الميزان في تفسير القرآن

سورة الفتح

8 - 10

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)

بيان

فصل ثان من آيات السورة يعرف سبحانه فيه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) تعريف إكبار و إعظام بأنه أرسله شاهدا و مبشرا و نذيرا طاعته طاعة الله و بيعته بيعة الله، و قد كان الفصل الأول امتنانا منه تعالى على نبيه بالفتح و المغفرة و إتمام النعمة و الهداية و النصر و على المؤمنين بإنزال السكينة في قلوبهم و إدخال الجنة و وعيد المشركين و المنافقين بالغضب و اللعن و النار.

قوله تعالى: «إنا أرسلناك شاهدا و مبشرا و نذيرا» المراد بشهادته (صلى الله عليه وآله وسلم) شهادته على الأعمال من إيمان و كفر و عمل صالح أو طالح، و قد تكرر في كلامه تعالى ذكر شهادته (صلى الله عليه وآله وسلم)، و تقدم استيفاء الكلام في معنى هذه الشهادة، و هي شهادة حمل في الدنيا، و أداء في الآخرة.

و كونه مبشرا تبشيره لمن آمن و اتقى بالقرب من الله و جزيل ثوابه، و كونه نذيرا إنذاره و تخويفه لمن كفر و تولى بأليم عذابه.

قوله تعالى: «لتؤمنوا بالله و رسوله و تعزروه و توقروه و تسبحوه بكرة و أصيلا» القراءة المشهورة بتاء الخطاب في الأفعال الأربعة، و قرأ ابن كثير و أبو عمرو بياء الغيبة في الجميع و قراءتهما أرجح بالنظر إلى السياق.

و كيف كان فاللام في «لتؤمنوا» للتعليل أي أرسلناك كذا و كذا لتؤمنوا بالله و رسوله.

و التعزير - على ما قيل - النصر و التوقير التعظيم كما قال تعالى: «ما لكم لا ترجون لله وقارا»: نوح: 13، و الظاهر أن الضمائر في «تعزروه و توقروه و تسبحوه» جميعا لله تعالى و المعنى: إنا أرسلناك كذا و كذا ليؤمنوا بالله و رسوله و ينصروه تعالى بأيديهم و ألسنتهم و يعظموه و يسبحوه - و هو الصلاة - بكرة و أصيلا أي غداة و عشيا.

و قيل: الضميران في «تعزروه و توقروه» للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، و ضمير «تسبحوه» لله تعالى و يوهنه لزوم اختلاف الضمائر المتسقة.

قوله تعالى: «إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم» إلى آخر الآية.

البيعة نوع من الميثاق ببذل الطاعة قال في المفردات: و بايع السلطان إذا تضمن بذل الطاعة له بما رضخ له انتهى، و الكلمة مأخوذة من البيع بمعناه المعروف فقد كان من دأبهم أنهم إذا أرادوا إنجاز البيع أعطى البائع يده للمشتري فكأنهم كانوا يمثلون بذلك نقل الملك بنقل التصرفات التي يتحقق معظمها باليد إلى المشتري بالتصفيق، و بذلك سمي التصفيق عند بذل الطاعة بيعة و مبايعة، و حقيقة معناه إعطاء المبايع يده للسلطان مثلا ليعمل به ما يشاء.

فقوله: «إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله» تنزيل بيعته (صلى الله عليه وآله وسلم) منزلة بيعته تعالى بدعوى أنها هي فما يواجهونه (صلى الله عليه وآله وسلم) به من بذل الطاعة لا يواجهون به إلا الله سبحانه لأن طاعته طاعة الله ثم قرره زيادة تقرير و تأكيد بقوله: «يد الله فوق أيديهم» حيث جعل يده (صلى الله عليه وآله وسلم) يد الله كما جعل رميه (صلى الله عليه وآله وسلم) رمى نفسه في قوله: «و ما رميت إذ رميت و لكن الله رمى»: الأنفال: 17.

و في نسبة ما له (صلى الله عليه وآله وسلم) من الشأن إلى نفسه تعالى آيات كثيرة كقوله تعالى: «من يطع الرسول فقد أطاع الله»: النساء: 80، و قوله: «فإنهم لا يكذبونك و لكن الظالمين بآيات الله يجحدون»: الأنعام: 33، و قوله: «ليس لك من الأمر شيء»: آل عمران: 128.

و قوله: «فمن نكث فإنما ينكث على نفسه» النكث نقض العهد و البيعة، و الجملة تفريع على قوله: «إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله» و المعنى: فإذا كان بيعتك بيعة الله فالناكث الناقض لها ناقض لبيعة الله و لا يتضرر بذلك إلا نفسه كما لا ينتفع بالإيفاء إلا نفسه لأن الله غني عن العالمين.

و قوله: «و من أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما» وعد جميل على حفظ العهد و الإيفاء به.

و الآية لا تخلو من إيماء إلى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان عند البيعة يضع يده على أيديهم فكانت يده على أيديهم لا بالعكس.

و للمفسرين في قوله: «يد الله فوق أيديهم» أقوال أخر.

فقيل: إنه من الاستعارة التخييلية و الاستعارة بالكناية جيء به لتأكيد ما تقدمه و تقرير أن مبايعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كمبايعة الله من غير تفاوت فخيل أنه سبحانه كأحد المبايعين من الناس فأثبتت له يد تقع فوق أيدي المبايعين للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مكان يد الرسول و فيه أنه غير مناسب لساحة قدسه تعالى أن يخيل على وجه هو منزه عنه.

و قيل: المراد باليد القوة و النصرة أي قوة الله و نصرته فوق قوتهم و نصرتهم أي ثق بنصرة الله لا بنصرتهم.

و فيه أن المقام مقام إعظام بيعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أن مبايعتهم له مبايعة لله، و الوثوق بالله و نصرته و إن كان حسنا في كل حال لكنه أجنبي عن المقام.

و قيل: المراد باليد العطية و النعمة أي نعمة الله عليهم بالثواب أو بتوفيقهم لمبايعتك فوق نعمتهم عليك بالمبايعة، و قيل: نعمته عليهم بالهداية أعظم من نعمتهم عليك بالطاعة إلى غير ذلك من الوجوه التي أوردوها و لا طائل تحتها.

بحث روائي

في الدر المنثور، أخرج ابن عدي و ابن مردويه و الخطيب و ابن عساكر في تاريخه عن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الآية «و تعزروه» قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه: ما ذاك؟ قالوا: الله و رسوله أعلم. قال: لتنصروه.

و في العيون، بإسناده عن عبد السلام بن صالح الهروي قال: قلت لعلي بن موسى الرضا (عليهما السلام): يا ابن رسول الله ما تقول في الحديث الذي يرويه أهل الحديث: أن المؤمنين يزورون ربهم من منازلهم في الجنة؟ فقال: يا أبا الصلت إن الله تعالى فضل نبيه محمدا على جميع خلقه من النبيين و الملائكة، و جعل طاعته طاعته، و مبايعته مبايعته، و زيارته في الدنيا و الآخرة زيارته، فقال عز و جل: «من يطع الرسول فقد أطاع الله» و قال: «إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله - يد الله فوق أيديهم» و قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): من زارني في حياتي أو بعد موتي فقد زار الله. و درجته في الجنة أعلى الدرجات، و من زاره في درجته في الجنة من منزله فقد زار الله تبارك و تعالى.

و في إرشاد المفيد، في حديث بيعة الرضا (عليه السلام) قال: و جلس المأمون و وضع للرضا (عليه السلام) وسادتين عظيمتين حتى لحق بمجلسه و فرشه، و أجلس الرضا (عليه السلام) في الحضرة و عليه عمامة و سيف. ثم أمر ابنه العباس بن المأمون أن يبايع له في أول الناس فرفع الرضا (عليه السلام) يده فتلقى بها وجهه و ببطنها وجوههم فقال له المأمون: ابسط يدك للبيعة فقال الرضا (عليه السلام): إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هكذا كان يبايع فبايعه الناس و يده فوق أيديهم.

العودة إلى القائمة

التالي