الميزان في تفسير القرآن

سورة الحج

38 - 57

تابع
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ (41) وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (54) وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (57)

و قيل: المراد أن يوما لهم و هم معذبون عند ربهم يعدل في الشدة ألف سنة يعذبون فيها من الدنيا.

و المعنيان لا يلائمان صدر الآية و لا الآية التالية كما هو ظاهر.

قوله تعالى: «و كأين من قرية أمليت لها و هي ظالمة ثم أخذتها و إلي المصير» الآية - كما مر - متممة لقوله: «و إن يوما عند ربك كألف سنة» بمنزلة الشاهد على صدق المدعى، و المعنى: قليل الزمان و كثيره عند ربك سواء و قد أملى لكثير من القرى الظالمة و أمهلها ثم أخذها بعد مهل.

و قوله: «و إلي المصير» بيان لوجه عدم تعجيله العذاب لأنه لما كان مصير كل شيء إليه فلا يخاف الفوت حتى يأخذ الظالمين بعجل.

و قد ظهر بما مر أن الآية ليست تكرارا لقوله سابقا: «فكأين من قرية» إلخ، فلكل من الآيتين مفادها.

و في الآية التفات من الغيبة إلى التكلم وحده لأن الكلام فيها في صفة من صفاته تعالى و هو الحلم و المطلوب بيان أن الله سبحانه هو خصمهم بنفسه إذ خاصموا نبيه.

قوله تعالى: «قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين - إلى قوله - أصحاب الجحيم» أمر بإعلام الرسالة بالإنذار و بيان ما للإيمان به و العمل الصالح من الأجر الجميل و هو المغفرة بالإيمان و الرزق الكريم و هو الجنة بما فيها من النعيم، بالعمل الصالح، و ما للكفر و الجحود من التبعة السيئة و هي صحابة الجحيم من غير مفارقة.

و قوله: «سعوا في آياتنا معاجزين» السعي الإسراع في المشي و هو كناية عن بذل الجهد في أمر آيات الله لإبطالها و إطفاء نورها بمعاجزة، الله و التعبير بلفظ المتكلم مع الغير رجوع في الحقيقة إلى السياق السابق بعد إيفاء الالتفات في الآية السابقة أعني قوله: «أمليت لها» إلخ.

قوله تعالى: «و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته» إلخ، التمني تقدير الإنسان وجود ما يحبه سواء كان ممكنا أو ممتنعا كتمني الفقير أن يكون غنيا و من لا ولد له أن يكون ذا ولد، و تمني الإنسان أن يكون له بقاء لا فناء معه و أن يكون له جناحان يطير بهما، و يسمى صورته الخيالية التي يلتذ بها أمنية، و الأصل في معناه المني بالفتح فالسكون بمعنى التقدير، و قيل: ربما جاء بمعنى القراءة و التلاوة يقال: تمنيت الكتاب أي قرأته.

و الإلقاء في الأمنية المداخلة فيها بما يخرجها عن صرافتها و يفسد أمرها.

و معنى الآية على أول المعنيين و هو كون التمني هو تمني القلب: و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي إلا إذا تمنى و قدر بعض ما يتمناه من توافق الأسباب على تقدم دينه و إقبال الناس عليه و إيمانهم به ألقى الشيطان في أمنيته و داخل فيها بوسوسة الناس و تهييج الظالمين و إغراء المفسدين فأفسد الأمر على ذلك الرسول أو النبي و أبطل سعيه فينسخ الله و يزيل ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته بإنجاح سعي الرسول أو النبي و إظهار الحق و الله عليم حكيم.

و المعنى: على ثاني المعنيين و هو كون التمني بمعنى القراءة و التلاوة: و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي إلا إذا تلا و قرأ آيات الله ألقى الشيطان شبها مضلة على الناس بالوسوسة ليجادلوه بها و يفسدوا على المؤمنين إيمانهم فيبطل الله ما يلقيه الشيطان من الشبه و يذهب به بتوفيق النبي لرده أو بإنزال ما يرده.

و في الآية دلالة واضحة على اختلاف معنى النبوة و الرسالة لا بنحو العموم و الخصوص مطلقا كما اشتهر بينهم أن الرسول هو من بعث و أمر بالتبليغ و النبي من بعث سواء أمر بالتبليغ أم، لا إذ لو كان كذلك لكان من الواجب أن يراد بقوله في الآية: «و لا نبي» غير الرسول أعني من لم يؤمر بالتبليغ، و ينافيه قوله: «و ما أرسلنا».

و قد قدمنا في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب ما يدل من روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن الرسول هو من ينزل عليه الملك بالوحي فيراه و يكلمه و النبي هو من يرى المنام و يوحى إليه فيه، و قد استفدناه مضمون هذه الروايات من قوله تعالى: «قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا:» إسراء: 95 في الجزء الثالث عشر من الكتاب.

و أما سائر ما قيل في الفرق بين الرسالة و النبوة كقول من قال: إن الرسول من بعث بشرع جديد و النبي أعم منه و ممن جاء مقررا لشرع سابق ففيه أنا قد أثبتنا في مباحث النبوة أن الشرائع الإلهية لا تزيد على خمسة و هي شرائع نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد صرح القرآن على رسالة جمع كثير منهم غير هؤلاء.

على أن هذا القول لا دليل له.

و قول من قال: إن الرسول من كان له كتاب و النبي بخلافه و قول من قال: إن الرسول من له كتاب و نسخ في الجملة و النبي بخلافه، و يرد على القولين نظير ما ورد على القول الأول.

و في قوله: «فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته» التفات من التكلم بالغير إلى الغيبة، و الوجه فيه العناية بذكر لفظ الجلالة و إسناد النسخ و الإحكام إلى من لا يقوم له شيء، و لذلك بعينه أعاد لفظ الجلالة ثانيا مع أنه من وضع الظاهر موضع المضمر و منه أيضا إعادة لفظ الشيطان ثانيا دون ضميره ليشار إلى أن الملقي هو الشيطان الذي لا يعبأ به و بكيده في قباله تعالى، و كان الظاهر أن يقال: فينسخ ما يلقيه ثم يحكم آياته.

قوله تعالى: «ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض و القاسية قلوبهم» إلخ، مرض القلب عدم استقامة حاله في التعقل بأن لا يذعن بما من شأنه أن يذعن به من الحق و هو الشك و الارتياب، و قساوة القلب صلابته و غلظه مأخوذ من الحجر القاسي أي الصلب.

و صلابته بطلان عواطفه الرقيقة المعينة في إدراك المعاني الحقة كالخشوع و الرحمة و التواضع و المحبة فالقلب المريض سريع التصور للحق بطيء الإذعان به، و القلب القسي بطيئهما معا، و كلاهما سريع القبول للوساوس الشيطانية.

و الإلقاءات الشيطانية التي تفسد الأمور على الحق و أهله و تبطل مساعي الرسل و الأنبياء دون أن تؤثر أثرها و إن كانت مستندة إلى الشيطان نفسه لكنها كسائر الآثار لما كانت واقعة في ملكه تعالى، و لا يقع أثر من مؤثر أو فعل من فاعل إلا بإذنه، و لا يقع شيء بإذنه إلا استند إليه استنادا ما بمقدار الإذن، و لا يستند إليه إلا ما فيه خير لا يخلو من مصلحة و غاية.

لذا ذكر سبحانه في هذه الآية أن لهذه الإلقاءات الشيطانية مصلحة و هي أنها محنة يمتحن بها الناس عامة و الامتحان من النواميس الإلهية العامة الجارية في العالم الإنساني و يتوقف عليه تلبس السعيد بسعادته و الشقي بشقائه، و فتنة يفتتن بها الذين في قلوبهم مرض و القاسية قلوبهم خاصة فإن تلبس الأشقياء بكمال شقائهم من التربية الإلهية المقصودة في نظام الخلقة، قال تعالى: «كلا نمد هؤلاء و هؤلاء من عطاء ربك و ما كان عطاء ربك محظورا:» إسراء: 20.

و هذا معنى قوله: «ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض و القاسية قلوبهم» فاللام في «ليجعل» للتعليل يعلل بها إلقاء الشيطان في أمنية الرسول و النبي أي يفعل الشيطان كذا ليفعل الله كذا و معناه أنه مسخر لله سبحانه لغرض امتحان العباد و فتنة أهل الشك و الجحود و غرورهم.

و قد تبين أن المراد بالفتنة الابتلاء و الامتحان الذي ينتج الغرور و الضلال و بالذين في قلوبهم مرض أهل الشك من الكفار و بالقاسية قلوبهم أهل الجحود و العناد منهم.

و قوله: «و إن الظالمين لفي شقاق بعيد» الشقاق و المشاقة المباينة و المخالفة و توصيفه بالبعد توصيف له بحال موصوفه، و المعنى: و إن الظالمين - و هم أهل الجحود على ما يعطيه السياق أو هم و أهل الشك جميعا - لفي مباينة و مخالفة بعيد صاحبها من الحق و أهله.

قوله تعالى: «و ليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم» إلخ، المتبادر من السياق أنه عطف على قوله: «ليجعل» و تعليل لقوله: «فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته» و الضمير في «أنه» على هذا لما يتمناه الرسول و النبي المفهوم من قوله «إذا تمنى» إلخ، و لا دليل على إرجاعه إلى القرآن.

و المعنى: فينسخ الله ما يلقيه الشيطان ثم يحكم آياته ليعلم الذين أوتوا العلم بسبب ذاك النسخ و الأحكام أن ما تمناه الرسول أو النبي هو الحق من ربك لبطلان ما يلقيه الشيطان فيؤمنوا به فتخبت أي تلين و تخشع له قلوبهم.

و يمكن أن يكون قوله «و ليعلم» معطوفا على محذوف و مجموع المعطوف و المعطوف عليه تعليلا لما بينه في الآية السابقة من جعله تعالى هذا الإلقاء فتنة للذين في قلوبهم مرض و القاسية قلوبهم.

و المعنى: إنما بينا هذه الحقيقة لغاية كذا و كذا و ليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك «إلخ» على حد قوله: «و تلك الأيام نداولها بين الناس و ليعلم الله الذين آمنوا:» آل عمران: 140، و هو كثير الورود في القرآن.

و قوله: «إن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم» في مقام التعليل لكون علم الذين أوتوا العلم غاية مترتبة على فعله تعالى فيفيد أنه تعالى إنما فعل ما فعل ليعلموا أن الأمر حق لأنه هاد يريد أن يهديهم فيهديهم بهذا التعليم إلى صراط مستقيم.

قوله تعالى: «و لا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم» إلخ الآية - كما ترى - تخبر عن حرمان هؤلاء الذين كفروا من الإيمان مدى حياتهم فليس المراد بهم مطلق الكفار لقبول بعضهم الإيمان بعد الكفر فالمراد به عدة من صناديد قريش الذين لم يوفقوا للإيمان ما عاشوا كما في قوله: «إن الذين كفروا سواء عليهم ء أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون:» البقرة: 6.

و عقم اليوم كونه بحيث لا يخلف يوما بعده و هو يوم الهلاك أو يوم القيامة، و المراد به في الآية على ما يعطيه سياق الآية الثالثة يوم القيامة.

و المعنى و يستمر الذين كفروا في شك من القرآن حتى يأتيهم يوم القيامة أو يأتيهم عذاب يوم القيامة و هو يوم يأتي بغتة لا يمهلهم حتى يحتالوا له بشيء و لا يخلف بعده يوما حتى يقضى فيه ما فات قبله.

و إنما ردد بين يوم القيامة و بين عذابه لأنهم يعترفون عند مشاهدة كل منهما بالحق و يطيح عنهم الريب و المرية قال تعالى: «قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن و صدق المرسلون:» يس: 52، و قال: «و يوم يعرض الذين كفروا على النار أ ليس هذا بالحق قالوا بلى و ربنا:» الأحقاف: 34.

و قد ظهر بما تقدم أن تقييد اليوم تارة بكونه بغتة و تارة بالعقم للدلالة على كونه بحيث لا ينفع معها حيلة و لا يقع بعدها تدارك لما فات قبله.

قوله تعالى: «الملك يومئذ لله يحكم بينهم» - إلى قوله - عذاب مهين» قد تقدم مرارا أن المراد بكون الملك يومئذ لله ظهور كون الملك له تعالى لأن الملك له دائما و كذا ما ورد من نظائره من أوصاف يوم القيامة في القرآن ككون الأمر يومئذ لله و كون القوة يومئذ لله و هكذا.

و لسنا نعني به أن المراد بالملك مثلا في الآية ظهور الملك مجازا بل نعني به أن الملك قسمان ملك حقيقي حق و ملك مجازي صوري و للأشياء ملك مجازي صوري ملكها الله ذلك و له تعالى مع ذلك الملك الحق بحقيقة معناه حتى إذا كان يوم القيامة ارتفع كل ملك صوري عن الشيء المتلبس به و لم يبق من الملك إلا حقيقته و هو لله وحده فمن خاصة يوم القيامة أن الملك يومئذ لله و على هذا القياس.

و قوله: «يحكم بينهم» أي و لا حاكم غيره لأن الحكم من فروع الملك فإذا لم يكن يومئذ لأحد نصيب في الملك لم يكن له نصيب في الحكم.

و قوله: «فالذين آمنوا و عملوا الصالحات في جنات النعيم و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا - و هؤلاء المعاندون المستكبرون - فأولئك لهم عذاب مهين» بيان لحكمه تعالى.

بحث روائي

في المجمع، روي عن الباقر (عليه السلام) أنه قال: لم يؤمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقتال و لا أذن له فيه حتى نزل جبرئيل بهذه الآية: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا» و قلده سيفا.

و فيه،: كان المشركون يؤذون المسلمين. لا يزال يجيء مشجوج و مضروب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و يشكون ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيقول لهم: اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر فأنزل الله عليه هذه الآية بالمدينة. و هي أول آية نزلت في القتال.

أقول: و روى في الدر المنثور، عن جم غفير من أرباب الجوامع، عن ابن عباس و غيره: أنها أول آية نزلت في القتال.

و ما اشتمل عليه بعض هذه الروايات أنها نزلت في المهاجرين من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة إن صحت الرواية فهو اجتهاد من الراوي لما مر أن الآية مطلقة و أنه لا يعقل توجيه حكم القتال إلى أشخاص من الأمة بأعيانهم و هو حكم عام.

و نظير الكلام جار في قوله تعالى: «الذين إن مكناهم في الأرض» إلخ بل و في قوله: «الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق» إلخ على ما تقدم في البيان.

و فيه،: في قوله تعالى: «الذين أخرجوا من ديارهم» و قال أبو جعفر (عليه السلام): نزلت في المهاجرين و جرت في آل محمد الذين أخرجوا من ديارهم و أخيفوا.

أقول: و على ذلك يحمل ما في المناقب، عنه (عليه السلام): في الآية: نحن. نزلت فينا و في روضة الكافي عنه (عليه السلام): جرت في الحسين (عليه السلام).

و كذا ما في المجمع،: في قوله تعالى: «و أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر» عنه (عليه السلام): نحن هم.

و كذا ما في الكافي، و المعاني، و كمال الدين، عن الصادق و الكاظم (عليهما السلام): في قوله تعالى: «و بئر معطلة و قصر مشيد» قالا: البئر المعطلة الإمام الصامت و القصر المشيد الإمام الناطق.

و في الدر المنثور، أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول و أبو نصر السجزي في الإبانة و البيهقي في شعب الإيمان و الديلمي في مسند الفردوس عن عبد الله بن جراد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ليس الأعمى من يعمى بصره و لكن الأعمى من تعمى بصيرته.

و في الكافي، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): في حديث النبي الذي يرى في منامه و يسمع الصوت و لا يعاين الملك، و الرسول الذي يسمع الصوت و يرى في المنام و يعاين الملك.

أقول: و في هذا المعنى روايات أخرى.

و المراد بمعاينة الملك على ما في غيره من الروايات نزول الملك عليه و ظهوره له و تكليمه بالوحي، و قد تقدم بعض هذه الروايات في أبحاث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب.

و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال: قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة النجم فلما بلغ هذا الموضع «أ فرأيتم اللات و العزى و مناة الثالثة الأخرى» ألقى الشيطان على لسانه «تلك الغرانيق العلى و إن شفاعتهن لترتجى» قالوا: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم فسجد و سجدوا. ثم جاء جبريل بعد ذلك قال: أعرض علي ما جئتك به فلما بلغ «تلك الغرانيق العلى و إن شفاعتهن لترتجى» قال جبريل لم آتك بهذا. هذا من الشيطان فأنزل الله «و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي». الآية.

أقول: الرواية مروية بطرق عديدة عن ابن عباس و جمع من التابعين و قد صححها جماعة منهم الحافظ ابن حجر.

لكن الأدلة القطعية على عصمته (صلى الله عليه وآله وسلم) تكذب متنها و إن فرضت صحة سندها فمن الواجب تنزيه ساحته المقدسة عن مثل هذه الخطيئة مضافا إلى أن الرواية تنسب إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) أشنع الجهل و أقبحه فقد تلى «تلك الغرانيق العلى و إن شفاعتهن لترتجى» و جهل أنه ليس من كلام الله و لا نزل به جبريل، و جهل أنه كفر صريح يوجب الارتداد و دام على جهة حتى سجد و سجدوا في آخر السورة و لم يتنبه ثم دام على جهله حتى نزل عليه جبريل و أمره أن يعرض عليه السورة فقرأها عليه و أعاد الجملتين و هو مصر على جهله حتى أنكره عليه جبريل ثم أنزل عليه آية تثبت نظير هذا الجهل الشنيع و الخطيئة الفضيحة لجميع الأنبياء و المرسلين و هي قوله: «و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته».

و بذلك يظهر بطلان ما ربما يعتذر دفاعا عن الحديث بأن ذلك كان سبقا من لسان دفعه بتصرف من الشيطان سهوا منه (عليه السلام) و غلطا من غير تفطن.

فلا متن الحديث على ما فيه من تفصيل الواقعة ينطبق على هذه المعذرة، و لا دليل العصمة يجوز مثل هذا السهو و الغلط.

على أنه لو جاز مثل هذا التصرف من الشيطان في لسانه (صلى الله عليه وآله وسلم) بإلقاء آية أو آيتين في القرآن الكريم لارتفع الأمن عن الكلام الإلهي فكان من الجائز حينئذ أن يكون بعض الآيات القرآنية من إلقاء الشيطان ثم يلقي نفس هذه الآية «و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي» الآية فيضعه في لسان النبي و ذكره فيحسبها من كلام الله الذي نزل به جبريل كما حسب حديث الغرانيق كذلك فيكشف بهذا عن بعض ما ألقاه و هو حديث الغرانيق سترا على سائر ما ألقاه.

أو يكون حديث الغرانيق من الكلام الله، و آية «و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي» إلخ، و جميع ما ينافي الوثنية من كلام الشيطان و يستر بما ألقاه من الآية و أبطل من حديث الغرانيق على كثير من إلقاءاته في خلال الآيات القرآنية، و بذلك يرتفع الاعتماد و الوثوق بكتاب الله من كل جهة و تلغو الرسالة و الدعوة النبوية بالكلية جلت ساحة الحق من ذلك.

العودة إلى القائمة

التالي