الميزان في تفسير القرآن

سورة النساء

23 - 28

تابع
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ الَّلاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ الَّلاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ الَّلاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24) وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا (28)

ثم قال بعد كلام له في تنقيح معنى الأحاديث، و رفعه التدافع الواقع بينها على زعمه: و العمدة عند أهل السنة في تحريمها وجوه: أولها: ما علمت من منافاتها لظاهر القرآن في أحكام النكاح و الطلاق و العدة إن لم نقل لنصوصه، و ثانيها: الأحاديث المصرحة بتحريمها تحريما مؤبدا إلى يوم القيامة - إلى أن قال -: و ثالثها: نهي عمر عنها و إشارته بتحريمها على المنبر، و إقرار الصحابة له على ذلك و قد علم أنهم ما كانوا يقرون على منكر، و أنهم كانوا يرجعونه إذا أخطأ.

ثم اختار أن تحريمه لها لم يكن عن اجتهاد منه، و إنما كان استنادا إلى التحريم الثابت بنهي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و إنما يسند إليه التحريم من جهة أنه مبين للحرمة أو منفذ لها كما يقال: حرم الشافعي النبيذ و أحله أبو حنيفة.

أقول: أما الوجه الأول و الثاني فقد عرفت آنفا و في البيان المتقدم حقيقة القول فيهما بما لا مزيد عليه، و أما الوجه الثالث فتحريم عمر لها سواء كان ذلك باجتهاد منه أو باستناده إلى تحريم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يدعيه هذا القائل، و سواء كان سكوت الصحابة عنه هيبة له و خوفا من تهديده، أو إقرارا له في تحريمه كما ذكره، أو لعدم وقوعه موقع قبول الناس منهم كما يدل عليه الروايات عن علي و جابر و ابن مسعود و ابن عباس فتحريمه و حلفه على رجم مستحلها و فاعلها لا يؤثر في دلالة الآية عليها، و عدم انثلام هذه الحلية بكتاب أو سنة فدلالة الآيات و أحكامها مما لا غبار عليه.

و قد أغرب بعض الكتاب حيث ذكر أن المتعة سنة جاهلية لم تدخل في الإسلام قط حتى يحتاج إلى إخراجها منه و في نسخها إلى كتاب أو سنة و ما كان يعرفها المسلمون و لا وقعت إلا في كتب الشيعة.

أقول: و هذا الكلام المبني على الصفح عما يدل عليه الكتاب و الحديث و الإجماع و التاريخ يتم به تحول الأقوال في هذه المسألة تحولها العجيب فقد كانت سنة قائمة في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم نهي عنها في عهد عمر و نفذ النهي عند عامة الناس، و وجه النهي بانتساخ آية الاستمتاع بآيات أخرى أو بنهي النبي عنها و خالف في ذلك عدة من الأصحاب و جم غفير ممن تبعهم من فقهاء الحجاز و اليمن و غيرهم حتى مثل ابن جريح من أئمة الحديث «و كان يبالغ في التمتع حتى تمتع بسبعين امرأة» و مثل مالك أحد أئمة الفقه الأربعة، هذا، ثم أعرض المتأخرون من أهل التفسير عن دلالة آية الاستمتاع على المتعة، و راموا تفسيرها بالنكاح الدائم، و ذكروا أن المتعة كانت سنة من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم نسخت بالحديث، ثم راموا في هذه الأواخر أنها كانت من أنواع الزنا في الجاهلية رخص فيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رخصة بعد رخصة ثم نهى عنها نهيا مؤبدا إلى يوم القيامة، ثم ذكر هذا القائل الأخير: أنها زنا جاهلي محض لا خبر عنها في الإسلام قط إلا ما وقع في كتب الشيعة، و الله أعلم بما يصير إليه حال المسألة في مستقبل الزمان.

بحث علمي

رابطة النسب - و هي الرابطة التي تربط الفرد من الإنسان بالفرد الآخر من جهة الولادة و جامع الرحم - هي في الأصل رابطة طبيعية تكوينية تكون الشعوب و القبائل، و تحمل الخصال المنبعثة عن الدم فتسريها حسب تسرية الدم، و هي المبدأ للآداب و الرسوم و السنن القومية بما تختلط و تمتزج بسائر الأسباب و العلل المؤثرة.

و للمجتمعات الإنسانية المترقية و غير المترقية نوع اعتناء بها في السنن و القوانين الاجتماعية في الجملة: في نكاح و إرث و غير ذلك، و هم مع ذلك لا يزالون يتصرفون في هذه الرابطة النسبية توسعة و تضييقا بحسب المصالح المنبعثة عن خصوصيات مجتمعهم كما سمعت في المباحث السابقة أن غالب الأمم السالفة كانوا لا يرون للمرأة قرابة رسما و كانوا يرون قرابة الدعي و بنوته، و كما أن الإسلام ينفي القرابة بين الكافر المحارب و المسلم، و يلحق الولد للفراش و غير ذلك.

و لما اعتبر الإسلام للنساء القرابة بما أعطاهن من الشركة التامة في الأموال، و الحرية التامة في الإرادة و العمل على ما سمعت في المباحث السابقة، و صار بذلك الابن و البنت في درجة واحدة من القرابة و الرحم الرسمي، و كذلك الأب و الأم، و الأخ و الأخت، و الجد و الجدة، و العم و العمة، و الخال و الخالة، صار عمود النسب الرسمي متنزلا من ناحية البنات كما كان يتنزل من ناحية البنين، فصار ابن البنت ابنا للإنسان كبنوة ابن الابن و هكذا ما نزل، و كذا صار بنت الابن و بنت البنت بنتين للإنسان على حد سواء، و على ذلك جرت الأحكام في المناكح و المواريث، و قد عرفت فيما تقدم أن آية التحريم «حرمت عليكم أمهاتكم و بناتكم» الآية دالة على ذلك.

و قد قصر السلف من باحثينا في هذه المسألة و أشباهها و هي مسألة اجتماعية و حقوقية فحسبوها مسألة لغوية يستراح فيها إلى قضاء اللغة، فاشتد النزاع بينهم فيما وضع له لفظ الابن مثلا، فمن معمم و من مخصص، و كل ذلك من الخطإ.

و قد ذكر بعضهم: أن الذي تعرفه اللغة من البنوة ما يجري من ناحية الابن، و أما ابن البنت و كل ما يجري من ناحيتها فللحوق هؤلاء بآبائهم لا بجدهم الأمي لا يعدهم العرب أبناء للإنسان، و أما قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للحسنين: ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا و غير ذلك فهذا الإطلاق إطلاق تشريفي، و أنشد في ذلك قول القائل: بنونا بنو أبنائنا و بناتنا.

بنوهن أبناء الرجال الأباعد.

و نظيره قول الآخر: و إنما أمهات الناس أوعية.

مستودعات و للأنساب آباء.

أقول: و قد اختلط عليه طريق البحث فحسبه بحثا لغويا زعم فيه أن العرب لو وضعت لفظ الابن لما يشمل ابن البنت تغيرت بذلك نتيجة البحث، و هو غفلة عن أن الآثار و الأحكام المترتبة في المجتمعات المختلفة البشرية على الأبوة و البنوة و نحوهما لا تتبع اللغات، و إنما تتبع نوع بنية المجتمع و السنن الدائرة فيها، و ربما تغيرت هذه الأحكام و الآثار بتغيير السنة الاجتماعية في المجتمع مع بقاء اللغة على حالها، و هذا يكشف عن كون البحث اجتماعيا أو عائدا إليه لا لفظيا لغويا.

و أما ما أنشد من الشعر فليس يسوى الشعر في سوق الحقائق شيئا - و ليس إلا زخرفة خيالية و تزويقا وهميا - حتى يستدل بكل ما تقوله شاعر لاغ و لا سيما فيما يداخله القرآن الذي هو قول فصل و ليس بالهزل.

و أما مسألة لحوق الأبناء بآبائهم دون الأجداد من جانب الأمهات فهي على أنها ليست مسألة لفظية لغوية ليست من فروع النسب حتى يستلزم لحوق الابن و البنت بالأب انقطاع نسبهما من جهة الأم، بل من فروع قيمومة الرجل على البيت من حيث الإنفاق، و تربية الأولاد و نحوها.

و بالجملة فالأم تنقل رابطة النسب إلى أولادها من ذكور أو إناث كما ينقلها الأب، و من آثاره البارزة في الإسلام الميراث و حرمة النكاح، نعم هناك أحكام و مسائل أخر لها ملاكات خاصة كلحوق الولد و النفقة و مسألة سهم أولي القربى من السادات و كل تتبع ملاكها الخاص بها.

بحث علمي آخر

النكاح و الازدواج من السنن الاجتماعية التي لم تزل دائرة في المجتمعات الإنسانية أي مجتمع كان على ما بيدنا من تاريخ هذا النوع إلى هذا اليوم، و هو في نفسه دليل على كونه سنة فطرية.

على أن من أقوى الدليل على ذلك كون الذكر و الأنثى مجهزين بحسب البنية الجسمانية بوسائل التناسل و التوالد كما ذكرناه مرارا، و الطائفتان الذكر و الأنثى في ابتغاء ذلك شرع سواء و إن زيدت الأنثى بجهاز الإرضاع و العواطف الفطرية الملائمة لتربية الأولاد.

ثم إن هناك غرائز إنسانية تنعطف إلى محبة الأولاد، و تقبل قضاء الطبيعة بكون الإنسان باقيا ببقاء نسله، و تذعن بكون المرأة سكنا للرجل و بالعكس، و تحترم أصل الوراثة بعد احترامها لأصل الملك و الاختصاص، و تحترم لزوم تأسيس البيت.

و المجتمعات التي تحترم هذه الأصول و الأحكام الفطرية في الجملة لا مناص لها من الإذعان بسنة النكاح على نحو الاختصاص بوجه بمعنى أن لا يختلط الرجال و النساء على نحو يبطل الأنساب و إن فرض التحفظ عن فساد الصحة العامة و قوة التوالد الذي يوجبه شيوع الزنا و الفحشاء.

هذه أصول معتبرة عند جميع الأمم الجارية على سنة النكاح في الجملة سواء خصوا الواحد بالواحد، أو جوزوا الكثير من النساء للواحد من الرجال أو بالعكس أو الكثير منهم للكثير منهن على اختلاف هذه السنن بين الأمم فإنهم مع ذلك يعتبرون النكاح بخاصته التي هي نوع ملازمة و مصاحبة بين الزوجين.

فالفحشاء و السفاح الذي يقطع النسل و يفسد الأنساب أول ما تبغضه الفطرة الإنسانية القاضية بالنكاح، و لا تزال ترى لهذه المباغضة آثارا بين الأمم المختلفة و المجتمعات المتنوعة حتى الأمم التي تعيش على الحرية التامة في الرجال و النساء في المواصلات و المخالطات الشهوية فإنهم متوحشون من هذه الخلاعات المسترسلة، و تراهم يعيشون بقوانين تحفظ لهم أحكام الأنساب بوجه.

و الإنسان مع إذعانه بسنة النكاح لا يتقيد فيه بحسب الطبع، و لا يحرم على نفسه ذا قرابة أو أجنبيا، و لا يجتنب الذكر من الإنسان أما و لا أختا و لا بنتا و لا غيرهن، و لا الأنثى منه أبا و لا أخا و لا ابنا بحسب الداعية الشهوية فالتاريخ و النقل يثبت نكاح الأمهات و الأخوات و البنات و غيرهن في الأمم العظيمة الراقية و المنحطة، و الأخبار تحقق الزنا الفاشي في الملل المتمدنة اليوم بين الإخوة و الأخوات، و الآباء و البنات و غيرهن فطاغية الشهوة لا يقوم لها شيء، و ما كان بين هذه الأمم من اجتناب نكاح الأمهات و الأخوات و البنات و ما يلحق بهن فإنما هو سنة موروثة ربما انتهت إلى بعض الآداب و الرسوم القومية.

و إنك إذا قايست القوانين المشرعة في الإسلام لتنظيم أمر الازدواج بسائر القوانين و السنن الدائرة في الدنيا و تأملت فيها منصفا وجدتها أدق و أضمن لجميع شئون الاحتياط في حفظ الأنساب و سائر المصالح الإنسانية الفطرية، و جميع ما شرعه من الأحكام في أمر النكاح و ما يلحق به يرجع إلى حفظ الأنساب و سد سبيل الزنا.

فالذي روعي فيه مصلحة حفظ الأنساب من غير واسطة هو تحريم نكاح المحصنات من النساء، و بذلك يتم إلغاء ازدواج المرأة بأكثر من زوج واحد في زمان واحد فإن فيه فساد الأنساب كما أنه هو الملاك في وضع عدة الطلاق بتربص المرأة بنفسها ثلاثة قروء تحرزا من اختلاط المياه.

و أما سائر أصناف النساء المحرم نكاحها و هي أربعة عشر صنفا المعدودة في آيات التحريم فإن الملاك في تحريم نكاحهن سد باب الزنا فإن الإنسان - و هو في المجتمع المنزلي - أكثر ما يعاشر و يختلط و يسترسل و يديم في المصاحبة إنما هو مع هذه الأصناف الأربعة عشر، و دوام المصاحبة و مساس الاسترسال يوجب كمال توجه النفس و ركوز الفكر فيهن بما يهدي إلى تنبه الميول و العواطف الحيوانية و هيجان دواعي الشهوة، و بعثها الإنسان إلى ما يستلذه طبعه، و تتوق له نفسه، و من يحم حول الحمى أوشك أن يقع فيه.

فكان من الواجب أن لا يقتصر على مجرد تحريم الزنا في هذه الموارد فإن دوام المصاحبة، و تكرر هجوم الوساوس النفسانية و ورود الهم بعد الهم لا يدع للإنسان مجال التحفظ على نهي واحد من الزنا.

بل كان يجب أن تحرم هؤلاء تحريما مؤبدا، و تقع عليه التربية الدينية حتى يستقر في القلوب اليأس التام من بلوغهن و النيل منهن، و يميت ذلك تعلق الشهوة بهن و يقطع منبتها و يقلعها من أصلها، و هذا هو الذي نرى من كثير من المسلمين حتى في المتوغلين في الفحشاء المسترسلين في المنكرات منهم أنهم لا يخطر ببالهم الفحشاء بالمحارم، و هتك ستر الأمهات و البنات، و لو لا ذلك لم يكد يخلو بيت من البيوت من فاحشة الزنا و نحوه.

و هذا كما أن الإسلام سد باب الزنا في غير المحارم بإيجاب الحجاب، و المنع عن اختلاط الرجال بالنساء و النساء بالرجال، و لو لا ذلك لم ينجح النهي عن الزنا في الحجز بين الإنسان و بين هذا الفعال الشنيع فهناك أحد أمرين: إما أن يمنع الاختلاط كما في طائفة، و إما أن يستقر اليأس من النيل بالمرة بحرمة مؤبدة يتربى عليها الإنسان حتى يستوي على هذه العقيدة، لا يبصر مثاله فيما يبصر، و لا يسمعه فيما يسمع فلا يخطر بباله أبدا.

و تصديق ذلك ما نجده من حال الأمم الغربية فإن هؤلاء معاشر النصارى كانت ترى حرمة الزنا، و تعد تعدد الزوجات في تلو الزنا أباحت اختلاط النساء بالرجال فلم تلبث حتى فشا الفحشاء فيها فشوا لا يكاد يوجد في الألف منهم واحد يسلم من هذا الداء، و لا في ألف من رجالهم واحد يستيقن بكون من ينتسب إليه من أولاده من صلبه، ثم لم يمكث هذا الداء حتى سرى إلى الرجال مع محارمهم من الأخوات و البنات و الأمهات، ثم إلى ما بين الرجال و الغلمان ثم الشبان أنفسهم ثم... و ثم... آل الأمر إلى أن صارت هذه الطائفة التي ما خلقها الله سبحانه إلا سكنا للبشر، و نعمة يقيم بها صلب الإنسانية، و يطيب بها عيشة النوع مصيدة يصطاد بها في كل شأن سياسي و اقتصادي و اجتماعي و وسيلة للنيل إلى كل غرض يفسد حياة المجتمع و الفرد، و عادت الحياة الإنسانية أمنية تخيلية، و لعبا و لهوا بتمام معنى الكلمة، و قد اتسع الخرق على الراتق.

هذا هو الذي بنى عليه الإسلام مسألة تحريم المحرمات من المبهمات و غيرها في باب النكاح إلا المحصنات من النساء على ما عرفت.

و تأثير هذا الحكم في المنع عن فشو الزنا و تسربه في المجتمع المنزلي كتأثير حكم الحجاب في المنع عن ظهور الزنا و سريان الفساد في المجتمع المدني على ما عرفت.

و قد تقدم أن قوله تعالى: و ربائبكم اللاتي في حجوركم الآية، لا تخلو عن إشارة إلى هذه الحكمة، و يمكن أن تكون الإشارة إليه بقوله تعالى في آخر آيات التحريم: يريد الله أن يخفف عنكم و خلق الإنسان ضعيفا: «النساء: 28» فإن تحريم هذه الأصناف الأربعة عشر من الله سبحانه تحريما باتا يرفع عن كاهل الإنسان ثقل الصبر على هواهن و الميل إليهن و النيل منهن على إمكان من الأمر، و قد خلق الإنسان ضعيفا في قبال الميول النفسانية، و الدواعي الشهوانية، و قد قال تعالى: إن كيدكن عظيم: «يوسف: 28» فإن من أمر الصبر أن يعيش الإنسان مع واحدة أو أكثر من النساء الأجنبيات، و يصاحبهن في الخلوة و الجلوة، و يتصل بهن ليلا و نهارا و يمتلىء سمعه و بصره من لطيف إشاراتهن و حلو حركاتهن حينا بعد حين ثم يصبر على ما يوسوسه نفسه في أمرهن و لا يجيبها في ما تتوق إليه، و الحاجة إحدى الحاجتين الغذاء و النكاح، و ما سواهما فضل يعود إليهما، و كأنه هو الذي أشار إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: «من تزوج أحرز نصف دينه فليتق الله في النصف الآخر».

العودة إلى القائمة

التالي