الله في كتابه: «ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم» البيض و الفراخ «و رماحكم» الأمهات الكبار. أقول: و رواه الشيخ في التهذيب، عن حريز عنه (عليه السلام) مقتصرا على الشطر الأخير من الحديث.

و في التهذيب، بإسناده عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: المحرم إذا قتل الصيد فعليه جزاؤه و يتصدق بالصيد على مسكين، فإن عاد فقتل صيدا آخر لم يكن عليه جزاء و ينتقم الله منه، و النقمة في الآخرة.

و فيه،: عن الكليني، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا أصاب المحرم الصيد خطأ فعليه كفارة، فإن أصابه ثانية متعمدا فهو ممن ينتقم الله منه، و لم يكن عليه كفارة.

و فيه،: عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله: محرم أصاب صيدا؟ قال: عليه كفارة قلت: فإن هو عاد؟ قال: عليه كلما عاد كفارة.

أقول: الروايات - كما ترى - مختلفة، و قد جمع الشيخ بينها بأن المراد أن المحرم إذا قتل متعمدا فعليه كفارة و إن عاد متعمدا فلا كفارة عليه، و هو ممن ينتقم الله منه، و أما الناسي فكلما عاد فعليه كفارة.

و فيه،: بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله عز و جل: «يحكم به ذوا عدل منكم» فالعدل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و الإمام من بعده يحكم به و هو ذو عدل فإذا علمت ما حكم الله به من رسول الله و الإمام فحسبك و لا تسأل عنه.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي