الميزان في تفسير القرآن

سورة النمل

59 - 81

قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (64) قُل لّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ (66) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ (81)

بيان

انتقال من القصص التي قصها سبحانه و هي نماذج من سنته الجارية في النوع الإنساني من حيث هدايته و إراءته لهم طريق سعادتهم في الحياة و إكرامه من اهتدى منهم إلى الصراط المستقيم بالاصطفاء و عظيم الآلاء و أخذه من أشرك به و أعرض عن ذكره و مكر به بعذاب الاستئصال و أليم النكال.

إلى حمده و السلام على عباده المصطفين و تقرير أنه هو المستحق للعبودية دون غيره مما يشركون ثم سرد الحديث في التوحيد و إثبات المعاد و ما يناسب ذلك من

متفرقات المعارف الحقة فسياق آيات السورة شبيه بما في سورة مريم من السياق على ما مر.

قوله تعالى: «قل الحمد لله و سلام على عباده الذين اصطفى ء آلله خير أما يشركون» لما قص من قصص الأنبياء و أممهم ما قص و فيها بيان سنته الجارية في الأمم الماضين و ما فعل بالمؤمنين منهم من الاصطفاء و مزيد الإحسان كما في الأنبياء منهم و ما فعل بالكافرين من العذاب و التدمير - و لم يفعل إلا الخير الجميل و لا جرت سنته إلا على الحكمة البالغة - انتقل منها إلى أمر نبيه بأن يحمده و يثني عليه و أن يسلم على المصطفين من عباده و قرر أنه تعالى هو المتعين للعبادة.

فهو انتقال من القصص إلى التحميد و التسليم و التوحيد و ليس باستنتاج و إن كان في حكمه و إلا قيل: فقل الحمد لله «إلخ» أو فالله خير «إلخ».

فقوله: «قل الحمد لله» أمر بتحميده و فيه إرجاع كل حمد إليه تعالى لما تقرر بالآيات السابقة أن مرجع كل خلق و تدبير إليه و هو المفيض كل خير بحكمته و الفاعل لكل جميل بقدرته.

و قوله: «و سلام على عباده الذين اصطفى» معطوف على ما قبله من مقول القول و في التسليم لأولئك العباد المصطفين نفي كل ما في نفس المسلم من جهات التمانع و التضاد لما عندهم من الهداية الإلهية و آثارها الجميلة - على ما يقتضيه معنى السلام - ففي الأمر بالسلام أمر ضمني بالتهيؤ لقبول ما عندهم من الهدى و آثاره فهو بوجه في معنى قوله تعالى: «أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده»: الأنعام: 90، فافهمه.

و قوله: «ء آلله خير أما يشركون» من تمام الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الاستفهام للتقرير و محصل المراد أنه إذا كان الثناء كله لله و هو المصطفى لعباده المصطفين فهو خير من آلهتهم الذين يعبدونهم و لا خلق و لا تدبير لهم يحمدون عليه و لا خير بأيديهم يفيضونه على عبادهم.

قوله تعالى: «أمن خلق السماوات و الأرض و أنزل لكم من السماء ماء» إلى آخر الآية، الحدائق جمع حديقة و هي البستان المحدود المحوط بالحيطان و ذات بهجة صفة حدائق، قال في مجمع البيان:، ذات بهجة أي ذات منظر حسن يبتهج به من رآه و لم يقل: ذوات بهجة لأنه أراد تأنيث الجماعة و لو أراد تأنيث الأعيان لقال:

ذوات.

انتهى.

و أم في الآية منقطعة تفيد معنى الإضراب، و «من» مبتدأ خبره محذوف و كذا الشق الآخر من الترديد و الاستفهام للتقرير و حملهم على الإقرار بالحق و التقدير على ما يدل عليه السياق بل أمن خلق السماوات و الأرض «إلخ» خير أم ما يشركون.

و الأمر على هذا القياس في الآيات الأربع التالية.

و معنى الآية: بل أمن خلق السماوات و الأرض و أنزل لكم أي لنفعكم من السماء و هي جهة العلو ماء و هو المطر فأنبتنا به أي بذلك الماء بساتين ذات بهجة و نضارة ما كان لكم أي لا تملكون و ليس في قدرتكم أن تنبتوا شجرها أ إله آخر مع الله سبحانه - و هو إنكار و توبيخ.

و في الآية التفات من الغيبة إلى الخطاب بالنسبة إلى المشركين و النكتة فيه تشديد التوبيخ بتبديل الغيبة حضورا فإن مقام الآيات السابقة على هذه الآية مقام التكلم ممن يخاطب أحد خواصه بحضرة من عبيده المتمردين المعرضين عن عبوديته يبث إليه الشكوى و هو يسمعهم حتى إذا تمت الحجة و قامت البينة كما في قوله: «ء آلله خير أما يشركون» هاج به الوجد و الأسف فتوجه إليهم بعد الإعراض فأخذ في حملهم على الإقرار بالحق بذكر آية بعد آية و إنكار شركهم و توبيخهم عليه بعدولهم عنه إلى غيره و عدم علم أكثرهم و قلة تذكرهم مع تعاليه عن شركهم و عدم برهان منهم على ما يدعون.

و قوله: «بل هم قوم يعدلون» أي عن الحق إلى الباطل و عن الله سبحانه إلى غيره و قيل: أي يعدلون بالله غيره و يساوون بينهما.

و في الجملة التفات من الخطاب إلى الغيبة بالنسبة إلى المشركين و رجوع إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الإضراب فيه لبيان أن لا جدوى للسير في حملهم على الحق فإنهم عادلون عنه.

قوله تعالى: «أمن جعل الأرض قرارا» إلى آخر الآية، القرار مصدر بمعنى اسم الفاعل أي القار المستقر، و الخلال جمع خلل بفتحتين و هو الفرجة بين الشيئين، و الرواسي جمع راسية و هي الثابتة و المراد بها الجبال الثابتات، و الحاجز هو المانع

المتخلل بين الشيئين.

و المعنى: بل أمن جعل الأرض مستقرة لا تميد بكم، و جعل في فرجها التي في جوفها أنهارا و جعل لها جبالا ثابتة و جعل بين البحرين مانعا من اختلاطهما و امتزاجهما هو خير أم ما يشركون؟ و الكلام في قوله: «أ ءله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون» كالكلام في نظيره من الآية السابقة.

قوله تعالى: «أمن يجيب المضطر إذا دعاه و يكشف السوء و يجعلكم خلفاء الأرض أ ءله مع الله قليلا ما تذكرون» المراد بإجابة المضطر إذا دعاه استجابة دعاء الداعين و قضاء حوائجهم و إنما أخذ وصف الاضطرار ليتحقق بذلك من الداعي حقيقة الدعاء و المسألة إذ ما لم يقع الإنسان في مضيقة الاضطرار و كان في مندوحة من المطلوب لم يتمحض منه الطلب و هو ظاهر.

ثم قيده بقوله: «إذا دعاه» للدلالة على أن المدعو يجب أن يكون هو الله سبحانه و إنما يكون ذلك عند ما ينقطع الداعي عن عامة الأسباب الظاهرية و يتعلق قلبه بربه وحده و أما من تعلق قلبه بالأسباب الظاهرية فقط أو بالمجموع من ربه و منها فليس يدعو ربه و إنما يدعو غيره.

فإذا صدق في الدعاء و كان مدعوه ربه وحده فإنه تعالى يجيبه و يكشف السوء الذي اضطره إلى المسألة كما قال تعالى: «ادعوني أستجب لكم»: المؤمن: 60، فلم يشترط للاستجابة إلا أن يكون هناك دعاء حقيقة و أن يكون ذلك الدعاء متعلقا به وحده، و قال أيضا: «و إذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان»: البقرة: 186، و قد فصلنا القول في معنى الدعاء في الجزء الثاني من الكتاب في ذيل الآية.

و بما مر من البيان يظهر فساد قول بعضهم إن اللام في «المضطر» للجنس دون الاستغراق فكم من مضطر يدعو فلا يجاب فالمراد إجابة دعاء المضطر في الجملة لا بالجملة.

وجه الفساد أن مثل قوله: «ادعوني أستجب لكم» و قوله: «فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان» يأبى تخلف الدعاء عن الاستجابة، و قوله: كم من مضطر يدعو

فلا يجاب، غير مسلم إذا كان دعاء حقيقة لله سبحانه وحده كما تقدم بيانه.

على أن هناك آيات كثيرة تدل على أن الإنسان يتوجه عند الاضطرار كركوب السفينة نحو ربه فيدعوه بالإخلاص فيستجاب له كقوله تعالى: «و إذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما الآية،: يونس: 12، و قوله: «حتى إذا كنتم في الفلك إلى قوله و ظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين»: يونس: 22، و كيف يتصور تعلق النفس بتوجهها الغريزي الفطري بأمر لا اطمئنان لها به فما قضاء الفطرة في ذلك إلا كقضائها عند إدراك حاجتها الوجودية إلى من يوجدها و يدبر أمرها أن هناك أمرا يرفع حاجتها و هو الله سبحانه.

فإن قلت: نحن كثيرا ما نتوسل في حوائجنا من الأسباب الظاهرية بما لا نقطع بفعلية تأثيره في رفع حاجتنا و إنما نتعلق به رجاء أن ينفعنا إن نفع.

قلت: هذا توسل فكري مبدؤه الطمع و الرجاء و هو غير التوسل الغريزي الفطري نعم في ضمنه نوع من التوجه الغريزي الفطري و هو التسبب بمطلق السبب و مطلق السبب لا يتخلف، فافهم.

و ظهر أيضا فساد قول من قال: المراد بالمضطر إذا دعاه المذنب إذا استغفره فإن الله يغفر له و هو إجابته.

و فيه أن إشكال الاستغراق بحاله فما كل استغفار يستتبع المغفرة و لا كل مستغفر يغفر له.

على أنه لا دليل على تقييد إطلاق المضطر بالمذنب العاصي.

و ذكر بعضهم: أن الاستغراق بحاله لكن ينبغي تقييد الإجابة بالمشية كما وقع ذلك في قوله تعالى: «فيكشف ما تدعون إليه إن شاء»: الأنعام: 41.

و فيه أن الآية واقعة في سياق لا تصلح معه لتقييد الإجابة في آية المضطر و هو قوله تعالى: «قل أ رأيتم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أ غير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء» فالساعة من القضاء المحتوم لا يتعلق بكشفها طلب حقيقي، و أما العذاب الإلهي فإن طلب كشفه بتوبة و إيمان حقيقي فإن الله يكشفه كما كشف عن قوم يونس و إن لم يكن كذلك بل احتيالا للنجاة منه فلا لعدم كونه طلبا حقيقيا بل مكرا في صورة الطلب كما حكاه الله عن فرعون لما

أدركه الغرق «قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل و أنا من المسلمين ء الآن و قد عصيت قبل و كنت من المفسدين: يونس»: 91، و حكى عن أقوام آخرين أخذهم بالعذاب: «قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين»: الأنبياء: 15.

و بالجملة فمورد قوله: «فيكشف ما تدعون إليه إن شاء» لما كان مما يمكن أن يكون الطلب فيه حقيقيا أو غير حقيقي كان من اللازم تقييد الكشف و الإجابة فيه بالمشية فيكشف الله عنهم إن شاء و ذلك في مورد حقيقة الطلب و الإيمان و لا يكشف إن لم يشأ و هذا غير مورد آية المضطر و سائر آيات إجابة الدعوة الذي يتضمن حقيقة الدعاء من الله سبحانه وحده.

و قوله: «و يجعلكم خلفاء الأرض» الذي يعطيه السياق أن يكون المراد بالخلافة الخلافة الأرضية التي جعلها الله للإنسان يتصرف بها في الأرض و ما فيها من الخليقة كيف يشاء كما قال تعالى: «و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة»: البقرة: 30.

و ذلك أن تصرفاته التي يتصرف بها في الأرض و ما فيها بخلافته أمور مرتبطة بحياته متعلقة بمعاشه فالسوء الذي يوقعه موقع الاضطرار و يسأل الله كشفه لا محالة شيء من الأشياء التي تمنعه التصرف أو بعض التصرف فيها و تغلق عليه باب الحياة و البقاء و ما يتعلق بذلك أو بعض أبوابها ففي كشف السوء عنه تتميم لخلافته.

و يتضح هذا المعنى مزيد اتضاح لو حمل الدعاء و المسألة في قوله: «إذا دعاه» على الأعم من الدعاء اللساني كما هو الظاهر من قوله تعالى: «و آتاكم من كل ما سألتموه و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها»: إبراهيم: 34، و قوله: «يسأله من في السماوات و الأرض»: الرحمن: 29، إذ يكون على هذا جميع ما أوتي الإنسان و رزقه من التصرفات من مصاديق كشف السوء عن المضطر المحتاج إثر دعائه فجعله خليفة يتبع إجابة دعائه و كشف السوء الذي اضطره عنه.

و قيل: المعنى و يجعلكم خلفاء من قبلكم من الأمم في الأرض تسكنون مساكنهم و تتصرفون فيها بعدهم هذا.

و ما قدمناه من المعنى أنسب منه للسياق.

و قيل: المعنى: و يجعلكم خلفاء من الكفار بنزول بلادهم و طاعة الله تعالى بعد شركهم و عنادهم.

و فيه أن الخطاب في الآية كسائر الآيات الخمس التي قبلها للكفار لا للمؤمنين كما عليه بناء الوجه.

و قوله: «قليلا ما تذكرون» خطاب توبيخي للكفار و قرىء «يذكرون» بالياء للغيبة و هو أرجح لموافقته ما في ذيل سائر الآيات الخمس كقوله: «بل هم قوم يعدلون» «بل أكثرهم لا يعلمون» و غيرهما، فإن الخطاب فيها جميعا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بطريق الالتفات كما مر بيانه.

قوله تعالى: «أمن يهديكم في ظلمات البر و البحر و من يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته» إلخ، و المراد بظلمات البر و البحر ظلمات الليالي في البر و البحر ففيه مجاز عقلي، و المراد بإرسال الرياح بشرا إرسالها مبشرات بالمطر قبيل نزوله و الرحمة المطر، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: «أمن يبدأ الخلق ثم يعيده و من يرزقكم من السماء و الأرض» إلخ، بدء الخلق إيجاده ابتداء لأول مرة و إعادته إرجاعه إليه بالبعث و تبكيت المشركين بالبدء و الإعادة مع إنكارهم البعث كما سيذكره بقوله: «و قال الذين كفروا» إلخ، بناء على ثبوت المعاد بالأدلة القاطعة في كلامه فأخذ كالمسلم ثم استدرك إنكارهم له أو شكهم فيه في الآيات التالية.

و قيل: المراد ببدء الخلق ثم إعادته إيجاد الواحد من نوعه ثم إهلاكه و إيجاد نظيره بعده و بالجملة إيجاد المثل بعد المثل فلا يرد أن المشركين منكرون للمعاد فكيف يحتج به عليهم.

هذا و هو بعيد من ظاهر الآية.

و ما تتضمنه الآية من لطائف الحقائق القرآنية يفيد أن لا بطلان في الوجود مطلقا بل ما أوجده الله تعالى بالبدء سيرجع إليه بالإعادة و ما نشاهده من الهلاك فيها فقدان منا له بعد وجدانه.

و أما ما أجمع عليه المتكلمون من امتناع إعادة المعدوم في بعض الموجودات كالأعراض و اختلفوا في جواز إعادة بعض آخر كالجواهر، لا ارتباط له بمسألة البعث على ما تقرره الآية، فإن البعث ليس من باب إعادة المعدوم حتى يمتنع بامتناع إعادته

لو امتنعت بل البعث عود الخلق و رجوعه و هو خلق من غير بطلان إلى ربه المبدىء له.

و قوله: «و من يرزقكم من السماء و الأرض» إشارة إلى ما وقع من تدبيره لأمرهم بين البدء و العود و هو رزقهم بأسباب سماوية كالأمطار و أسبابها و الأرضية كعامة ما يتغذى به الإنسان من الأرضيات.

و قوله: «قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين» لما ذكر سبحانه فصولا مشتملة على عامة الخلق و التدبير مع الإشارة إلى ارتباط التدبير بعضه ببعض و ارتباط الجميع إلى الخلق و عاد الخلق و التدبير بذلك أمرا واحدا منتسبا إليه قائما به تعالى و أثبت بذلك أنه تعالى هو رب كل شيء وحده لا شريك له و كان لازم ذلك إبطال ألوهية الآلهة التي يدعونها من دون الله.

- و ذلك أن الألوهية و هي استحقاق العبادة تتبع الربوبية التي هي تدبير عن ملك فالعبادة على ما يتداولونها إما لتكون شكرا للنعمة أو اتقاء للنقمة و على أي حال ترتبط بالتدبير الذي هو من شئون الربوبية -.

- و كان إبطال ألوهية الآلهة من دون الله هو الغرض من الفصول الموردة في هذه الآيات كما يدل على ذلك قوله بعد إيراد كل واحد من الفصول: «أ ءله مع الله».

أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: «قل هاتوا برهانكم» أن يطالبهم بالبرهان على ما يدعونه من ألوهية آلهتهم ليظهر بانقطاعهم أنهم مجازفون في دعواهم إذ لو استدلوا على ألوهيتها بشيء كان من الواجب أن ينسبوا إليها شيئا من تدبير العالم و الحال أن جميع الخلق و التدبير له تعالى وحده.

قوله تعالى: «قل لا يعلم من في السماوات و الأرض الغيب إلا الله و ما يشعرون أيان يبعثون» لما أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد إبطال ألوهية آلهتهم بانتساب الخلق و التدبير إليه تعالى وحده أن يطالبهم بالبرهان على ما يدعونه أمره ثانيا أن يواجههم ببرهان آخر على بطلان ألوهية آلهتهم و هو عدم علمهم بالغيب و عدم شعورهم بالساعة و أنهم أيان يبعثون مع أنه لا يعلم أحد ممن في السماوات و الأرض - و منهم آلهتهم الذين هم الملائكة

و الجن و قديسو البشر - الغيب و ما يشعرون أيان يبعثون، و لو كانوا آلهة لهم تدبير أمر الخلق - و من التدبير الجزاء يوم البعث - لعلموا بالساعة.

و قد ظهر بهذا البيان أن قوله: «لا يعلم من في السماوات و الأرض الغيب إلا الله» برهان مستقل على بطلان ألوهية آلهتهم و اختصاص الألوهية به تعالى وحده و أن قوله: «و ما يشعرون أيان يبعثون» من عطف أوضح أفراد الغيب عليه و أهمها علما بالنسبة إلى أمر التدبير.

و ظهر أيضا أن ضميري الجمع في «و ما يشعرون أيان يبعثون» لمن في السماوات لعدم تمام البيان بدونه.

فقول بعضهم: إن الضمير للمشركين و إن كان عدم الشعور بما ذكر عاما لئلا يلزم التفكيك بينه و بين الضمائر الآتية الراجعة إليهم قطعا.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي