الميزان في تفسير القرآن

سورة النور

47 - 57

وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ (48) وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لّا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)

بيان

تتضمن الآيات افتراض طاعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) و أنها لا تفارق طاعة الله تعالى، و وجوب الرجوع إلى حكمه و قضائه و أن الإعراض عنه آية النفاق، و تختتم بوعد جميل للصالحين من المؤمنين و إيعاد للكافرين.

قوله تعالى: «و يقولون آمنا بالله و بالرسول و أطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك «إلخ، بيان حال بعض المنافقين حيث أظهروا الإيمان و الطاعة أولا ثم تولوا ثانيا فالإيمان بالله هو العقد على توحيده و ما شرع من الدين، و الإيمان بالرسول هو العقد على كونه رسولا مبعوثا من عند ربه أمره أمره و نهيه نهيه و حكمه حكمه من غير أن يكون له من الأمر شيء، و طاعة الله هي تطبيق العمل بما شرعه، و طاعة الرسول الايتمار و الانتهاء عند أمره و نهيه و قبول ما حكم به و قضى عليه.

فالإيمان بالله و طاعته موردهما نفس الدين و التشرع به، و الإيمان بالرسول و طاعته موردهما ما أخبر به الرسول من الدين بما أنه يخبر به و ما حكم به و قضى عليه في المنازعات و الانقياد له في ذلك كله.

فبين الإيمانين و الطاعتين فرق ما من حيث سعة المورد و ضيقه، و يشير إلى ذلك ما في العبارة من نوع من التفصيل حيث قيل: «آمنا بالله و بالرسول» فأشير إلى تعدد الإيمان و الطاعة و لم يقل: آمنا بالله و الرسول بحذف الباء، و الإيمانان مع ذلك متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، قال تعالى: «و يريدون أن يفرقوا بين الله و رسله»: النساء: 150.

فقوله: «و يقولون آمنا بالله و بالرسول و أطعنا» أي عقدنا القلوب على دين الله و تشرعنا به و على أن الرسول لا يخبر إلا بالحق و لا يحكم إلا بالحق.

و قوله: «ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك» أي ثم يعرض طائفة من هؤلاء القائلين: «آمنا بالله و بالرسول و أطعنا» عن مقتضى قولهم من بعد ما قالوا ذلك.

و قوله: «و ما أولئك بالمؤمنين أي ليس أولئك القائلون بالمؤمنين، و المشار إليه باسم الإشارة القائلون جميعا لا خصوص الفريق المتولين على ما يعطيه السياق لأن الكلام مسوق لذم الجميع.

قوله تعالى: «و إذا دعوا إلى الله و رسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون» يشهد سياق الآية أن الآيات إنما نزلت في بعض من المنافقين دعوا إلى حكم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في منازعة وقعت بينه و بين غيره فأبى الرجوع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و في ذلك نزلت الآيات.

و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما كان يحكم بينهم بحكم الله على ما أراه الله كما قال تعالى: «إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله: النساء: 105.

فللحكم نسبة إليه بالمباشرة و نسبة إلى الله سبحانه من حيث كان الحكم في ضوء شريعته و بنصبه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للحكم و القضاء.

و بذلك يظهر أن المراد بالدعوة إلى الله ليحكم بينهم هي الدعوة إلى المتابعة لما يقتضيه شرعه تعالى في مورد النزاع، و بالدعوة إلى رسوله ليحكم بينهم هي الدعوة إلى متابعة ما يقضى عليه بالمباشرة، و أن الظاهر أن ضمير «ليحكم» للرسول، و إنما أفرد الفاعل و لم يثن إشارة إلى أن حكم الرسول حكمه تعالى.

و الآية بالنسبة إلى الآية السابقة كالخاص بالنسبة إلى العام فهي تقص إعراضنا معينا منهم و الإعراض المذكور في الآية السابقة منهم إعراض مطلق.

قوله تعالى: «و إن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين» الإذعان الانقياد، و ظاهر السياق و خاصة قوله: «يأتوا إليه» أن المراد بالحق حكم الرسول بدعوى أنه حق لا ينفك عنه، و المعنى و إن يكن الحق الذي هو حكم الرسول لهم لا عليهم يأتوا إلى حكمه منقادين فليسوا بمعرضين عنه إلا لكونه عليهم لا لهم، و لازم ذلك أنهم يتبعون الهوى و لا يريدون اتباع الحق.

قوله تعالى: «أ في قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم و رسوله» إلى آخر الآية.

الحيف الجور.

و ظاهر سياق الآيات أن المراد بمرض القلوب ضعف الإيمان كما في قوله تعالى: «فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض»: الأحزاب: 32، و قوله: «لئن لم ينته المنافقون و الذين في قلوبهم مرض و المرجفون في المدينة لنغرينك بهم»: الأحزاب: 60، و غير ذلك من الآيات.

و أما كون المراد بمرض القلوب النفاق كما فسر به فيدفعه قوله في صدر الآيات: «و ما أولئك بالمؤمنين» فإنه حكم بنفاقهم، و لا معنى مع إثبات النفاق للاستفهام عن النفاق ثم الإضراب عنه بقوله: «بل أولئك هم الظالمون».

و قوله: «أم ارتابوا» ظاهر إطلاق الارتياب و هو الشك أن يكون المراد هو

شكهم في دينهم بعد الإيمان دون الشك في صلاحية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للحكم أو عدله و نحو ذلك لكونها بحسب الطبع محتاجة إلى بيان بنصب قرينة.

و قوله: «أم يخافون أن يحيف الله عليهم و رسوله» أي أم يعرضون عن ذلك لأنهم يخافون أن يجور الله عليهم و رسوله لكون الشريعة الإلهية التي يتبعها حكم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مبنية على الجور و إماتة الحقوق الحقة، أو لكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يراعي الحق في قضائه.

و قوله: «بل أولئك هم الظالمون» إضراب عن الترديد السابق بشقوقه الثلاثة و ذلك أن سبب إعراضهم لو كان مرض قلوبهم أو ارتيابهم لم يأتوا إليه مذعنين على تقدير كون الحق لهم بل كانوا يعرضون كان الحق لهم أو عليهم، و أما الخوف من أن يحيف الله عليهم و رسوله فلا موجب له فالله بريء من الحيف و رسوله فليس إعراضهم عن إجابة الدعوة إلى حكم الله و رسوله إلا لكونهم حق عليهم أنهم ظالمون.

و الظاهر أن المراد بالظلم التعدي عن طور الإيمان مع الإقرار به قولا كما قال آنفا: «و ما أولئك بالمؤمنين» أو خصوص التعدي إلى الحقوق غير المالية، و لو كان المراد مطلق الظلم لم يصح الإضراب عن الشقوق الثلاثة السابقة إليه لأنها من مطلق الظلم و يدل عليه أيضا الآية التالية.

و قد بان بما تقدم أن الترديد في أسباب الإعراض على تقدير عدم النفاق بين الأمور الثلاثة حاصر و الأقسام متغايرة فإن محصل المعنى أنهم منافقون غير مؤمنين إذ لو لم يكونوا كذلك كان إعراضهم إما لضعف إيمانهم و إما لزواله بالارتياب و إما للخوف من غير سبب يوجبه فإن الخوف من الرجوع إلى حكم الحاكم إنما يكون إذا احتمل حيفه في حكمه و ميله عن الحق إلى الباطل و لا يحتمل ذلك في حكم الله و رسوله.

و قد طال البحث في كلامهم عما في الآية من الترديد و الإضراب و لعل فيما ذكرناه كفاية، و من أراد أزيد من ذلك فليراجع المطولات.

قوله تعالى: «إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله و رسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا و أطعنا» إلى آخر الآية سياق قوله: «إنما كان قول المؤمنين» و قد أخذ فيه «كان» و وصف الإيمان في «المؤمنين» يدل على أن ذلك من مقتضيات طبيعة

الإيمان فإن مقتضى الإيمان بالله و رسوله و عقد القلب على اتباع ما حكم به الله و رسوله التلبية للدعوة إلى حكم الله و رسوله دون الرد.

و على هذا فالمراد بقوله: «إذا دعوا إلى الله و رسوله ليحكم بينهم» دعوة بعض الناس ممن ينازعهم كدعوة بعض المتنازعين المتخاصمين الآخر إلى التحاكم إلى الله و رسوله ليحكم بينهم، و يدل عليه تصدير الجملة بلفظة «إذا» و لو كان المراد به دعوة الله و رسوله بمعنى إيجاب رجوع المؤمنين في منازعاتهم إلى حكم الله و رسوله كان ذلك حكما مؤبدا لا حاجة فيه إلى التقييد بالزمان.

و بذلك يظهر ضعف ما قيل: إن فاعل «دعوا» المحذوف هو الله و رسوله، و المعنى: إذا دعاهم الله و رسوله.

نعم مرجع الدعوة بآخره إلى دعوة الله و رسوله.

و كيف كان تقصر الآية قول المؤمنين على تقدير الدعوة إلى حكم الله و رسوله في قولهم: سمعنا و أطعنا و هو سمع و طاعة للدعوة الإلهية سواء فرض الداعي هو أحد المتنازعين للآخر أو فرض الداعي هو الله و رسوله أو كان المراد هو السمع و الطاعة لحكم الله و رسوله و إن كان بعيدا.

و انحصار قول المؤمنين عند الدعوة في «سمعنا و أطعنا» يوجب كون الرد للدعوة ليس من قول المؤمنين فيكون تعديا عن طور الإيمان، كما يفيده قوله: «بل أولئك هم الظالمون» على ما تقدم، فتكون الآية في مقام التعليل للإضراب في ذيل الآية السابقة.

و قد ختمت الآية بقوله: «و أولئك هم المفلحون» و فيه قصر الفلاح فيهم لا قصرهم في الفلاح.

قوله تعالى: «و من يطع الله و رسوله و يخش الله و يتقه فأولئك هم الفائزون» ورود الآية في سياق الآيات السابقة و انضمامها إلى سابقتها يعطي أنها في مقام التعليل - كالكبرى الكلية - للآية السابقة حيث حكمت بفلاح من أجاب الدعوة إلى حكم الله و رسوله بالسمع و الطاعة بقيد الإيمان كأنه قيل: إنما أفلح من أجاب إلى حكم الله و رسوله و هو مؤمن لأنه مطيع لله و لرسوله و هو مؤمن حقا في باطنه خشية الله و في

ظاهره تقواه و من يطع الله و رسوله فيما قضي عليه و يخش الله و يتقه فأولئك هم الفائزون، و الفوز هو الفلاح.

و تشمل الآية الداعي إلى حكم الله و رسوله من المتنازعين كما يشمل المدعو منهما إذا أجاب بالسمع و الطاعة ففيها زيادة على تعليل حكم الآية السابقة تعميم الوعد الحسن للداعي و المدعو جميعا.

قوله تعالى: «و أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة» إلى آخر الآية الجهد الطاقة، و التقدير في قوله: «أقسموا بالله جهد أيمانهم» أقسموا بالله مبلغ جهدهم في أيمانهم و المراد أقسموا بأغلظ أيمانهم.

و الظاهر أن المراد بقوله: «ليخرجن» الخروج إلى الجهاد على ما وقع في عدة من الآيات كقوله: «و لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة و لكن كره الله انبعاثهم فثبطهم و قيل اقعدوا مع القاعدين لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا»: التوبة: 47.

و قوله: «قل لا تقسموا» نهي عن الإقسام، و قوله: «طاعة معروفة خبر لمبتدإ محذوف هو الضمير الراجع إلى الخروج و الجملة في مقام التعليل للنهي عن الإقسام و لذا جيء بالفصل، و قوله: «إن الله خبير بما تعملون» من تمام التعليل.

و معنى الآية: و أقسموا بالله بأغلظ أيمانهم لئن أمرتهم بالخروج إلى الجهاد ليخرجن قل لهم: لا تقسموا فالخروج إلى الجهاد طاعة معروفة من الدين - و هو واجب لا حاجة إلى إيجابه بيمين مغلظ - و إن تكونوا تقسمون لأجل أن ترضوا الله و رسوله بذلك فالله خبير بما تعملون لا يغره إغلاظكم في الإيمان.

و قيل: المراد بالخروج خروجهم من ديارهم و أموالهم لو حكم الرسول بذلك، و قوله: «طاعة معروفة» مبتدأ لخبر محذوف، و التقدير: طاعة معروفة للنبي خير من إقسامكم، و معنى الآية: و أقسموا بالله بأغلظ الأيمان لئن أمرتهم و حكمت عليهم في منازعاتهم بالخروج من ديارهم و أموالهم ليخرجن منها قل لهم: لا تقسموا لأن طاعة حسنة منكم للنبي خير من إقسامكم بالله و الله خبير بما تعملون.

و فيه أن هذا المعنى و إن كان يؤكد اتصال الآية بما قبلها بخلاف المعنى السابق لكنه لا يلائم التصريح السابق بردهم الدعوة إلى الله و رسوله ليحكم بينهم لأنهم إذ كانوا

تولوا و أعرضوا عن حكم الله و رسوله لم يكن يسعهم أن يقسموا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لئن أمرهم في حكمه بالخروج من ديارهم و أموالهم ليخرجن و هو ظاهر، اللهم إلا أن يكون المقسمون فريقا آخر منهم غير الرادين للدعوة المعرضين عن الحكم، و حينئذ كان حمل «ليخرجن» على هذا المعنى لا دليل يدل عليه.

قوله تعالى: «قل أطيعوا الله و أطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل و عليكم ما حملتم» إلى آخر الآية، أمر بطاعة الله فيما أنزل من الدين، و أمر بطاعة الرسول فيما يأتيهم به من ربهم و يأمرهم به في أمر دينهم و دنياهم، و تصدير الكلام بقوله: «قل» إشارة إلى أن الطاعة جميعا لله، و قد أكده بقوله: «و أطيعوا الرسول» دون أن يقول: و أطيعوني لأن طاعة الرسول بما هو طاعة الرسول طاعة المرسل، و بذلك تتم الحجة.

و لذلك عقب الكلام: أولا بقوله: «فإن تولوا فإنما عليه ما حمل و عليكم ما حملتم» أي فإن تتولوا و تعرضوا عن طاعة الرسول لم يضر ذلك الرسول فإنما عليه ما حمل من التكليف و لا يمسكم منه شيء و عليكم ما حملتم من التكليف و لا يمسه منه شيء فإن الطاعة جميعا لله سبحانه.

و ثانيا بقوله: «و إن تطيعوه تهتدوا» أي و إن كان لكل منكم و منه ما حمل لكن إن تطيعوا الرسول تهتدوا لأن ما يجيء به إليكم و ما يأمركم به من الله و بأمره و الطاعة لله و فيه الهداية.

و ثالثا بقوله و ما على الرسول إلا البلاغ المبين و هو بمنزلة التعليل لما تقدمه أي إن ما حمله الرسول من التكليف هو التبليغ فحسب فلا بأس عليه إن خالفتم ما بلغ و إذ كان رسولا لم يحتمل إلا التبليغ فطاعته طاعة من أرسله و في طاعة من أرسله و هو الله سبحانه اهتداؤكم.

قوله تعالى وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم إلى آخر الآية.

ظاهر وقوع الآية موقعها أنها نزلت في ذيل الآيات السابقة من السورة و هي مدنية و لم تنزل بمكة قبل الهجرة على ما يؤيد سياقها و خاصة ذيلها.

فالآية على هذا وعد جميل للذين آمنوا و عملوا الصالحات أن الله تعالى سيجعل لهم مجتمعا صالحا يخص بهم فيستخلفهم في الأرض و يمكن لهم دينهم و يبدلهم من بعد خوفهم أمنا لا يخافون كيد منافق و لا صد كافر يعبدونه لا يشركون به شيئا.

فقوله وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات من فيه تبعيضية لا بيانية و الخطاب لعامة المسلمين و فيهم المنافق و المؤمن و في المؤمنين منهم من يعمل الصالحات و من لا يعمل الصالحات و الوعد خاص بالذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات محضا.

و قوله ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم إن كان المراد بالاستخلاف إعطاء الخلافة الإلهية كما ورد في آدم و داود و سليمان (عليهما السلام) قال تعالى إني جاعل في الأرض خليفة: البقرة - 30 و قال يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض: ص - 26 و قال و ورث سليمان داود: النمل - 16 فالمراد بالذين من قبلهم خلفاء الله من أنبيائه و أوليائه و لا يخلو من بعد كما سيأتي.

و إن كان المراد به إيراث الأرض و تسليط قوم عليها بعد قوم كما قال إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتقين: الأعراف - 128 و قال إن الأرض يرثها عبادي الصالحون: الأنبياء - 105 فالمراد بالذين من قبلهم المؤمنون من أمم الأنبياء الماضين الذين أهلك الله الكافرين و الفاسقين منهم و نجى الخلص من مؤمنيهم كقوم نوح و هود و صالح و شعيب كما أخبر عن جمعهم في قوله تعالى و قال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين و لنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي و خاف وعيد: إبراهيم - 14 فهؤلاء الذين أخلصوا لله فنجاهم فعقدوا مجتمعا صالحا و عاشوا فيه حتى طال عليهم الأمد فقست قلوبهم.

و أما قول من قال إن المراد بالذين استخلفوا من قبلهم بنو إسرائيل لما أهلك الله فرعون و جنوده فأورثهم أرض مصر و الشام و مكنهم فيها كما قال تعالى فيهم

و نريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض و نجعلهم أئمة و نجعلهم الوارثين و نمكن لهم في الأرض: القصص - 6.

ففيه أن المجتمع الإسرائيلي المنعقد بعد نجاتهم من فرعون و جنوده لم يصف من الكفر و النفاق و الفسق و لم يخلص للذين آمنوا و عملوا الصالحات و لا حينا على ما ينص عليه القرآن الكريم في آيات كثيرة و لا وجه لتشبيه استخلاف الذين آمنوا و عملوا الصالحات باستخلافهم و فيهم الكافر و المنافق و الطالح و الصالح.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي