الميزان في تفسير القرآن

سورة القصص

43 - 56

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)

بيان

سياق الآيات يشهد أن المشركين من قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) راجعوا بعض أهل الكتاب و استفتوهم في أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) و عرضوا عليهم بعض القرآن النازل عليه و هو مصدق للتوراة فأجابوا بتصديقه و الإيمان بما يتضمنه القرآن من المعارف الحقة و أنهم كانوا يعرفونه بأوصافه قبل أن يبعث كما قال تعالى: «و إذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين».

فساء المشركين ذلك و شاجروهم و أغلظوا عليهم في القول و قالوا: إن القرآن سحر و التوراة سحر مثله «سحران تظاهرا» و «إنا بكل كافرون» فأعرض الكتابيون عنهم و قالوا: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين.

هذا ما يلوح إليه الآيات الكريمة بسياقها، و هو سبحانه لما ساق قصة موسى (عليه السلام) و أنبأ أنه كيف أظهر قوما مستضعفين معبدين معذبين يذبح أبناؤهم و تستحيى نساؤهم على قوم عالين مستكبرين طغاة مفسدين بوليد منهم رباه في حجر عدوه الذي يذبح بأمره الألوف من أبنائهم ثم أخرجه لما نشأ من بينهم ثم بعثه و رده إليهم و أظهره عليهم حتى أغرقهم أجمعين و أنجى شعب إسرائيل فكانوا هم الوارثين.

عطف القول على الكتاب السماوي الذي هو المتضمن للدعوة و به تتم الحجة و هو الحامل للتذكرة فذكر أنه أنزل التوراة على موسى (عليه السلام) فيه بصائر للناس و هدى و رحمة لعلهم يتذكرون فينتهون عن معصية الله بعد ما أهلك القرون الأولى بمعاصيهم.

و كذا أنزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) القرآن و قص عليه قصص موسى (عليه السلام) و لم يكن هو شاهدا لنزول التوراة عليه و لا حاضرا في الطور لما ناداه و كلمه، و قص عليه ما جرى بين موسى و شعيب (عليهما السلام) و لم يكن هو ثاويا في مدين يتلو عليهم آياته و لكن أنزله و قص عليه ما قصه رحمة منه لينذر به قوما ما أتاهم من نذير من قبله لأنهم بسبب كفرهم و فسوقهم في معرض نزول العذاب و أصابه المصيبة فلو لم ينزل الكتاب و لم يبلغ الدعوة لقالوا: ربنا لو لا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك و كانت الحجة لهم على الله سبحانه.

فلما جاءهم الحق من عنده ببعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و نزول القرآن قالوا: لو لا أوتي مثل ما أوتي موسى أ و لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل حين راجعوا أهل الكتاب في أمره فصدقوه فقال المشركون: سحران تظاهرا يعنون التوراة و القرآن، و قالوا إنا بكل كافرون.

ثم لقن سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) الحجة عليهم بقوله: «قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين» أي إن من الواجب في حكمة الله أن يكون هناك كتاب نازل من عند الله يهدي إلى الحق و تتم به الحجة على الناس و هم يعرفون فإن لم تكن التوراة و القرآن كتابي هدى و كافيين لهداية الناس فهناك كتاب هو أهدى منهما و ليس كذلك إذ ما في الكتابين من المعارف الحقة مؤيدة بالإعجاز و بدلالة البراهين العقلية.

على أنه ليس هناك كتاب سماوي هو أهدى منهما فالكتابان كتابا هدى و القوم في الإعراض عنهما متبعون للهوى ضالون عن الصراط المستقيم و هو قوله: «فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم» إلخ.

ثم مدح سبحانه قوما من أهل الكتاب راجعهم المشركون في أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و القرآن فأظهروا لهم الإيمان و التصديق و أعرضوا عن لغو القول الذي جبهوهم به.

قوله تعالى: «و لقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس» إلخ اللام للقسم أي أقسم لقد أعطينا موسى الكتاب و هو التوراة بوحيه إليه.

و قوله: «من بعد ما أهلكنا القرون الأولى» أي الأجيال السابقة على نزول التوراة كقوم نوح و من بعدهم من الأمم الهالكة و لعل منهم قوم فرعون، و في هذا التقييد إشارة إلى مسيس الحاجة حينئذ إلى نزول الكتاب لاندراس معالم الدين الإلهي بمضي الماضين و ليشار في الكتاب الإلهي إلى قصصهم و حلول العذاب الإلهي بهم بسبب تكذيبهم لآيات الله ليعتبر به المعتبرون و يتذكر به المتذكرون.

و قوله: «بصائر للناس» جمع بصيرة بمعنى ما يبصره به و كان المراد بها الحجج البينة التي يبصر بها الحق و يميز بها بينه و بين الباطل، و هي حال من الكتاب و قيل: مفعول له.

و قوله: «و هدى» بمعنى الهادي أو ما يهتدى به و كذا قوله: «و رحمة» بمعنى ما يرحم به و هما حالان من الكتاب كبصائر، و قيل: كل منهما مفعول له.

و المعنى: و أقسم لقد أعطينا موسى الكتاب و هو التوراة من بعد ما أهلكنا الأجيال الأولى فاقتضت الحكمة تجديد الدعوة و الإنذار حال كون الكتاب حججا بينة يبصر بها الناس المعارف الحقة و هدى يهتدون به إليها و رحمة يرحمون بسبب العمل بشرائعه و أحكامه لعلهم يتذكرون فيفقهون ما يجب عليهم من الاعتقاد و العمل.

قوله تعالى: «و ما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر و ما كنت من الشاهدين» الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و الغربي صفة محذوفة الموصوف و المراد جانب الوادي الغربي أو جانب الجبل الغربي.

و قوله: «إذ قضينا إلى موسى الأمر» كان القضاء مضمن معنى العهد، و المراد بعهد الأمر إليه - على ما قيل - أحكام أمر نبوته بإنزال التوراة إليه و أما العهد إليه بأصل الرسالة فيدل عليه قوله بعد: «و ما كنت بجانب الطور إذ نادينا» و قوله: «و ما كنت من الشاهدين» تأكيد لسابقه.

و المعنى: و ما كنت حاضرا و شاهدا حين أنزلنا التوراة على موسى في الجانب الغربي من الوادي أو الجبل.

قوله تعالى: «و لكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر» تطاول العمر تمادي الأمد و الجملة استدراك عن النفي في قوله: «و ما كنت بجانب الغربي»، و المعنى: ما كنت حاضرا هناك شاهدا لما جرى فيه و لكنا أوجدنا أجيالا بعده فتمادى بهم الأمد ثم أنزلنا عليك قصته و خبر نزول الكتاب عليه ففي الكلام إيجاز بالحذف لدلالة المقام عليه.

قوله تعالى: «و ما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا و لكنا كنا مرسلين» الثاوي المقيم يقال: ثوى في المكان إذا أقام فيه، و الضمير في «عليهم» لمشركي مكة الذين كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يتلو عليهم آيات الله التي تقص ما جرى على موسى (عليه السلام) في مدين زمن كونه فيه.

و قوله: «و لكنا كنا مرسلين» استدراك من النفي في صدر الآية.

و المعنى: و ما كنت مقيما في أهل مدين - و هم شعيب و قومه - مشاهدا لما جرى على موسى هناك تتلو على المشركين آياتنا القاصة لخبره هناك و لكنا كنا مرسلين لك إلى قومك موحين بهذه الآيات إليك لتتلوها عليهم.

قوله تعالى: «و ما كنت بجانب الطور إذ نادينا و لكن رحمة من ربك» إلى آخر الآية، الظاهر من مقابلة الآية لقوله السابق: «و ما كنت بجانب الغربي إذ قضينا» إلخ، إن المراد بهذا النداء ما كان من الشجرة في الليلة التي آنس فيها من جانب الطور نارا.

و قوله: «و لكن رحمة من ربك» إلخ، استدراك عن النفي السابق، و الظاهر أن «رحمة» مفعول له، و الالتفات عن التكلم بالغير إلى الغيبة في قوله: «من ربك» للدلالة على كمال عنايته تعالى به (صلى الله عليه وآله وسلم).

و قوله: «لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك» الظاهر أن المراد بهذا القوم أهل عصر الدعوة النبوية أو هم و من يقارنهم من آبائهم فإن العرب خلت فيهم رسل منهم كهود و صالح و شعيب و إسماعيل (عليهما السلام).

و المعنى: و ما كنت حاضرا في جانب الطور إذ نادينا موسى و كلمناه و اخترناه للرسالة حتى تخبر عن هذه القصة إخبار الحاضر المشاهد و لكن لرحمة منا أخبرناك بها لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون.

قوله تعالى: «و لو لا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا» إلخ، المراد بما قدمت أيديهم ما اكتسبوه من السيئات من طريق الاعتقاد و العمل بدليل ذيل الآية، و المراد بالمصيبة التي تصيبهم أعم من مصيبة الدنيا و الآخرة فإن الإعراض عن الحق بالكفر و الفسوق يستتبع المؤاخذة الإلهية في الدنيا كما يستتبعها في الآخرة، و قد تقدم بعض الكلام فيه في ذيل قوله: «و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض»: الأعراف: 96 و غيره.

و قوله: «فيقولوا ربنا لو لا أرسلت» متفرع على ما تقدمه على تقديم عدم إرسال الرسول و جواب لو لا محذوف لظهوره و التقدير: لما أرسلنا رسولا.

و محصل المعنى: أنه لو لا أنه تكون لهم الحجة علينا على تقدير عدم إرسال الرسول و أخذهم بالعذاب بما قدمت أيديهم من الكفر و الفسوق لما أرسلنا إليهم رسولا لكنهم يقولون ربنا لو لا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك التي يتلوها علينا و نكون من المؤمنين.

قوله تعالى: «فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لو لا أوتي مثل ما أوتي موسى» إلخ، أي فأرسلنا إليهم الرسول بالحق و أنزلنا الكتاب فلما جاءهم الحق من عندنا و الظاهر أنه الكتاب النازل على الرسول و هو القرآن النازل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و المراد بقولهم: «لو لا أوتي مثل ما أوتي موسى» أي لو لا أوتي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مثل التوراة التي أوتيها موسى (عليه السلام)، و كأنهم يريدون به أن ينزل القرآن جملة واحدة كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: «و قال الذين كفروا لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة»: الفرقان: 32.

و قد أجاب الله عن قولهم بقوله: «أ و لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا» يعنون القرآن و التوراة «و قالوا إنا بكل كافرون».

و الفرق بين القولين أن الأول كفر بالكتابين و الثاني كفر بأصل النبوة و لعله الوجه لتكرار «قالوا» في الكلام.

قوله تعالى: «قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين» تفريع على كون القرآن و التوراة سحرين تظاهرا، و لا يصح هذا التفريع إلا إذا كان من الواجب أن يكون بين الناس كتاب من عند الله سبحانه يهديهم و يجب عليهم اتباعه فإذا كانا سحرين باطلين كان الحق غيرهما، و هو كذلك على ما تبين بقوله: «و لو لا أن تصيبهم مصيبة» إلخ، إن للناس على الله أن ينزل عليهم الكتاب و يرسل إليهم الرسول، و لذلك أمر تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يطالبهم بكتاب غيرهما هو أهدى منهما ليتبعه.

ثم الكتابان لو كانا سحرين تظاهرا كانا باطلين مضلين لا هدى فيهما حتى يكون غيرهما من الكتاب الذي يأتون به أهدى منهما - لاستلزام صيغة التفضيل اشتراك المفضل و المفضل عليه في أصل الوصف - لكن المقام لما كان مقام المحاجة ادعى أن الكتابين هاديان لا مزيد عليهما في الهداية فإن لم يقبل الخصم ذلك فليأت بكتاب يزيد عليهما في معنى ما يشتملان عليه من بيان الواقع فيكون أهدى منهما.

و القرآن الكريم و إن كان يصرح بتسرب التحريف و الخلل في التوراة الحاضرة و ذلك لا يلائم عدها كتاب هدى بقول مطلق لكن الكلام في التوراة الواقعية النازلة على موسى (عليه السلام) و هي التي يصدقها القرآن.

على أن موضوع الكلام هما معا و القرآن يقوم التوراة الحاضرة ببيان ما فيها من الخلل فهما معا هدى لا كتاب أهدى منهما.

و قوله: «إن كنتم صادقين» أي في دعوى أنهما سحران تظاهرا.

قوله تعالى: «فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم» إلى آخر الآية، الاستجابة و الإجابة بمعنى واحد، قال في الكشاف: هذا الفعل يتعدى إلى الدعاء بنفسه و إلى الداعي باللام، و يحذف الدعاء إذا عدي إلى الداعي في الغالب فيقال: استجاب الله دعاءه أو استجاب له، و لا يكاد يقال: استجاب له دعاءه.

انتهى.

فقوله: «فإن لم يستجيبوا لك» تفريع على قوله: «قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه» أي فإن قلت لهم كذا و كلفتهم بذلك فلم يأتوا بكتاب هو أهدى من القرآن و التوراة و تعين أن لا هدى أتم و أكمل من هداهما و هم مع ذلك يرمونها بالسحر و يعرضون عنهما فاعلم أنهم ليسوا في طلب الحق و لا بصدد اتباع ما هو صريح حجة العقل و إنما يتبعون أهواءهم و يدافعون عن مشتهيات طباعهم بمثل هذه الأباطيل: «سحران تظاهرا» «إنا بكل كافرون».

و يمكن أن يكون المراد بقوله: «إنما يتبعون أهواءهم» إنهم إن لم يأتوا بكتاب هو أهدى منهما و هم غير مؤمنين بهما فاعلم أنهم إنما يبنون سنة الحياة على اتباع الأهواء و لا يعتقدون بأصل النبوة و أن لله دينا سماويا نازلا عليهم من طريق الوحي و عليهم أن يتبعوه و يسلكوا مسلك الحياة بهدى ربهم، و ربما أيد هذا المعنى قوله بعد: «و من أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله» إلخ.

و قوله: «و من أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله» استفهام إنكاري و المراد به استنتاج أنهم ضالون، و قوله: «إن الله لا يهدي القوم الظالمين» تعليل لكونهم ضالين باتباع الهوى فإن اتباع الهوى إعراض عن الحق و انحراف عن صراط الرشد و ذلك ظلم و الله لا يهدي القوم الظالمين و غير المهتدي هو الضال.

و محصل الحجة أنهم إن لم يأتوا بكتاب هو أهدى منهما و ليسوا مؤمنين بهما فهم متبعون للهوى، و متبع الهوى ظالم و الظالم غير مهتد و غير المهتدي ضال فهم ضالون.

قوله تعالى: «و لقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون» التوصيل تفعيل من الوصل يفيد التكثير كالقطع و التقطيع و القتل و التقتيل، و الضمير لمشركي مكة و المعنى أنزلنا عليهم القرآن موصولا بعضه ببعض: الآية بعد الآية، و السورة إثر السورة من وعد و وعيد و معارف و أحكام و قصص و عبر و حكم و مواعظ لعلهم يتذكرون.

قوله تعالى: «الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون» الضميران للقرآن و قيل: للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و الأول أوفق للسياق، و في الآية و ما بعدها مدح طائفة من مؤمني أهل الكتاب بعد ما تقدم في الآيات السابقة من ذم المشركين من أهل مكة.

و سياق ذيل الآيات يشهد على أن هؤلاء الممدوحين طائفة خاصة من أهل الكتاب آمنوا به فلا يعبأ بما قيل إن المراد بهم مطلق المؤمنين منهم.

قوله تعالى: «و إذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا» إلخ، ضمائر الإفراد للقرآن، و اللام في «الحق» للعهد و المعنى و إذا يقرأ القرآن عليهم قالوا: آمنا به إنه الحق الذي نعهده من ربنا فإنه عرفناه من قبل.

و قوله: «إنا كنا من قبله مسلمين» تعليل لكونه حقا معهودا عندهم أي إنا كنا من قبل نزوله مسلمين له أو مؤمنين للدين الذي يدعو إليه و يسميه إسلاما.

و قيل: الضميران للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و ما تقدم أوفق للسياق، و كيف كان فهم يعنون بذلك ما قرءوه في كتبهم من أوصاف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الكتاب النازل عليه كما يشير إليه قوله تعالى: «الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل»: الأعراف: 157، و قوله: «أ و لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل»: الشعراء: 197.

قوله تعالى: «أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا و يدرءون بالحسنة السيئة» إلخ في الآية وعد جميل لهم على ما فعلوا و مدح لهم على حسن سلوكهم و مداراتهم مع جهلة المشركين و لذا كان الأقرب إلى الفهم أن يكون المراد بإيتائهم أجرهم مرتين إيتاؤهم أجر الإيمان بكتابهم و أجر الإيمان بالقرآن و صبرهم على الإيمان بعد الإيمان بما فيهما من كلفة مخالفة الهوى.

و قيل: المراد إيتاؤهم الأجر بما صبروا على دينهم و على أذى الكفار و تحمل المشاق و قد عرفت ما يؤيده السياق.

و قوله: «و يدرءون بالحسنة السيئة» إلخ الدرء الدفع، و المراد بالحسنة و السيئة قيل: الكلام الحسن و الكلام القبيح، و قيل: العمل الحسن و السيىء و هما المعروف و المنكر، و قيل: الخلق الحسن و السيىء و هما الحلم و الجهل، و سياق الآيات أوفق للمعنى الأخير فيرجع المعنى إلى أنهم يدفعون أذى الناس عن أنفسهم بالمدارأة، و الباقي ظاهر.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي