الميزان في تفسير القرآن

سورة آل عمران

7 - 9

هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)

بيان

قوله تعالى: هو الذي أنزل عليك الكتاب، عبر تعالى بالإنزال دون التنزيل لأن المقصود بيان بعض أوصاف مجموع الكتاب النازل و خواصه، و هو أنه مشتمل على آيات محكمة و أخر متشابهة ترجع إلى المحكمات و تبين بها، فالكتاب مأخوذ بهذا النظر أمرا واحدا من غير نظر إلى تعدد و تكثر فناسب استعمال الإنزال دون التنزيل.

قوله تعالى: منه آيات محكمات هن أم الكتاب و أخر متشابهات، مادة حكم تفيد معنى كون الشيء بحيث يمنع ورود ما يفسده أو يبعضه أو يخل أمره عليه، و منه الإحكام و التحكيم، و الحكم بمعنى القضاء، و الحكمة بمعنى المعرفة التامة و العلم الجازم النافع، و الحكمة بفتح الحاء لزمام الفرس، ففي الجميع شيء من معنى المنع و الإتقان، و ربما قيل: إن المادة تدل على معنى المنع مع إصلاح.

و المراد هاهنا من إحكام المحكمات إتقان هذه الآيات من حيث عدم وجود التشابه فيها كالمتشابهات فإنه تعالى و إن وصف كتابه بإحكام الآيات في قوله: «كتاب أحكمت ءاياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير»: هود - 1، لكن اشتمال الآية على ذكر التفصيل بعد الإحكام دليل على أن المراد بالإحكام حال من حالات الكتاب كان عليها قبل النزول و هي كونه واحدا لم يطرأ عليه التجزي و التبعض بعد بتكثر الآيات، فهو إتقانه قبل وجود التبعض، فهذا الإحكام وصف لتمام الكتاب، بخلاف وصف الإحكام و الإتقان الذي لبعض آياته بالنسبة إلى بعض آخر من جهة امتناعها عن التشابه في المراد.

و بعبارة أخرى لما كان قوله منه آيات محكمات هن أم الكتاب و أخر متشابهات مشتملا على تقسيم آيات الكتاب إلى قسمي المحكم و المتشابه علمنا به أن المراد بالإحكام غير الإحكام الذي وصف به جميع الكتاب في قوله: كتاب أحكمت ءاياته الآية و كذا المراد بالتشابه فيه غير التشابه الذي وصف به جميع الكتاب في قوله: «كتابا متشابها مثاني»: الزمر - 23.

و قد وصف المحكمات بأنها أم الكتاب، و الأم بحسب أصل معناه ما يرجع إليه الشيء، و ليس إلا أن الآيات المتشابهة ترجع إليها فالبعض من الكتاب و هي المتشابهات ترجع إلى بعض آخر و هي المحكمات و من هنا يظهر أن الإضافة في قوله أم الكتاب ليست لامية كقولنا: أم الأطفال، بل هي بمعنى من، كقولنا نساء القوم و قدماء الفقهاء و نحو ذلك، فالكتاب يشتمل على آيات هي أم آيات أخر، و في إفراد كلمة الأم من غير جمع دلالة على كون المحكمات غير مختلفة في أنفسها بل هي متفقة مؤتلفة.

و قد قوبلت المحكمات في الآية بقوله: و أخر متشابهات، و التشابه توافق أشياء مختلفة و اتحادها في بعض الأوصاف و الكيفيات، و قد وصف الله سبحانه جميع القرآن بهذا الوصف حيث قال: «كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم» الآية: الزمر - 23، و المراد به لا محالة كون آيات الكتاب ذات نسق واحد من حيث جزالة النظم، و إتقان الأسلوب، و بيان الحقائق و الحكم، و الهداية إلى صريح الحق كما تدل عليه القيود المأخوذة في الآية، فهذا التشابه وصف لجميع الكتاب، و أما التشابه المذكور في هذه الآية، أعني قوله: و أخر متشابهات، فمقابلته لقوله: منه آيات محكمات هن أم الكتاب، و ذكر اتباع الذين في قلوبهم زيغ لها ابتغاء الفتنة و ابتغاء التأويل، كل ذلك يدل على أن المراد بالتشابه كون الآية بحيث لا يتعين مرادها لفهم السامع بمجرد استماعها بل يتردد بين معنى و معنى حتى يرجع إلى محكمات الكتاب فتعين هي معناها و تبينها بيانا، فتصير الآية المتشابهة عند ذلك محكمة بواسطة الآية المحكمة، و الآية المحكمة محكمة بنفسها، كما أن قوله: «الرحمن على العرش استوى»: طه - 5، يشتبه المراد منه على السامع أول ما يسمعه، فإذا رجع إلى مثل قوله تعالى: «ليس كمثله شيء»: الشورى - 11، استقر الذهن على أن المراد به التسلط على الملك و الإحاطة على الخلق دون التمكن و الاعتماد على المكان المستلزم للتجسم المستحيل على الله سبحانه، و كذا قوله تعالى: «إلى ربها ناظرة»: القيامة - 23، إذا أرجع إلى مثل قوله: «لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار»: الأنعام - 103، علم به أن المراد بالنظر غير النظر بالبصر الحسي، و كذا إذا عرضت الآية المنسوخة على الآية الناسخة تبين أن المراد بها حكم محدود بحد الحكم الناسخ و هكذا.

فهذا ما يتحصل من معنى المحكم و المتشابه، و يتلقاه الفهم الساذج من مجموع قوله تعالى: هو الذي أنزل عليك الكتاب فيه آيات محكمات هن أم الكتاب و أخر متشابهات، فإن الآية محكمة بلا شك و لو فرض جميع القرآن غيرها متشابها.

و لو كانت هذه الآية متشابهة عادت جميع آيات القرآن متشابهة و فسد التقسيم الذي يدل عليه قوله: منه آيات الخ، و بطل العلاج الذي يدل عليه قوله: هن أم الكتاب، و لم يصدق قوله: «كتاب فصلت ءاياته قرءانا عربيا لقوم يعلمون بشيرا و نذيرا»: حم السجدة - 4، و لم يتم الاحتجاج الذي يشتمل عليه قوله: «أ فلا يتدبرون القرءان و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا»: النساء - 82، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن القرآن نور و هدى و تبيان و بيان و مبين و ذكر و نحو ذلك.

على أن كل من يرعى نظره في آيات القرآن من أوله إلى آخره لا يشك في أن ليس بينها آية لها مدلول و هي لا تنطق بمعناها و تضل في مرادها، بل ما من آية إلا و فيها دلالة على المدلول: إما مدلول واحد لا يرتاب فيه العارف بالكلام، أو مداليل يلتبس بعضها ببعض، و هذه المعاني الملتبسة لا تخلو عن حق المراد بالضرورة و إلا بطلت الدلالة كما عرفت، و هذا المعنى الواحد الذي هو حق المراد لا محالة لا يكون أجنبيا عن الأصول المسلمة في القرآن كوجود الصانع و توحيده و بعثة الأنبياء و تشريع الأحكام و المعاد و نحو ذلك، بل هو موافق لها و هي تستلزمه و تنتجه و تعين المراد الحق من بين المداليل المتعددة المحتملة، فالقرآن بعضه يبين بعضا، و بعضه أصل يرجع إليه البعض الآخر.

ثم إن هذا الناظر إذا عثر بعد هذه النظرة على قوله تعالى: منه آيات محكمات هن أم الكتاب و أخر متشابهات، لم يشك في أن المراد بالمحكمات هي الآيات المتضمنة للأصول المسلمة من القرآن و بالمتشابهات الآيات التي تتعين و تتضع معانيها بتلك الأصول.

فإن قلت: رجوع الفروع إلى الأصول مما لا ريب فيه فيما كان هناك أصول متعرقة و فروع متفرقة سواء فيه المعارف القرآنية و غيرها، لكن ذلك لا يستوجب حصول التشابه، فما وجه ذلك؟ قلت: وجهه أحد أمرين، فإن المعارف التي يلقيها القرآن على قسمين: فمنها معارف عالية خارجة عن حكم الحس و المادة، و الأفهام العادية لا تلبث دون أن تتردد فيها بين الحكم الجسماني الحسي و بين غيره كقوله تعالى: «إن ربك لبالمرصاد»: الفجر - 14 و قوله تعالى: «و جاء ربك»: الفجر - 22، فيتبادر منها إلى الذهن المستأنس بالمحسوس من الأحكام معان هي من أوصاف الأجسام و خواصها، و تزول بالرجوع إلى الأصول التي تشتمل على نفي حكم المادة و الجسم عن المورد، و هذا مما يطرد في جميع المعارف و الأبحاث غير المادية و الغائبة عن الحواس، و لا يختص بالقرآن الكريم بل يوجد في غيره من الكتب السماوية بما تشتمل عليه من المعارف العالية من غير تحريف، و يوجد أيضا في المباحث الإلهية من الفلسفة، و هو الذي يشير إليه القرآن بلسان آخر في قوله تعالى: «أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها» الآية: الرعد - 17، و قوله:» إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون و إنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم»: الزخرف - 4 و منها ما يتعلق بالنواميس الاجتماعية و الأحكام الفرعية، و اشتمال هذا القسم من المعارف على الناسخ و المنسوخ بالنظر إلى تغير المصالح المقتضية للتشريعات و نحوها من جهة، و نزول القرآن نجوما من جهة أخرى يوجب ظهور التشابه في آياتها، و يرتفع التشابه بإرجاع المتشابه إلى المحكم، و المنسوخ إلى الناسخ.

قوله تعالى: فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله، الزيغ هو الميل عن الاستقامة، و يلزمه اضطراب القلب و قلقه بقرينة ما يقابله في ذيل الآية من قوله: و الراسخون في العلم يقولون ءامنا به كل من عند ربنا، فإن الآية تصف حال الناس بالنسبة إلى تلقي القرآن بمحكمه و متشابهه، و أن منهم من هو زائغ القلب و مائله و مضطربه فهو يتبع المتشابه ابتغاء للفتنة و التأويل، و منهم من هو راسخ العلم مستقر القلب يأخذ بالمحكم و يؤمن بالمتشابه و لا يتبعه، و يسأل الله تعالى أن لا يزيغ قلبه بعد الهداية.

و من هنا يظهر: أن المراد باتباع المتشابه اتباعه عملا لا إيمانا، و أن هذا الاتباع المذموم اتباع للمتشابه من غير إرجاعه إلى المحكم، إذ على هذا التقدير يصير الاتباع اتباعا للمحكم و لا ذم فيه.

و المراد بابتغاء الفتنة طلب إضلال الناس، فإن الفتنة تقارب الإضلال في المعنى، يقول تعالى: يريدون باتباع المتشابه إضلال الناس في آيات الله سبحانه، و أمرا آخر هو أعظم من ذلك، و هو الحصول و الوقوف على تأويل القرآن و مآخذ أحكام الحلال و الحرام حتى يستغنوا عن اتباع محكمات الدين فينتسخ بذلك دين الله من أصله.

و التأويل من الأول و هو الرجوع فتأويل المتشابه هو المرجع الذي يرجع إليه، و تأويل القرآن هو المأخذ الذي يأخذ منه معارفه.

و قد ذكر الله سبحانه لفظ التأويل في موارد من كلامه فقال سبحانه: «و لقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى و رحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق»: الأعراف - 53، أي بالحق فيما أخبروا به و أنبئوا أن الله هو مولاهم الحق، و أن ما يدعون من دونه هو الباطل، و أن النبوة حق، و أن الدين حق، و أن الله يبعث من في القبور، و بالجملة كل ما يظهر حقيقته يوم القيامة من أنباء النبوة و أخبارها.

و من هنا ما قيل: إن التأويل في الآية هو الخارج الذي يطابقه الخبر الصادق كالأمور المشهودة يوم القيامة التي هي مطابقات اسم مفعول أخبار الأنبياء و الرسل و الكتب.

و يرده: أن التأويل على هذا يختص بالآيات المخبرة عن الصفات و بعض الأفعال و عن ما سيقع يوم القيامة، و أما الآيات المتضمنة لتشريع الأحكام فإنها لاشتمالها على الإنشاء لا مطابق لها في الخارج عنها، و كذا ما دل منها على ما يحكم به صريح العقل كعدة من أحكام الأخلاق فإن تأويلها معها، و كذا ما دل على قصص الأنبياء و الأمم الماضية فإن تأويلها على هذا المعنى يتقدمها من غير أن يتأخر إلى يوم القيامة مع، أن ظاهر الآية يضيف التأويل إلى الكتاب كله لا إلى قسم خاص من آياته.

و مثلها قوله تعالى: «و ما كان هذا القرءان أن يفترى إلى أن قال: أم يقولون افتريه إلى أن قال: بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه و لما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين»: يونس - 39، و الآيات كما ترى تضيف التأويل إلى مجموع الكتاب.

و لذلك ذكر بعضهم أن التأويل هو الأمر العيني الخارجي الذي يعتمد عليه الكلام، و هو في مورد الأخبار المخبر به الواقع في الخارج، إما سابقا كقصص الأنبياء و الأمم الماضية، و إما لاحقا كما في الآيات المخبرة عن صفات الله و أسمائه و مواعيده و كل ما سيظهر يوم القيامة، و في مورد الإنشاء كآيات الأحكام المصالح المتحققة في الخارج كما في قوله تعالى: «و أوفوا الكيل إذا كلتم و زنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير و أحسن تأويلا»: إسراء - 35، فإن تأويل إيفاء الكيل و إقامة الوزن هو المصلحة المترتبة عليهما في المجتمع و هو استقامة أمر الاجتماع الإنساني.

و فيه أولا: أن ظاهر هذه الآية: أن التأويل أمر خارجي و أثر عيني مترتب على فعلهم الخارجي الذي هو إيفاء الكيل و إقامة الوزن لا الأمر التشريعي الذي يتضمنه قوله.

و أوفوا الكيل إذا كلتم و زنوا الآية، فالتأويل أمر خارجي هو مرجع و مآل لأمر خارجي آخر فتوصيف آيات الكتاب بكونها ذات تأويل من جهة حكايتها عن معان خارجية كما في الإخبار أو تعلقها بأفعال أو أمور خارجية كما في الإنشاء لها تأويل، فالوصف وصف بحال متعلق الشيء لا بحال نفس الشيء.

و ثانيا: أن التأويل و إن كان هو المرجع الذي يرجع و يئول إليه الشيء لكنه رجوع خاص لا كل رجوع، فإن المرئوس يرجع إلى رئيسه و ليس بتأويل له، و العدد يرجع إلى الواحد و ليس بتأويل له، فلا محالة هو مرجع بنحو خاص لا مطلقا.

يدل على ذلك قوله تعالى في قصة موسى و الخضر (عليهما السلام): «سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا»: الكهف - 78، و قوله تعالى: «ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا»: الكهف - 82، و الذي نبأه لموسى صور و عناوين لما فعله (عليه السلام) في موارد ثلاث كان موسى (عليه السلام) قد غفل عن تلك الصور و العناوين، و تلقى بدلها صورا و عناوين أخرى أوجبت اعتراضه بها عليه، فالموارد الثلاث: هي قوله تعالى: «حتى إذا ركبا في السفينة خرقها»: الكهف - 71، و قوله تعالى: «حتى إذا لقيا غلاما فقتله»: الكهف - 74، و قوله تعالى: «حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه»: الكهف - 77.

و الذي تلقاه موسى (عليه السلام) من صور هذه القضايا و عناوينها قوله: «أ خرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا»: الكهف - 71، و قوله: «أ قتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا»: الكهف - 74، و قوله: «لو شئت لاتخذت عليه أجرا»: الكهف - 77.

و الذي نبأ به الخضر من التأويل قوله: «أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها و كان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا و أما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا و كفرا فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكوة و أقرب رحما، و أما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة، و كان تحته كنز لهما و كان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما و يستخرجا كنزهما رحمة من ربك»: الكهف - 82، ثم أجاب عن جميع ما اعترض عليه موسى (عليه السلام) جملة بقوله: «و ما فعلته عن أمري»: الكهف - 82، فالذي أريد من التأويل في هذه الآيات كما ترى هو رجوع الشيء إلى صورته و عنوانه نظير رجوع الضرب إلى التأديب و رجوع الفصد إلى العلاج، لا نظير رجوع قولنا: جاء زيد إلى مجيء زيد في الخارج.

و يقرب من ذلك ما ورد من لفظ التأويل في عدة مواضع من قصة يوسف (عليه السلام) كقوله تعالى: «إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر رأيتهم لي ساجدين»: يوسف - 4، و قوله تعالى: و رفع أبويه على العرش و خروا له سجدا و قال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا»: يوسف - 100، فرجوع ما رآه من الرؤيا إلى سجود أبويه و إخوته له و إن كان رجوعا لكنه من قبيل رجوع المثال إلى الممثل، و كذا قوله تعالى: «و قال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف و سبع سنبلات خضر و أخر يابسات، يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون، قالوا أضغاث أحلام و ما نحن بتأويل الأحلام بعالمين، و قال الذي نجا منهما و ادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون يوسف أيها الصديق أفتنا إلى أن قال: قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون»: يوسف - 48.

و كذا قوله تعالى: «و دخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا، و قال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نريك من المحسنين إلى أن قال: يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا و أما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان»: يوسف - 41.

و كذا قوله تعالى: «و يعلمك من تأويل الأحاديث»: يوسف - 61، و قوله تعالى: «و لنعلمه من تأويل الأحاديث»: يوسف - 21، و قوله تعالى: و علمتني من تأويل الأحاديث»: يوسف - 101، فقد استعمل التأويل في جميع هذه الموارد من قصة يوسف (عليه السلام) فيما يرجع إليه الرؤيا من الحوادث، و هو الذي كان يراه النائم فيما يناسبه من الصورة و المثال، فنسبة التأويل إلى ذي التأويل نسبة المعنى إلى صورته التي يظهر بها، و الحقيقة المتمثلة إلى مثالها الذي تتمثل به، كما كان الأمر يجري هذا المجرى فيما أوردناه من الآيات في قصة موسى و الخضر (عليهما السلام)، و كذا في قوله تعالى: و أوفوا الكيل إذا كلتم إلى قوله و أحسن تأويلا الآية: إسراء - 35.

و التدبر في آيات القيامة يعطي أن المراد هو ذلك أيضا في لفظة التأويل في قوله تعالى: بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه و لما يأتهم تأويله الآية، و قوله تعالى «هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله»» الآية فإن أمثال قوله تعالى: «لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد»: ق - 22، تدل على أن مشاهدة وقوع ما أخبر به الكتاب و أنبأ به الأنبياء يوم القيامة من غير سنخ المشاهدة الحسية التي نعهدها في الدنيا كما أن نفس وقوعها و النظام الحاكم فيها غير ما نألفه في نشأتنا هذه، و سيجيء مزيد بيان له فرجوع أخبار الكتاب و النبوة إلى مضامينها الظاهرة يوم القيامة ليس من قبيل رجوع الإخبار عن الأمور المستقبلة إلى تحقق مضامينها في المستقبل.

فقد تبين بما مر: أولا: أن كون الآية ذات تأويل ترجع إليه غير كونها متشابهة ترجع إلى آية محكمة.

و ثانيا: أن التأويل لا يختص بالآيات المتشابهة بل لجميع القرآن تأويل فللآية المحكمة تأويل كما أن للمتشابهة تأويلا.

و ثالثا: أن التأويل ليس من المفاهيم التي هي مداليل للألفاظ بل هو من الأمور الخارجية العينية، و اتصاف الآيات بكونها ذات تأويل من قبيل الوصف بحال المتعلق، و أما إطلاق التأويل و إرادة المعنى المخالف لظاهر اللفظ، فاستعمال مولد نشأ بعد نزول القرآن لا دليل أصلا على كونه هو المراد من قوله تعالى: و ابتغاء تأويله و ما يعلم تأويله إلا الله الآية، كما لا دليل على أكثر المعاني المذكورة للتأويل مما سننقله عن قريب.

قوله تعالى: و ما يعلم تأويله إلا الله، ظاهر الكلام رجوع الضمير إلى ما تشابه، لقربه كما هو الظاهر أيضا في قوله: و ابتغاء تأويله، و قد عرفت أن ذلك لا يستلزم كون التأويل مقصورا على الآيات المتشابهة.

و من الممكن أيضا رجوع الضمير إلى الكتاب كالضمير في قوله: ما تشابه منه.

و ظاهر الحصر كون العلم بالتأويل مقصورا عليه سبحانه و أما قوله: و الراسخون في العلم، فظاهر الكلام أن الواو للاستيناف بمعنى كونه طرفا للترديد الذي يدل عليه قوله في صدر الآية: فأما الذين في قلوبهم زيغ، و المعنى: أن الناس في الأخذ بالكتاب قسمان: فمنهم من يتبع ما تشابه منه و منهم من يقول إذا تشابه عليه شيء منه: ءامنا به كل من عند ربنا، و إنما اختلفا لاختلافهم من جهة زيغ القلب و رسوخ العلم.

على أنه لو كان الواو للعطف و كان المراد بالعطف تشريك الراسخين في العلم بالتأويل كان منهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو أفضلهم و كيف يتصور أن ينزل القرآن على قلبه و هو لا يدري ما أريد به و من دأب القرآن إذا ذكر الأمة أو وصف أمر جماعة و فيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يفرده بالذكر أولا و يميزه بالشخص تشريفا له و تعظيما لأمره ثم يذكرهم جميعا كقوله تعالى: «ءامن الرسول بما أنزل إليه من ربه و المؤمنون»: البقرة - 285، و قوله تعالى: «ثم أنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين»: التوبة - 26، و قوله تعالى: «لكن الرسول و الذين ءامنوا معه»: التوبة - 88، و قوله تعالى: «و هذا النبي و الذين ءامنوا»: آل عمران - 68، و قوله تعالى: «لا يخزي الله النبي و الذين ءامنوا معه»: التحريم - 8، إلى غير ذلك، فلو كان المراد بقوله: و الراسخون في العلم، أنهم عالمون بالتأويل - و رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم قطعا - كان حق الكلام كما عرفت أن يقال: و ما يعلم تأويله إلا الله و رسوله و الراسخون في العلم، هذا و إن أمكن أن يقال: إن قوله في صدر الآية: هو الذي أنزل عليك الكتاب «الخ» يدل على كون النبي عالما بالكتاب فلا حاجة إلى ذكره ثانيا.

فالظاهر أن العلم بالتأويل مقصور في الآية عليه تعالى، و لا ينافي ذلك ورود الاستثناء عليه كما أن الآيات دالة على انحصار علم الغيب عليه تعالى مع ورود الاستثناء عليه كما في قوله تعالى: «عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول»: الجن - 27، و لا ينافيه أيضا كون المستثنى الراسخين في العلم بعينهم، إذ لا منافاة بين أن تدل هذه الآية على شأن من شئون الراسخين في العلم، و هو الوقوف عند الشبهة و الإيمان و التسليم في مقابل الزائغين قلبا و بين أن تدل آيات أخر على أنهم أو بعضا منهم عالمون بحقيقة القرآن و تأويل آياته على ما سيجيء بيانه.

قوله تعالى: و الراسخون في العلم يقولون ءامنا به كل من عند ربنا، الرسوخ هو أشد الثبات، و وقوع الراسخين في العلم في مقابلة الذين في قلوبهم زيغ ثم توصيفهم بأنهم يقولون آمنا به كل من عند ربنا يدل على تمام تعريفهم، و هو أن لهم علما بالله و بآياته لا يدخله ريب و شك، فما حصل لهم من العلم بالمحكمات ثابت لا يتزلزل، و هم يؤمنون به و يتبعونه أي يعلمون به و إذا وردت عليهم آية متشابهة لم يوجب تشابهها اضطراب قلوبهم فيما عندهم من العلم الراسخ بل آمنوا بها و توقفوا عن اتباعها عملا و في قولهم: ءامنا به كل من عند ربنا ذكر الدليل و النتيجة معا فإن كون المحكم و المتشابه جميعا من عند الله تعالى يوجب الإيمان بالكل: محكمه و متشابهه، و وضوح المراد في المحكم يوجب اتباعه عملا، و التوقف في المتشابه من غير رده لأنه من عند الله و لا يجوز اتباع ما ينافي المحكم من معانيه المتشابهة لسطوع البيان في المحكم فيجب أن يتبع من معانيه المحتملة ما يوافق معنى المحكم، و هذا بعينه إرجاع المتشابه إلى المحكم فقوله: كل من عند ربنا بمنزلة الدليل على الأمرين جميعا، أعني: الإيمان و العمل في المحكم، و الإيمان فقط في المتشابه و الرجوع في العمل إلى المحكم.

قوله تعالى: و ما يذكر إلا أولوا الألباب، التذكر هو الانتقال إلى دليل الشيء لاستنتاجه، و لما كان قولهم: كل من عند ربنا كما مر استدلالا منهم و انتقالا لما يدل على فعلهم سماه الله تعالى تذكرا و مدحهم به.

و الألباب جمع لب و هو العقل الزكي الخالص من الشوائب، و قد مدحهم الله تعالى مدحا جميلا في موارد من كلامه، و عرفهم بأنهم أهل الإيمان بالله و الإنابة إليه و اتباع أحسن القول ثم وصفهم بأنهم على ذكر من ربهم دائما فأعقب ذلك أنهم أهل التذكر أي الانتقال إلى المعارف الحقة بالدليل و أهل الحكمة و المعرفة، قال تعالى: «و الذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها و أنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هديهم الله و أولئك هم أولوا الألباب»: الزمر - 18، و قال تعالى: «إن في خلق السموات و الأرض و اختلاف الليل و النهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما و قعودا و على جنوبهم»: آل عمران - 191، و هذا الذكر الدائم و ما يتبعه من التذلل و الخضوع هو الإنابة الموجبة لتذكرهم بآيات الله و انتقالهم إلى المعارف الحقة كما قال تعالى: «و ما يتذكر إلا من ينيب»: الغافر - 13، و قد قال: «و ما يذكر إلا أولوا الألباب»: البقرة - 269 آل عمران - 7.

قوله تعالى: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا و هب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، و هذا من آثار رسوخهم في العلم فإنهم لما علموا بمقام ربهم، و عقلوا عن الله سبحانه أيقنوا أن الملك لله وحده و أنهم لا يملكون لأنفسهم شيئا فمن الجائز أن يزيغ قلوبهم بعد رسوخ العلم فالتجئوا إلى ربهم، و سألوه أن لا يزيغ قلوبهم بعد إذ هداهم، و أن يهب لهم من لدنه رحمة تبقي لهم هذه النعمة و يعينهم على السير في صراط الهداية و السلوك في مراتب القرب.

و أما سؤال أن يهبهم رحمة بعد سؤال أن لا يزيغ قلوبهم فلأن عدم إزاغة القلب لا يستلزم بقاء الرسوخ في العلم فمن الجائز أن لا يزاغ قلوبهم و ينتزع عنها العلم فتبقى سدى مهملة لا سعداء بالعلم و لا أشقياء بالإزاغة بل في حال الجهل و الاستضعاف، و هم في حاجة مبرمة إلى ما هم عليه من العلم، و مع ذلك لا تقف حاجتهم في ما هم عليه من الموقف بل هم سائروا طريق يحتاجون فيه إلى أنواع من الرحمة لا يعلمها و لا يحصيها إلا الله سبحانه، و هم مستشعرون بحاجتهم هذه و الدليل عليه قولهم بعد: ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه.

فقولهم: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، استعاذة من نزول الزيغ إلى قلوبهم و إزاحته العلم الراسخ الذي فيها و قولهم و هب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب استمطار لسحاب الرحمة حتى تدوم بها حياة قلوبهم و تنكير الرحمة، و توصيفها بكونها من لدنه إظهار منهم الجهل بشأن هذه الرحمة، و أنها كيف ينبغي أن تكون غير أنهم يعلمون أنه لو لا رحمة من ربهم و لو لا كونها من لدنه لم يتم لهم أمر.

و في الاستعاذة من الزيغ إلى الله محضا و استيهاب الرحمة من لدنه محضا دلالة على أنهم يرون تمام الملك لله محضا من غير توجه إلى أمر الأسباب.

قوله تعالى: ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد، هذا منهم بمنزلة التعليل لسؤال الرحمة و ذلك لعلمهم بأن إقامة نظام الخلقة و دعوة الدين و كدح الإنسان في مسير وجوده كل ذلك مقدمة لجمعهم إلى يوم القيامة الذي لا يغنى فيه و لا ينصر أحد إلا بالرحمة كما قال تعالى: «إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا و لا هم ينصرون، إلا من رحم الله»: الدخان - 42 و لذلك سألوا رحمة من ربهم و فوضوا تعيينها و تشخيصها إليه لينفعهم في أمرهم.

و قد وصفوا هذا اليوم بأنه لا ريب فيه ليتجه بذلك كمال اهتمامهم بالسؤال و الدعاء، و عللوا هذا التوصيف أيضا بقولهم: إن الله لا يخلف الميعاد لأن شأنهم الرسوخ في العلم، و لا يرسخ العلم بشيء و لا يستقر تصديق إلا مع العلم بعلته المنتجة، و علة عدم ارتيابهم في تحقق هذا اليوم هو ميعاد الله سبحانه به فذكروه.

و نظير هذا الوجه جار في تعليلهم قولهم و هب لنا من لدنك رحمة بقولهم: إنك أنت الوهاب فكونه تعالى وهابا يعلل به سؤالهم الرحمة، و إتيانهم بلفظة أنت و تعريف الخبر باللام المفيد للحصر يعلل به قولهم: من لدنك، الدال على الاختصاص، و كذا يجري مثل الوجه في قولهم: ربنا لا تزغ قلوبنا، حيث عقبوه بما يجري مجرى العلة بالنسبة إليه، و هو قولهم: بعد إذ هديتنا، و قد مر آنفا أن قولهم: ءامنا به، من حيث تعقيبه بقولهم: كل من عند ربنا، من هذا القبيل أيضا.

فهؤلاء رجال آمنوا بربهم و ثبتوا عليه فهداهم الله سبحانه، و كمل عقولهم فلا يقولون إلا عن علم و لا يفعلون إلا عن علم فسماهم الله تعالى راسخين في العلم، و كنى عنهم بأولى الألباب، و أنت إذا تدبرت ما عرف الله به أولي الألباب وجدته منطبقا على ما ذكره من شأنهم في هذه الآيات، قال تعالى: و الذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها و أنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هديهم الله و أولئك هم أولوا الألباب»: الزمر - 18.

فوصفهم بالإيمان و اتباع أحسن القول، و الإنابة إلى الله سبحانه، و قد وصف بهذه الأوصاف الراسخين في العلم في هذه الآيات.

و أما الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله إن الله لا يخلف الميعاد فلأن هذا الميعاد لا يختص بهم بل يعمهم و غيرهم فكان الأولى تبديل قولهم: ربنا، إلى لفظة الجلالة لأن حكم الألوهية عام شامل لكل شيء.

كلام تفصيلي في المحكم و المتشابه و التأويل

هذا الذي أوردناه من الكلام في معنى المحكم و المتشابه و التأويل فيما مر هو الذي يتحصل من تدبر كلامه سبحانه و يستفاد من المأثور عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) سيجيء في البحث الروائي.

لكن القوم اختلفوا في المقام، و قد شاع الخلاف و اشتد الانحراف بينهم، و ينسحب ذيل النزاع و المشاجرة إلى الصدر الأول من مفسري الصحابة و التابعين، و قلما يوجد في ما نقل إلينا من كلامهم ما يقرب مما مر من البيان فضلا عن أن ينطبق عليه تمام الانطباق.

و السبب العمدة في ذلك الخلط بين البحث عن المحكم و المتشابه و بين البحث عن معنى التأويل، فأوجب ذلك اختلالا عجيبا في عقد المسألة و كيفية البحث و النتيجة المأخوذة منه، و نحن نورد تفصيل القول في كل واحد من أطراف هذه الأبحاث و ما قيل فيها و ما هو المختار من الحق مع تمييز مورد البحث بما تيسر في ضمن فصول

1 - المحكم و المتشابه

الإحكام و التشابه من الألفاظ المبينة المفاهيم في اللغة، و قد وصف بهما الكتاب كما في قوله تعالى: «كتاب أحكمت ءاياته»: هود - 1، و قوله تعالى: «كتابا متشابها مثاني»: الزمر - 23، و لم يتصف بهما إلا جملة الكتاب من جهة إتقانه في نظمه و بيانه و من جهة تشابه نظمه و بيانه في البلوغ إلى غاية الإتقان و الإحكام.

لكن قوله تعالى: هو الذي أنزل عليك الكتاب منه ءايات محكمات هن أم الكتاب و أخر متشابهات الآية لما اشتمل على تقسيم نفس آيات الكتاب إلى المحكمات و المتشابهات علمنا أن المراد بالإحكام و التشابه هاهنا غير ما يتصف به تمام الكتاب، و كان من الحري البحث عن معناهما و تشخيص مصداقهما من الآيات، و فيه أقوال ربما تجاوزت العشرة: أحدها: أن المحكمات هو قوله تعالى في سورة الأنعام: «قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا إلى آخر الآيات الثلاث»: الأنعام - 152 و المتشابهات هي التي تشابهت على اليهود، و هي الحروف المقطعة النازلة في أوائل عدة من السور القرآنية مثل الم و الر و حم، و ذلك أن اليهود أولوها على حساب الجمل، فطلبوا أن يستخرجوا منها مدة بقاء هذه الأمة و عمرها فاشتبه عليهم الأمر.

نسب إلى ابن عباس من الصحابة.

و فيه: أنه قول من غير دليل و لو سلم فلا دليل على انحصارهما.

فيهما، على أن لازمه وجود قسم ثالث ليس بمحكم و لا متشابه مع أن ظاهر الآية يدفعه.

لكن الحق أن النسبة في غير محلها، و الذي نقل عن ابن عباس: أنه قال إن الآيات الثلاث من المحكمات لا أن المحكمات هي الآيات الثلاث، ففي الدر المنثور، أخرج سعيد بن منصور و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه و ابن مردويه عن عبد الله بن قيس سمعت ابن عباس يقول: في قوله منه ءايات محكمات، قال: الثلاث آيات من آخر سورة الأنعام محكمات: قل تعالوا، و الآيتان بعدها.

و يؤيد ذلك ما رواه عنه أيضا في قوله: آيات محكمات قال: من هاهنا: قل تعالوا إلى آخر ثلاث آيات، و من هاهنا: و قضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه إلى آخر ثلاث آيات. فالروايتان تشهدان أنه إنما ذكر هذه الآيات مثالا لسائر المحكمات لا أنه قصرها فيها.

و ثانيها عكس الأول و هو أن المحكمات هي الحروف المقطعة في فواتح السور و المتشابهات غيرها.

نقل ذلك عن أبي فاختة حيث ذكر في قوله تعالى: هن أم الكتاب: إنهن فواتح السور منها يستخرج القرآن: الم ذلك الكتاب، منها استخرجت البقرة و الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم، منها استخرجت آل عمران و عن سعيد بن جبير مثله في معنى قوله: هن أم الكتاب، قال: أصل الكتاب لأنهن مكتوبات في جميع الكتب، انتهى.

و يدل ذلك على أنهما يذهبان في معنى فواتح السور إلى أن المراد بها ألفاظ الحروف بعناية أن الكتاب الذي نزل عليكم هو هذه الحروف المقطعة التي تتألف منها الكلمات و الجمل، كما هو أحد المذاهب في معنى فواتح السور.

و فيه: مضافا إلى أنه مبني على ما لا دليل عليه أصلا أعني تفسير الحروف المقطعة في فواتح السور بما عرفت أنه لا ينطبق على نفس الآية فإن جميع القرآن غير فواتح السور يصير حينئذ من المتشابه، و قد ذم الله سبحانه اتباع المتشابه، و عده من زيغ القلب مع أنه تعالى مدح اتباع القرآن بل عده من أوجب الواجبات كقوله تعالى: «و اتبعوا النور الذي أنزل معه»: الأعراف - 157، و غيره من الآيات.

و ثالثها: أن المتشابه هو ما يسمى مجملا و المحكم هو المبين.

و فيه: أن ما بين من أوصاف المحكم و المتشابه في الآية لا ينطبق على المجمل و المبين.

بيان ذلك: أن إجمال اللفظ هو كونه بحيث يختلط و يندمج بعض جهات معناه ببعض فلا ينفصل الجهة المرادة عن غيرها، و يوجب ذلك تحير المخاطب أو السامع في تشخيص المراد و قد جرى دأب أهل اللسان في ظرف التفاهم أن لا يتبعوا ما هذا شأنه من الألفاظ بل يستريحون إلى لفظ آخر مبين يبين هذا المجمل فيصير بذلك مبينا فيتبع فهذا حال المجمل مع مبينه، فلو كان المحكم و المتشابه هما المجمل و المبين بعينهما كان المتبع هو المتشابه إذا رد إلى المحكم، دون نفس المحكم، و كان هذا الاتباع مما لا يجوزه قريحة التكلم و التفاهم فلم يقدم على مثله أهل اللسان سواء في ذلك أهل الزيغ منهم و الراسخون في العلم و لم يكن اتباع المتشابه أمرا يلحقه الذم و يوجب زيغ القلب.

رابعها أن المتشابهات هي الآيات المنسوخة لأنها يؤمن بها و لا يعمل بها، و المحكمات هي الآيات الناسخة لأنها يؤمن بها، و يعمل بها و نسب إلى ابن عباس و ابن مسعود و ناس من الصحابة، و لذلك كان ابن عباس يحسب أنه يعلم تأويل القرآن.

و فيه: أنه على تقدير صحته لا دليل فيه على انحصار المتشابهات في الآيات المنسوخة فإن الذي ذكره تعالى من خواص اتباع المتشابه من ابتغاء الفتنة و ابتغاء التأويل جار في كثير من الآيات غير المنسوخة كآيات الصفات و الأفعال، على أن لازم هذا القول وجود الواسطة بين المحكم و المتشابه.

و فيما نقل عن ابن عباس ما يدل على أن مذهبه في المحكم و المتشابه أعم مما ينطبق على الناسخ و المنسوخ، و أنه إنما ذكرهما من باب المثال ففي الدر المنثور: أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس قال: المحكمات ناسخه و حلاله و حرامه و حدوده و فرائضه و ما يؤمن به، و المتشابهات منسوخه و مقدمه و مؤخره و أمثاله و أقسامه و ما يؤمن به و لا يعمل به، انتهى.

خامسها: أن المحكمات ما كان دليله واضحا لائحا كدلائل الوحدانية و القدرة و الحكمة، و المتشابهات ما يحتاج في معرفته إلى تأمل و تدبر.

و فيه: أنه إن كان المراد من كون الدليل واضحا لائحا أو محتاجا إلى التأمل و التدبر كون مضمون الآية ذا دليل عقلي قريب من البداهة أو بديهي و عدم كونه كذلك كان لازمه كون آيات الأحكام و الفرائض و نحوها من المتشابه لفقدانها الدليل العقلي اللائح الواضح، و حينئذ يكون اتباعها مذموما مع أنها واجبة الاتباع، و إن كان المراد به كونه ذا دليل واضح لائح من نفس الكتاب و عدم كونه كذلك فجميع الآيات من هذه الجهة على وتيرة واحدة، و كيف لا؟ و هو كتاب متشابه مثاني، و نور، و مبين، و لازمه كون الجميع محكما و ارتفاع المتشابه المقابل له من الكتاب و هو خلف الفرض و خلاف النص.

سادسها: أن المحكم كل ما أمكن تحصيل العلم به بدليل جلي أو خفي، و المتشابه ما لا سبيل إلى العلم به كوقت قيام الساعة و نحوه.

و فيه: أن الإحكام و التشابه وصفان لآية الكتاب من حيث إنها آية أي دالة على معرفة من المعارف الإلهية، و الذي تدل عليه آية من آيات الكتاب ليس بعادم للسبيل، و لا ممتنع الفهم إما بنفسه أو بضميمة غيره، و كيف يمكن أن يكون هناك أمر مراد من لفظ الآية و لا يمكن نيله من جهة اللفظ؟ مع أنه وصف كتابه بأنه هدى، و أنه نور، و أنه مبين، و أنه في معرض فهم الكافرين فضلا عن المؤمنين حيث قال: «تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت ءاياته قرءانا عربيا لقوم يعلمون بشيرا و نذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون»: حم السجدة - 4، و قال تعالى: «أ فلا يتدبرون القرءان و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا»: النساء - 82، فما تعرضت له آية من آيات الكتاب ليس بممتنع الفهم، و لا الوقوف عليه مستحيل، و ما لا سبيل إلى الوقوف عليه كوقت قيام الساعة و سائر ما في الغيب المكنون لم يتعرض لبيانه آية من الآيات بلفظها حتى تسمى متشابها.

على أن في هذا القول خلطا بين معنى المتشابه و تأويل الآية كما مر.

سابعها: أن المحكمات آيات الأحكام و المتشابهات غيرها مما يصرف بعضها بعضا، نسب هذا القول إلى مجاهد و غيره.

و فيه: أن المراد بالصرف الذي ذكره إن كان مطلق ما يعين على تشخيص المراد باللفظ حتى يشمل مثل التخصيص بالمخصص، و التقييد بالمقيد و سائر القرائن المقامية كانت آيات الأحكام أيضا كغيرها متشابهات، و إن كان خصوص ما لا إبهام في دلالته على المراد و لا كثرة في محتملاته حتى يتعين المراد به بنفسه، و يتعين المراد بغيره بواسطته كان لازم كون ما سوى آيات الأحكام متشابهة أن لا يحصل العلم بشيء من معارف القرآن غير الأحكام لأن المفروض عدم وجود آية محكمة فيها ترجع إليها المتشابهات منها و يتبين بذلك معانيها.

ثامنها: أن المحكم من الآيات ما لا يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا و المتشابه ما احتمل من التأويل أوجها كثيرة و نسب إلى الشافعي، و كان المراد به أن المحكم ما لا ظهور له إلا في معنى واحد كالنص و الظاهر القوي في ظهوره و المتشابه خلافه.

و فيه: أنه لا يزيد على تبديل اللفظ باللفظ شيئا، فقد بدل لفظ المحكم بما ليس له إلا معنى واحد، و المتشابه بما يحتمل معاني كثيرة، على أنه أخذ التأويل بمعنى التفسير أي المعنى المراد باللفظ و قد عرفت أنه خطأ، و لو كان التأويل هو التفسير بعينه لم يكن لاختصاص علمه بالله، أو بالله و بالراسخين في العلم وجه فإن القرآن يفسر بعضه بعضا، و المؤمن و الكافر و الراسخون في العلم و أهل الزيغ في ذلك سواء.

تاسعها: أن المحكم ما أحكم و فصل فيه خبر الأنبياء مع أممهم، و المتشابه ما اشتبهت ألفاظه من قصصهم بالتكرير في سور متعددة، و لازم هذا القول اختصاص التقسيم بآيات القصص.

و فيه: أنه لا دليل على هذا التخصيص أصلا، على أن الذي ذكره تعالى من خواص المحكم و المتشابه و هو ابتغاء الفتنة و ابتغاء التأويل في اتباع المتشابه دون المحكم لا ينطبق عليه، فإن هذه الخاصة توجد في غير آيات القصص كما توجد فيها، و توجد في القصة الواحدة كقصة جعل الخلافة في الأرض كما توجد في القصص المتكررة.

عاشرها: أن المتشابه ما يحتاج إلى بيان و المحكم خلافه، و هذا الوجه منسوب إلى الإمام أحمد.

و فيه: أن آيات الأحكام محتاجة إلى بيان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أنها من المحكمات قطعا لما تقدم بيانه مرارا، و كذا الآيات المنسوخة من المتشابه كما تقدم مع عدم احتياجها إلى بيان لكونها نظائر لسائر آيات الأحكام.

الحادي عشر: أن المحكم ما يؤمن به و يعمل به و المتشابه ما يؤمن به و لا يعمل به، و نسب إلى ابن تيمية، و لعل المراد به: أن الأخبار متشابهات و الإنشاءات محكمات كما استظهره بعضهم و إلا لم يكن قولا برأسه لصحة انطباقه على عدة من الأقوال المتقدمة.

و فيه: أن لازمه كون غير آيات الأحكام متشابهات، و لازمه أن لا يمكن حصول العلم بشيء من المعارف الإلهية في غير الأحكام إذ لا يتحقق فيها عمل مع عدم وجود محكم فيها يرجع إليه ما تشابه منها، و من جهة أخرى: الآيات المنسوخة إنشاءات و ليست بمحكمات قطعا.

و الظاهر أن مراده من الإيمان و العمل بالمحكم و الإيمان من غير عمل بالمتشابه ما يدل عليه لفظ الآية: فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه، و الراسخون في العلم يقولون ءامنا به كل من عند ربنا، إلا أن الأمرين أعني الإيمان و العمل معا في المحكم و الإيمان فقط في المتشابه لما كانا وظيفتين لكل من آمن بالكتاب كان عليه أن يشخص المحكم و المتشابه قبلا حتى يؤدي وظيفته، و على هذا فلا يكفي معرفة المحكم و المتشابه بهما في تشخيص مصداقهما و هو ظاهر.

الثاني عشر: إن المتشابهات هي آيات الصفات خاصة أعم من صفات الله سبحانه كالعليم و القدير و الحكيم و الخبير و صفات أنبيائه كقوله تعالى في عيسى بن مريم (عليهما السلام): «و كلمته ألقاها إلى مريم و روح منه»: النساء - 171، و ما يشبه ذلك، نسب إلى ابن تيمية.

و فيه: أنه مع تسليم كون آيات الصفات من المتشابهات لا دليل على انحصارها فيها.

و الذي يظهر من بعض كلامه المنقول على طوله أنه يأخذ المحكم و المتشابه بمعناهما اللغوي و هو ما أحكمت دلالته و ما تشابهت احتمالاته و المعنيان نسبيان فربما اشتبهت دلالة آية على قوم كالعامة و علمها آخرون بالبحث و هم العلماء، و هذا المعنى في آيات الصفات أظهر فإنها بحيث تشتبه مراداتها لغالب الناس لكون أفهامهم قاصرة عن الارتقاء إلى ما وراء الحس، فيحسبون ما أثبته الله تعالى لنفسه من العلم و القدرة و السمع و البصر و الرضا و الغضب و اليد و العين و غير ذلك أمورا جسمانية أو معاني ليست بالحق، و تقوم بذلك الفتن، و تظهر البدع، و تنشأ المذاهب، فهذا معنى المحكم و المتشابه، و كلاهما مما يمكن أن يحصل به العلم، و الذي لا يمكن نيله و العلم به هو تأويل المتشابهات بمعنى حقيقة المعاني التي تدل عليها أمثال آيات الصفات، فهب أنا علمنا معنى قوله: إن الله على كل شيء قدير، و إن الله بكل شيء عليم و نحو ذلك لكنا لا ندري حقيقة علمه و قدرته و سائر صفاته و كيفية أفعاله الخاصة به، فهذا هو تأويل المتشابهات الذي لا يعلمها إلا الله تعالى، انتهى ملخصا، و سيأتي ما يتعلق بكلامه من البحث عند ما نتكلم في التأويل إن شاء الله.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي