الميزان في تفسير القرآن |
سورة النساء |
59 - 70 |
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا (64) فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (68) وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70) |
||
بيان الآيات - كما ترى - غير عادمة الارتباط بما تقدمها من الآيات فإن آيات السورة آخذة من قوله تعالى: و اعبدوا الله و لا تشركوا به شيئا، كأنها مسوقة لترغيب الناس في الإنفاق في سبيل الله، و إقامة صلب طبقات المجتمع و أرباب الحوائج من المؤمنين و ذم الذين يصدون الناس عن القيام بهذا المشروع الواجب، ثم الحث على إطاعة الله و إطاعة الرسول و أولي الأمر، و قطع منابت الاختلاف و التجنب عن التشاجر و التنازع، و إرجاعه إلى الله و رسوله لو اتفق، و التحرز عن النفاق، و لزوم التسليم لأوامر الله و رسوله و هكذا إلى أن تنتهي إلى الآيات النادبة إلى الجهاد المبينة لحكمه أو الآمرة بالنفر في سبيل الله، فجميع هذه الآيات مجهزة للمؤمنين للجهاد في سبيل الله، و منظمة لنظام أمورهم في داخلهم، و ربما تخللها آية أو آيتان بمنزلة الاعتراض في الكلام لا يخل باتصال الكلام كما تقدم الإيماء إليه في قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة و أنتم سكارى: - الآية 43 من السورة. قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم» لما فرغ من الندب إلى عبادة الله وحده لا شريك له و بث الإحسان بين طبقات المؤمنين و ذم من يعيب هذا الطريق المحمود أو صد عنه صدودا عاد إلى أصل المقصود بلسان آخر يتفرع عليه فروع أخر، بها يستحكم أساس المجتمع الإسلامي و هو التحضيض و الترغيب في أخذهم بالائتلاف و الاتفاق، و رفع كل تنازع واقع بالرد إلى الله و رسوله.و لا ينبغي أن يرتاب في أن قوله: أطيعوا الله و أطيعوا الرسول، جملة سيقت تمهيدا و توطئة للأمر برد الأمر إلى الله و رسوله عند ظهور التنازع، و إن كان مضمون الجملة أساس جميع الشرائع و الأحكام الإلهية. فإن ذلك ظاهر تفريع قوله: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول، ثم العود بعد العود إلى هذا المعنى بقوله: أ لم تر إلى الذين يزعمون إلخ، و قوله: و ما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله إلخ، و قوله: فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم إلخ. و لا ينبغي أن يرتاب في أن الله سبحانه لا يريد بإطاعته إلا إطاعته في ما يوحيه إلينا من طريق رسوله من المعارف و الشرائع، و أما رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فله حيثيتان: إحداهما: حيثية التشريع بما يوحيه إليه ربه من غير كتاب، و هو ما يبينه للناس من تفاصيل ما يشتمل على إجماله الكتاب و ما يتعلق و يرتبط بها كما قال تعالى: و أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم: - النحل 44، و الثانية: ما يراه من صواب الرأي و هو الذي يرتبط بولايته الحكومة و القضاء قال تعالى: لتحكم بين الناس بما أراك الله: - النساء 105، و هذا هو الرأي الذي كان يحكم به على ظواهر قوانين القضاء بين الناس، و هو الذي كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يحكم به في عزائم الأمور، و كان الله سبحانه أمره في اتخاذ الرأي بالمشاورة فقال: «و شاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله -: آل عمران 159، فأشركهم به في المشاورة و وحده في العزم. إذا عرفت هذا علمت أن لإطاعة الرسول معنى و لإطاعة الله سبحانه معنى آخر و إن كان إطاعة الرسول إطاعة لله بالحقيقة لأن الله هو المشرع لوجوب إطاعته كما قال: «و ما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله» فعلى الناس أن يطيعوا الرسول فيما يبينه بالوحي، و فيما يراه من الرأي. و هذا المعنى و الله أعلم هو الموجب لتكرار الأمر بالطاعة في قوله: و أطيعوا الله و أطيعوا الرسول، لا ما ذكره المفسرون: أن التكرار للتأكيد فإن القصد لو كان متعلقا بالتأكيد كان ترك التكرار كما لو قيل: و أطيعوا الله و الرسول أدل عليه و أقرب منه فإنه كان يفيد أن إطاعة الرسول عين إطاعة الله سبحانه و أن الإطاعتين واحدة، و ما كل تكرار يفيد التأكيد. و أما أولوا الأمر فهم - كائنين من كانوا - لا نصيب لهم من الوحي، و إنما شأنهم الرأي الذي يستصوبونه فلهم افتراض الطاعة نظير ما للرسول في رأيهم و قولهم، و لذلك لما ذكر وجوب الرد و التسليم عند المشاجرة لم يذكرهم بل خص الله و الرسول فقال: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول إن كنتم تؤمنون بالله و اليوم الآخر، و ذلك أن المخاطبين بهذا الرد هم المؤمنون المخاطبون بقوله في صدر الآية: يا أيها الذين آمنوا، و التنازع تنازعهم بلا ريب، و لا يجوز أن يفرض تنازعهم مع أولي الأمر مع افتراض طاعتهم بل هذا التنازع هو ما يقع بين المؤمنين أنفسهم، و ليس في أمر الرأي بل من حيث حكم الله في القضية المتنازع فيها بقرينة الآيات التالية الذامة لمن يرجع إلى حكم الطاغوت دون حكم الله و رسوله، و هذا الحكم يجب الرجوع فيه إلى أحكام الدين المبينة المقررة في الكتاب و السنة، و الكتاب و السنة حجتان قاطعتان في الأمر لمن يسعه فهم الحكم منهما، و قول أولي الأمر في أن الكتاب و السنة يحكمان بكذا أيضا حجة قاطعة فإن الآية تقرر افتراض الطاعة من غير أي قيد أو شرط، و الجميع راجع بالآخرة إلى الكتاب و السنة. و من هنا يظهر أن ليس لأولي الأمر هؤلاء - كائنين من كانوا - أن يضعوا حكما جديدا، و لا أن ينسخوا حكما ثابتا في الكتاب و السنة، و إلا لم يكن لوجوب إرجاع موارد التنازع إلى الكتاب و السنة و الرد إلى الله و الرسول معنى على ما يدل عليه قوله: و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة إذا قضى الله و رسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم و من يعص الله و رسوله فقد ضل ضلالا مبينا: - الأحزاب 36، فقضاء الله هو التشريع و قضاء رسوله إما ذلك و إما الأعم، و إنما الذي لهم أن يروا رأيهم في موارد نفوذ الولاية، و أن يكشفوا عن حكم الله و رسوله في القضايا و الموضوعات العامة. و بالجملة لما لم يكن لأولي الأمر هؤلاء خيرة في الشرائع، و لا عندهم إلا ما لله و رسوله من الحكم أعني الكتاب و السنة لم يذكرهم الله سبحانه ثانيا عند ذكر الرد بقوله: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول، فلله تعالى إطاعة واحدة، و للرسول و أولي الأمر إطاعة واحدة، و لذلك قال: أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم. و لا ينبغي أن يرتاب في أن هذه الإطاعة المأمور بها في قوله: أطيعوا الله و أطيعوا الرسول، إطاعة مطلقة غير مشروطة بشرط، و لا مقيدة بقيد و هو الدليل على أن الرسول لا يأمر بشيء، و لا ينهى عن شيء يخالف حكم الله في الواقعة و إلا كان فرض طاعته تناقضا منه تعالى و تقدس و لا يتم ذلك إلا بعصمة فيه (صلى الله عليه وآله وسلم). و هذا الكلام بعينه جار في أولي الأمر غير أن وجود قوة العصمة في الرسول لما قامت عليه الحجج من جهة العقل و النقل في حد نفسه من غير جهة هذه الآية دون أولي الأمر ظاهرا أمكن أن يتوهم متوهم أن أولي الأمر هؤلاء لا يجب فيهم العصمة و لا يتوقف عليها الآية في استقامة معناها. بيان ذلك أن الذي تقرره الآية حكم مجعول لمصلحة الأمة يحفظ به مجتمع المسلمين من تسرب الخلاف و التشتت فيهم و شق عصاهم فلا يزيد على الولاية المعهودة بين الأمم و المجتمعات، تعطي للواحد من الإنسان افتراض الطاعة و نفوذ الكلمة، و هم يعلمون أنه ربما يعصي و ربما يغلط في حكمه، لكن إذا علم بمخالفته القانون في حكمه لا يطاع فيه، و ينبه فيما أخطأ، و فيما يحتمل خطؤه ينفذ حكمه و إن كان مخطئا في الواقع و لا يبالي بخطئه فإن مصلحة حفظ وحدة المجتمع و التحرز من تشتت الكلمة مصلحة يتدارك بها أمثال هذه الأغلاط و الاشتباهات. و هذا حال أولي الأمر الواقع في الآية في افتراض طاعتهم فرض الله طاعتهم، على المؤمنين فإن أمروا بما يخالف الكتاب و السنة فلا يجوز ذلك منهم و لا ينفذ حكمهم لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» و قد روى هذا المعنى الفريقان و به يقيد إطلاق الآية، و أما الخطأ و الغلط فإن علم به رد إلى الحق و هو حكم الكتاب و السنة، و إن احتمل خطؤه نفذ فيه حكمه كما فيما علم عدم خطإه، و لا بأس بوجوب القبول و افتراض الطاعة فيما يخالف الواقع هذا النوع لأن مصلحة حفظ الوحدة في الأمة و بقاء السؤدد و الأبهة تتدارك بها هذه المخالفة، و يعود إلى مثل ما تقرر في أصول الفقه من حجية الطرق الظاهرية مع بقاء الأحكام الواقعية على حالها، و عند مخالفة مؤداها للواقع تتدارك المفسدة اللازمة بمصلحة الطريق. و بالجملة طاعة أولي الأمر مفترضة و إن كانوا غير معصومين يجوز عليهم الفسق و الخطأ فإن فسقوا فلا طاعة لهم، و إن أخطئوا ردوا إلى الكتاب و السنة إن علم منهم ذلك، و نفذ حكمهم فيما لم يعلم ذلك، و لا بأس بإنفاذ ما يخالف حكم الله في الواقع دون الظاهر رعاية لمصلحة الإسلام و المسلمين، و حفظا لوحدة الكلمة. و أنت بالتأمل فيما قدمناه من البيان تعرف سقوط هذه الشبهة من أصلها، و ذلك أن هذا التقريب من الممكن أن نساعده في تقييد إطلاق الآية في صورة الفسق بما ذكر من قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» و ما يؤدي هذا المعنى من الآيات القرآنية كقوله: إن الله لا يأمر بالفحشاء: «الأعراف: 28»، و ما في هذا المعنى من الآيات. و كذا من الممكن بل الواقع أن يجعل شرعا نظير هذه الحجية الظاهرية المذكورة كفرض طاعة أمراء السرايا الذين كان ينصبهم عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و كذا الحكام الذين كان يوليهم على البلاد كمكة و اليمن أو يخلفهم بالمدينة إذا خرج إلى غزاة، و كحجية قول المجتهد على مقلده و هكذا لكنه لا يوجب تقيد الآية فكون مسألة من المسائل صحيحة في نفسه أمر و كونها مدلولا عليها بظاهر آية قرآنية أمر آخر. فالآية تدل على افتراض طاعة أولي الأمر هؤلاء، و لم تقيده بقيد و لا شرط، و ليس في الآيات القرآنية ما يقيد الآية في مدلولها حتى يعود معنى قوله «و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم» إلى مثل قولنا: و أطيعوا أولي الأمر منكم فيما لم يأمروا بمعصية أو لم تعلموا بخطئهم فإن أمروكم بمعصية فلا طاعة عليكم، و إن علمتم خطأهم فقوموهم بالرد إلى الكتاب و السنة فما هذا معنى قوله: و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم. مع أن الله سبحانه أبان ما هو أوضح من هذا القيد فيما هو دون هذه الطاعة المفترضة كقوله في الوالدين: و وصينا الإنسان بوالديه حسنا و إن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما الآية: «العنكبوت: 8» فما باله لم يظهر شيئا من هذه القيود في آية تشتمل على أس أساس الدين، و إليها تنتهي عامة أعراق السعادة الإنسانية. على أن الآية جمع فيها بين الرسول و أولي الأمر، و ذكر لهما معا طاعة واحدة فقال: و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم، و لا يجوز على الرسول أن يأمر بمعصية أو يغلط في حكم فلو جاز شيء من ذلك على أولي الأمر لم يسع إلا أن يذكر القيد الوارد عليهم فلا مناص من أخذ الآية مطلقة من غير أي تقييد، و لازمه اعتبار العصمة في جانب أولي الأمر كما اعتبر في جانب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من غير فرق. ثم إن المراد بالأمر في أولي الأمر هو الشأن الراجع إلى دين المؤمنين المخاطبين بهذا الخطاب أو دنياهم على ما يؤيده قوله تعالى: و شاورهم في الأمر: «آل عمران: 159»، و قوله في مدح المتقين: و أمرهم شورى بينهم: «الشورى: 38»، و إن كان من الجائز بوجه أن يراد بالأمر ما يقابل النهي لكنه بعيد. و قد قيد بقوله: «منكم» و ظاهره كونه ظرفا مستقرا أي أولي الأمر كائنين منكم و هو نظير قوله تعالى: هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم: «الجمعة: 2»، و قوله في دعوة إبراهيم: ربنا و ابعث فيهم رسولا منهم: «البقرة: 129»، و قوله: رسلا منكم يقصون عليكم آياتي: «الأعراف: 35»، و بهذا يندفع ما ذكره بعضهم: أن تقييد أولي الأمر بقوله: «منكم» يدل على أن الواحد منهم إنسان عادي مثلنا و هم منا و نحن مؤمنون من غير مزية عصمة إلهية. ثم إن أولي الأمر لما كان اسم جمع يدل على كثرة جمعية في هؤلاء المسمين بأولي الأمر فهذا لا شك فيه لكن يحتمل في بادىء النظر أن يكونوا آحادا يلي الأمر و يتلبس بافتراض الطاعة واحد منهم بعد الواحد فينسب افتراض الطاعة إلى جميعهم بحسب اللفظ، و الأخذ بجامع المعنى، كقولنا: صل فرائضك و أطع سادتك و كبراء قومك. و من عجيب الكلام ما ذكره الرازي: أن هذا المعنى يوجب حمل الجمع على المفرد، و هو خلاف الظاهر، و قد غفل عن أن هذا استعمال شائع في اللغة، و القرآن مليء به كقوله تعالى: فلا تطع المكذبين: «القلم: 8»، و قوله: فلا تطع الكافرين: «الفرقان: 52»، و قوله: إنا أطعنا سادتنا و كبراءنا: «الأحزاب: 67»، و قوله: و لا تطيعوا أمر المسرفين: «الشعراء: 151»، و قوله: حافظوا على الصلوات: «البقرة: 238»، و قوله: و اخفض جناحك للمؤمنين: «الحجر: 88»، إلى غير ذلك من الموارد المختلفة بالإثبات و النفي، و الإخبار و الإنشاء. و الذي هو خلاف الظاهر من حمل الجمع على المفرد هو أن يطلق لفظ الجمع و يراد به واحد من آحاده لا أن يوقع حكم على الجمع بحيث ينحل إلى أحكام متعددة بتعدد الآحاد، كقولنا: أكرم علماء بلدك أي أكرم هذا العالم، و أكرم ذاك العالم، و هكذا. و يحتمل أيضا أن يكون المراد بأولي الأمر - هؤلاء الذين هم متعلق افتراض الطاعة - الجمع من حيث هو جمع أي الهيئة الحاصلة من عدة معدودة كل واحد منهم من أولي الأمر، و هو أن يكون صاحب نفوذ في الناس، و ذا تأثير في أمورهم كرؤساء الجنود و السرايا و العلماء و أولياء الدولة، و سراة القوم، بل كما ذكره في المنار هم أهل الحل و العقد الذين تثق بهم الأمة من العلماء و الرؤساء في الجيش و المصالح العامة كالتجارة و الصناعات و الزراعة و كذا رؤساء العمال و الأحزاب، و مديرو الجرائد المحترمة، و رؤساء تحريرها! فهذا معنى كون أولي الأمر هم أهل الحل و العقد، و هم الهيئة الاجتماعية من وجوه الأمة لكن الشأن في تطبيق مضمون تمام الآية على هذا الاحتمال. الآية دالة - كما عرفت - على عصمة أولي الأمر و قد اضطر إلى قبول ذلك القائلون بهذا المعنى من المفسرين. فهل المتصف بهذه العصمة أفراد هذه الهيئة فيكون كل واحد واحد منهم معصوما فالجميع معصوم إذ ليس المجموع إلا الآحاد؟ لكن من البديهي أن لم يمر بهذه الأمة يوم يجتمع فيه جماعة من أهل الحل و العقد كلهم معصومون على إنفاذ أمر من أمور الأمة و من المحال أن يأمر الله بشيء لا مصداق له في الخارج، أو أن هذه العصمة - و هي صفة حقيقية - قائمة بتلك الهيئة قيام الصفة بموصوفها و إن كانت الأجزاء و الأفراد غير معصومين بل يجوز عليهم من الشرك و المعصية ما يجوز على سائر أفراد الناس فالرأي الذي يراه الفرد يجوز فيه الخطأ و أن يكون داعيا إلى الضلال و المعصية بخلاف ما إذا رأته الهيئة المذكورة لعصمتها؟ و هذا أيضا محال و كيف يتصور اتصاف موضوع اعتباري بصفة حقيقية أعني اتصاف الهيئة الاجتماعية بالعصمة. أو أن عصمة هذه الهيئة ليست وصفا لأفرادها و لا لنفس الهيئة بل حقيقته أن الله يصون هذه الهيئة أن تأمر بمعصية أو ترى رأيا فتخطىء فيه، كما أن الخبر المتواتر مصون عن الكذب، و مع ذلك ليست هذه العصمة بوصف لكل واحد من المخبرين و لا للهيئة الاجتماعية بل حقيقته أن العادة جارية على امتناع الكذب فيه، و بعبارة أخرى هو تعالى يصون الخبر الذي هذا شأنه عن وقوع الخطإ فيه و تسرب الكذب عليه، فيكون رأي أولي الأمر مما لا يقع فيه الخطأ البتة و إن لم يكن آحادهم و لا هيئتهم متصفة بصفة زائدة بل هو كالخبر المتواتر مصون عن الكذب و الخطإ و ليكن هذا معنى العصمة في أولي الأمر، و الآية لا تدل على أزيد من أن رأيهم غير خابط بل مصيب يوافق الكتاب و السنة، و هو من عناية الله على الأمة، و قد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: لا تجتمع أمتي على خطإ. يتبع... |
||