الميزان في تفسير القرآن

سورة المائدة

15 - 19

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (16) لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)

بيان

لما ذكر تعالى أخذه الميثاق من أهل الكتاب على نصرة رسله و تعزيرهم و على حفظ ما آتاهم من الكتاب ثم نقضهم ميثاقه تعالى الذي واثقهم به دعاهم إلى الإيمان برسوله الذي أرسله و كتابه الذي أنزله، بلسان تعريفهما لهم و إقامة البينة على صدق الرسالة و حقية الكتاب، و إتمام الحجة عليهم في ذلك: أما التعريف فهو الذي يشتمل عليه قوله: «يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا» إلخ، و قوله: «يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة» إلخ.

و أما إقامة البينة فما في قوله: «يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون» إلخ فإن ذلك نعم الشاهد على صدق الرسالة من أمي يخبر بما لا سبيل إليه إلا للأخصاء من علمائهم، و كذا قوله: «يهدي به الله من اتبع رضوانه» إلخ فإن المطالب الحقة التي لا غبار على حقيتها هي نعم الشاهد على صدق الرسالة و حقية الكتاب.

و أما إتمام الحجة فما يتضمنه قوله: «أن تقولوا ما جاءنا من بشير و لا نذير فقد جاءكم بشير و نذير و الله على كل شيء قدير».

و قد رد الله تعالى عليهم في ضمن الآيات قول البعض: «إن الله هو المسيح بن مريم» و قول اليهود و النصارى.

«نحن أبناء الله و أحباؤه». قوله تعالى: «يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب و يعفوا عن كثير» أما بيانه كثيرا كانوا يخفون من الكتاب فكبيانه آيات النبوة و بشاراتها كما يشير إليه قوله تعالى: «الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل»: الآية الأعراف: 175 و قوله تعالى: «يعرفونه كما يعرفون أبناءهم» الآية: البقرة: 164 و قوله: «محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم - إلى قوله - ذلك مثلهم في التوراة و مثلهم في الإنجيل» الآية : الفتح: 29 و كبيانه (صلى الله عليه وآله وسلم) حكم الرجل الذي كتموه و كابروا فيه الحق على ما يشير إليه قوله تعالى فيما سيأتي: «لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر» الآيات: المائدة: 41 و هذا الحكم أعني حكم الرجم موجود الآن في الإصحاح الثاني و العشرين من سفر التثنية من التوراة الدائرة بينهم.

و أما عفوه عن كثير فهو تركه كثيرا مما كانوا يخفونه من الكتاب، و يشهد بذلك الاختلاف الموجود في الكتابين، كاشتمال التوراة على أمور في التوحيد و النبوة لا يصح استنادها إليه تعالى كالتجسم و الحلول في المكان و نحو ذلك، و ما لا يجوز العقل نسبته إلى الأنبياء الكرام من أنواع الكفر و الفجور و الزلات، و كفقدان التوراة ذكر المعاد من رأس و لا يقوم دين على ساق إلا بمعاد، و كاشتمال ما عندهم من الأناجيل و لا سيما إنجيل يوحنا على عقائد الوثنية.

قوله تعالى: «قد جاءكم من الله نور و كتاب مبين» ظاهر قوله: «قد جاءكم من الله» كون هذا الجائي قائما به تعالى نحو قيام كقيام البيان أو الكلام بالمبين و المتكلم و هذا يؤيد كون المراد بالنور هو القرآن، و على هذا فيكون قوله: «و كتاب مبين» معطوفا عليه عطف تفسير، و المراد بالنور و الكتاب المبين جميعا القرآن، و قد سمى الله تعالى القرآن نورا في موارد من كلامه كقوله تعالى: «و اتبعوا النور الذي أنزل معه»: الأعراف: 175 و قوله: «فآمنوا بالله و رسوله و النور الذي أنزلنا»: التغابن: 8 و قوله: «و أنزلنا إليكم نورا مبينا»: النساء: 147.

و من المحتمل أن يكون المراد بالنور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما ربما أفاده صدر الكلام في الآية، و قد عده الله تعالى نورا في قوله: «و سراجا منيرا»: الأحزاب: 46.

قوله تعالى: «يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام» الباء في قوله: «به» للآلة و الضمير عائد إلى الكتاب أو إلى النور سواء أريد به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو القرآن فمآل الجميع واحد فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أحد الأسباب الظاهرية في مرحلة الهداية، و كذا القرآن و حقيقة الهداية قائمة به قال تعالى: «إنك لا تهدي من أحببت و لكن الله يهدي من يشاء»: القصص: 56، و قال: «و كذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب و لا الإيمان و لكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا و إنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السموات و ما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور»: الشورى: 53 و الآيات كما ترى تنسب الهداية إلى القرآن و إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في عين أنها ترجعها إلى الله سبحانه فهو الهادي حقيقة و غيره سبب ظاهري مسخر لإحياء أمر الهداية.

و قد قيد تعالى قوله: «يهدي به الله» بقوله: «من اتبع رضوانه» و يئول إلى اشتراط فعلية الهداية الإلهية باتباع رضوانه، فالمراد بالهداية هو الإيصال إلى المطلوب، و هو أن يورده الله تعالى سبيلا من سبل السلام أو جميع السبل أو أكثرها واحدا بعد آخر.

و قد أطلق تعالى السلام فهو السلامة و التخلص من كل شقاء يختل به أمر سعادة الحياة في دنيا أو آخرة، فيوافق ما وصف القرآن الإسلام لله و الإيمان و التقوى بالفلاح و الفوز و الأمن و نحو ذلك، و قد تقدم في الكلام على قوله تعالى: «اهدنا الصراط المستقيم»: الحمد: 6 في الجزء الأول من الكتاب أن لله سبحانه بحسب اختلاف حال السائرين من عباده سبلا كثيرة تتحد الجميع في طريق واحد منسوب إليه تعالى يسميه في كلامه بالصراط المستقيم قال تعالى: «و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا و إن الله لمع المحسنين»: العنكبوت: 69، و قال تعالى: «و أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله»: الأنعام:. 135 فدل على أن له سبلا كثيرة لكن الجميع تتحد في الإيصال إلى كرامته تعالى من غير أن تفرق سالكيها و يبين كل سبيل سالكيه عن سالكي غيره من السبل كما هو شأن غير صراطه تعالى من السبل.

فمعنى الآية - و الله العالم -: يهدي الله سبحانه و يورد بسبب كتابه أو بسبب نبيه من اتبع رضاه سبلا من شأنها أنه يسلم من سار فيها من شقاء الحياة الدنيا و الآخرة، و كل ما تتكدر به العيشة السعيدة.

فأمر الهداية إلى السلام و السعادة يدور مدار اتباع رضوان الله، و قد قال تعالى: «و لا يرضى لعباده الكفر»: الزمر: 7، و قال: «فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين»: التوبة: 96 و يتوقف بالآخرة على اجتناب سبيل الظلم و الانخراط في سلك الظالمين، و قد نفى الله سبحانه عنهم هدايته و آيسهم من نيل هذه الكرامة الإلهية بقوله: «و الله لا يهدي القوم الظالمين»: الجمعة: 5 فالآية أعني قوله: «يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام» تجري بوجه مجرى قوله: «و الذين ءامنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن و هم مهتدون»: الأنعام: 82.

قوله تعالى: «و يخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه» في جمع الظلمات و إفراد النور إشارة إلى أن طريق الحق لا اختلاف فيه و لا تفرق و إن تعددت بحسب المقامات و المواقف بخلاف طريق الباطل.

و الإخراج من الظلمات إلى النور إذا نسب إلى غيره تعالى كنبي أو كتاب فمعنى إذنه تعالى فيه إجازته و رضاه كما قال تعالى: «كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم»: إبراهيم: 1 فقيد إخراجه إياهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ليخرج بذلك عن الاستقلال في السببية فإن السبب الحقيقي لذلك هو الله سبحانه و قال: «و لقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور»: إبراهيم: 5 فلم يقيده بالإذن لاشتمال الأمر على معناه.

و إذا نسب ذلك إلى الله تعالى فمعنى إخراجهم بإذنه إخراجهم بعلمه و قد جاء الإذن بمعنى العلم يقال: أذن به أي علم به، و من هذا الباب قوله تعالى: «و أذان من الله و رسوله»: التوبة: 3: «فقل ءاذنتكم على سواء»: الأنبياء: 190، و قوله: «و أذن في الناس بالحج»: الحج: 27 إلى غيرها من الآيات.

و أما قوله تعالى: «و يهديهم إلى صراط مستقيم، فقد أعيد فيه لفظ الهداية لحيلولة قوله: «و يخرجهم»، بين قوله «يهدي به الله»، و بين هذه الجملة، و لأن الصراط المستقيم كما تقدم بيانه في سورة الفاتحة طريق مهيمن على الطرق كلها فالهداية إليه أيضا هداية مهيمنة على سائر أقسام الهداية التي تتعلق بالسبل الجزئية.

و لا ينافي تنكير قوله: «صراط مستقيم» كون المراد به هو الصراط المستقيم الوحيد الذي نسبه الله تعالى في كلامه إلى نفسه - إلا في سورة الفاتحة - لأن قرينة المقام تدل على ذلك، و إنما التنكير لتعظيم شأنه و تفخيم أمره.

قوله تعالى: «لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم» هؤلاء إحدى الطوائف الثلاثة التي تقدم نقل أقوالهم في سورة آل عمران، و هي القائلة باتحاد الله سبحانه بالمسيح فهو إله و بشر بعينه، و يمكن تطبيق الجملة أعني قولهم: «إن الله هو المسيح بن مريم» على القول بالبنوة و على القول بثالث ثلاثة أيضا غير أن ظاهر الجملة هو حصول العينية بالإتحاد.

قوله تعالى: «قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم» و أمه و من في الأرض جميعا» الآية هذا برهان على إبطال قولهم: من جهة مناقضة بعضه بعضا لأنهم لما وضعوا أن المسيح مع كونه إلها بشر كما وصفوه بأنه ابن مريم جوزوا له ما يجوز على أي بشر مفروض من سكان هذه الأرض، و هم جميعا كسائر أجزاء السماوات و الأرض و ما بينهما مملوكون لله تعالى مسخرون تحت ملكه و سلطانه، فله تعالى أن يتصرف فيهم بما أراد، و أن يحكم لهم أو عليهم كيفما شاء، فله أن يهلك المسيح كما له أن يهلك أمه و من في الأرض على حد سواء من غير مزية للمسيح على غيره، و كيف يجوز الهلاك على الله سبحانه؟! فوضعهم أن المسيح بشر يبطل وضعهم أنه هو الله سبحانه للمناقضة.

فقوله: «فمن يملك من الله شيئا» كناية عن نفي المانع مطلقا فملك شيء من الله هو السلطنة عليه تعالى في بعض ما يرجع إليه، و لازمها انقطاع سلطنته عن ذلك الشيء، و هو أن يكون سبب من الأسباب يستقل في التأثير في شيء بحيث يمانع تأثيره تعالى أو يغلب عليه فيه، و لا ملك إلا لله وحده لا شريك له إلا ما ملك غيره تمليكا لا يبطل ملكه و سلطانه.

و قوله: «إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم و أمه و من في الأرض جميعا» إنما قيد المسيح بقوله: «ابن مريم» للدلالة على كونه بشرا تاما واقعا تحت التأثير الربوبي كسائر البشر، و لذلك بعينه عطف عليه «أمه» لكونها مسانخة له من دون ريب، و عطف عليه «من في الأرض جميعا» لكون الحكم في الجميع على حد سواء.

و من هنا يظهر أن في هذا التقييد و العطف تلويحا إلى برهان الإمكان، و محصله أن المسيح يماثل غيره من أفراد البشر كأمه و سائر من في الأرض فيجوز عليه ما يجوز عليهم لأن حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز واحد، و يجوز على غيره أن يقع تحت حكم الهلاك فيجوز عليه ذلك و لا مانع هناك يمنع، و لو كان هو الله سبحانه لما جاز عليه ذلك.

و قوله: «و لله ملك السموات و الأرض و ما بينهما» في مقام التعليل للجملة السابقة، و التصريح بقوله: «و ما بينهما» مع أن القرآن كثيرا ما يعبر عن عالم الخلقة بالسماوات و الأرض فقط إنما هو ليكون الكلام أقرب من التصريح، و أسلم من ورود التوهمات و الشبهات فليس لمتوهم أن يتوهم أنه إنما ذكر السماوات و الأرض و لم يذكر ما بينهما، و مورد الكلام مما بينهما.

و تقديم الخبر أعني قوله: «و لله» للدلالة على الحصر، و بذلك يتم البيان، و المعنى: كيف يمكن أن يمنع مانع من إرادته تعالى إهلاك المسيح و غيره و وقوع ما أراده من ذلك، و الملك و السلطنة المطلقة في السماوات و الأرض و ما بينهما لله تعالى لا ملك لأحد سواه؟ فلا مانع من نفوذ حكمه و مضي أمره.

و قوله: «يخلق ما يشاء و الله على كل شيء قدير» في مقام التعليل للجملة السابقة عليه أعني قوله: «و لله ملك السموات و الأرض و ما بينهما» فإن الملك - بضم الميم - و هو نوع سلطنة و مالكية على سلطنة الناس و ما يملكونه إنما يتقوم بشمول القدرة و نفوذ المشيئة، و لله سبحانه ذلك في جميع السماوات و الأرض و ما بينهما، فله القدرة على كل شيء و هو يخلق ما يشاء من الأشياء فله الملك المطلق في السماوات و الأرض و ما بينهما فخلقه ما يشاء و قدرته على كل شيء هو البرهان على ملكه كما أن ملكه هو البرهان على أن له أن يريد إهلاك الجميع ثم يمضي إرادته لو أراد، و هو البرهان على أنه لا يشاركه أحد منهم في ألوهيته.

و أما البرهان على نفوذ مشيته و شمول قدرته فهو أنه الله عز اسمه، و لعله لذلك كرر لفظ الجلالة في الآية مرات فقد آل فرض الألوهية في شيء إلى أنه لا شريك له في ألوهيته.

قوله تعالى: «و قالت اليهود و النصارى نحن أبناء الله و أحباؤه» لا ريب أنهم لم يكونوا يدعون النبوة الحقيقية كما يدعيه معظم النصارى للمسيح (عليه السلام) فلا اليهود كانت تدعي ذلك حقيقة و لا النصارى، و إنما كانوا يطلقونها على أنفسهم إطلاقا تشريفيا بنوع من التجوز، و قد ورد في كتبهم المقدسة هذا الإطلاق كثيرا كما في حق آدم و يعقوب و داود و إقرام و عيسى و أطلق أيضا على صلحاء المؤمنين.

و كيف كان فإنما أريد بالأبناء أنهم من الله سبحانه بمنزلة الأبناء من الأب، فهم بمنزلة أبناء الملك بالنسبة إليه المنحازين عن الرعية المخصوصين بخصيصة القرب المقتضية أن لا يعامل معهم معاملة الرعية كأنهم مستثنون عن إجراء القوانين و الأحكام المجراة بين الناس لأن تعلقهم بعرش الملك لا يلائم مجازاتهم بما يجازي به غيرهم و لا إيقافهم موقفا توقف فيه سائر الرعية، فلا يستهان بهم كما يستهان بغيرهم فكل ذلك لما تتعقبه علقة النسب من علقة الحب و الكرامة.

فالمراد بهذه النبوة الاختصاص و التقرب، و يكون عطف قوله: «و أحباؤه» على قوله: «أبناء الله» كعطف التفسير و ليس به حقيقة، و غرضهم من دعوى هذا الاختصاص و المحبوبية إثبات لازمه و هو أنه لا سبيل إلى تعذيبهم و عقوبتهم فلن يصيروا إلا إلى النعمة و الكرامة لأن تعذيبه تعالى إياهم يناقض ما خصهم به من المزية، و حباهم به من الكرامة.

و الدليل عليه ما ورد في الرد عليهم من قوله تعالى: «يغفر لمن يشاء و يعذب من يشاء»، إذ لو لا أنهم كانوا يريدون بقولهم: «نحن أبناء الله و أحباؤه» أنه لا سبيل إلى عذابهم و إن لم يستجيبوا الدعوة الحقة لم يكن وجه لذكر هذه الجملة: «يغفر»، ردا عليهم و لا لقوله: «بل أنتم بشر ممن خلق» موقع حسن مناسب فمعنى قولهم: «نحن أبناء الله و أحباؤه» أنا خاصة الله و محبوبوه لا سبيل له تعالى إلى تعذيبنا و إن فعلنا، ما فعلنا و تركنا ما تركنا لأن انتفاء السبيل و وقوع الأمن التام من كل مكروه و محذور هو لازم معنى الاختصاص و الحب.

قوله تعالى: «قل فلم يعذبكم بذنوبكم» أمر نبيه بالاحتجاج عليهم و رد دعواهم بالحجة، و تلك حجتان: إحداهما: النقض عليهم بالتعذيب الواقع عليهم، و ثانيتهما: معارضتهم بحجة تنتج نقيض دعواهم.

و محصل الحجة الأولى التي يشتمل عليها قوله: «فلم يعذبكم بذنوبكم» أنه لو صحت دعواكم أنكم أبناء الله و أحباؤه مأمونون من التعذيب الإلهي لا سبيل إليه فيكم لكنتم مأمونين من كل عذاب أخروي أو دنيوي فما هذا العذاب الواقع عليكم المستمر فيكم بسبب ذنوبكم؟ فأما اليهود فلم تزل تذنب ذنوبا كقتلهم أنبياءهم و الصالحين من شعبهم و تفجر بنقض المواثيق الإلهية المأخوذة منهم، و تحريف الكلم عن مواضعه و كتمان آيات الله و الكفر بها و كل طغيان و اعتداء، و تذوق وبال أمرها نكالا عليها من مسخ بعضهم و ضرب الذلة و المسكنة على آخرين، و تسلط الظالمين عليهم يقتلون أنفسهم و يهتكون أعراضهم و يخربون بلادهم، و ما لهم من العيش إلا عيشة الحرض الذي لا هو حي فيرجى و لا ميت فينسى.

و أما النصارى فلا فساد المعاصي و الذنوب الواقعة في أممهم يقل مما كان من اليهود، و لا أنواع العذاب النازل عليهم قبل البعثة و في زمانها و بعدها حتى اليوم، فهو ذا التاريخ يحفظ عليهم جميع ذلك أو أكثرها، و القرآن يقص من ذلك شيئا كثيرا كما في سورة البقرة و آل عمران و النساء و المائدة و الأعراف و غيرها.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي